23 ديسمبر . 10 دقائق قراءة . 3380
لعل الكثير من الناس يعتقدون أن العصر الجاهلي هو العصر الذي سبق الإسلام بالمطلَق، من دون تحديد الفترة الزمنية لهذا العصر، التي سبقت الإسلام بالفعل. ولكن المتخصصين والباحثين في تاريخ الأدب العربي وتحديداً الادب في العصر الجاهلي، يدركون تمامًا أن هذه الحقبة ليست موغلة في القِدم؛ يقول الجاحظ: "أما الشعر العربي؛ فحديث الميلاد صغير السن، وأول مَن نهَج سبيله وسهّل الطريق إليه امرؤ القيس ومهلهل بن ربيعة.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له -إلى أن جاء الله بالإسلام- خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام". من هنا، يمكن الوقوف بالعصر الجاهلي عند هذه الفترة المحدودة بمائة وخمسين عامًا قبل الإسلام، وما وراء ذلك يُسمّى بالجاهلية الأولى، وهو يخرج عن هذا العصر الذي ورثنا عنه الادب في العصر الجاهلي واللغة الجاهلية.
بناء على ذلك؛ فالشعر الجاهلي هو الشعر العربي الذي وُجِد في العصر الجاهلي، أي في تلك الفترة المحدودة بمائة وخمسين عامًا إلى مئتي عامٍ قبل ظهور الإسلام. ولعل الادب العربي ينبع من الادب في العصر الجاهلي، بل ويصب فيه أحيانًا أيضًا، وهو قد تطور كما تتطور الكائنات، وكانت طفولته الأولى مع الادب في العصر الجاهلي الذي هو ثمرة من الثمار الناضجة.
وفي هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل، الذي هو نقيض العلم. بل هي مشتقة من الجهل الذي يعني الطيش والغضب، وهي من منظور واضع المصطلح على عكس الإسلام الذي يعني الطاعة والخضوع لله والتسليم له.
لعلنا في هذا المقال، سنستعرض لمحة سريعة عن الادب الجاهلي، محاولين الإضاءة على الشعر الجاهلي وأهميته في الدلالة على أهم المشاعر الروحية والقيم والأخلاق، مبينين سبب استعصاء مفرداته على فهم العربي المعاصر، كما سنتحدث بإيجاز عن أهم وأشهر شعراء العصر الجاهلي، الذين ما زالت أبياتهم خالدة حتى اليوم، وتتردد على كل لسان.
كل شعر وأدب هو مرآة عصره، وهو يعبر عن خصائصه ومميزاته، ويعكس أهم صفاته وأحداثه التي يحاول الشاعر إيصالها إلينا عبر القصيدة. ولعل العصر الجاهلي يتميز بالكثير من الصفات الأخلاقية ويكرّسها. من هنا، شكّل الشعر الجاهلي بصمة خاصة للعصر الجاهلي؛ فكان تعبيرًا صادقًا عن ذلك العصر، وخيرَ دليل على أهم عاداته وأخلاقه وأحداثه؛ فكيف تجلت أهمية الادب الجاهلي في الدلالة على ذلك؟
لعل أول صورة تراودنا عن الشاعر الجاهلي، هي صورة ذلك العاشق المختلف؛ فهو فارس شجاع قوي، لكنه يستمد القوة من حبيبته حتى في أصعب الظروف وأقسى المواقف؛ فها هو عنترة يتذكر عبلة وهو يواجه الموت، ولعله أخطر موقف من الممكن أن يمر به شخص؛ فيقول:
ولقد ذكرتُكِ والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعَتْ كبارق ثغرك المتبسّمِ
هذا وقد وقف الشعراء طويلًا يصورون حبهم للمرأة ويذرفون دموعهم على تمنّعها، مثلما فعل بِشر بن أبي خازم:
فظللتُ من فرط الصبابة والهوى طَرِفًا فؤادُك مثل فعل الأيهمِ
يبدو مشهد البطولة في الشعر الجاهلي مشهدًا ملحميًّا بامتياز؛ فالشاعر الجاهلي ذو شجاعة وجرأة لا يهاب مقارعة أقوى الفرسان، وهو بارع في تصوير خصمه المدجج الذي لا يجرؤ أحَد على نِزاله، لكنه يقضي عليه بطعنة واحدة، كما فعل عنترة حين عبّر عن بطولته الفريدة وقضى على خصمه ببساطة متناهية:
ومُدجَّجٍ كرِهَ الكُماةُ نِزالَه لا ممعنٍ هرَبًا ولا مستسلمِ
جادَتْ يَدايَ له بعاجِل طعنةٍ بِمثقَّفٍ، صَدْقِ الكُعوبِ، مُقَوَّمِ
تصفح أيضًا
التفكير خارج الصندوق، 11 طريقة لتحقيق ذلك.
سبب استعصاء مفردات الشعر الجاهلي على فهم العربي المعاصر
تتميز مفردات الشعر الجاهلي بحركتها ومرونتها، إنها تعبر عن حياة الجاهلي التي لا تعرف الاستقرار، يحكمها السير في مناكب طلب الرزق والكلأ... وعلى الرغم من أن الشعر الجاهلي خالٍ من الأخطاء وخالٍ من الألفاظ الأعجمية، إلا أن الكثير من مفرداته مستعصية على فهم العربي المعاصر، وذلك عائد إلى أسباب عديدة لا يسع البحثَ التفصيلُ فيها، لكن أهم سبب لذلك هو تغيّر دلالات الألفاظ عبر العصور، وعدم جرَيان البعض من هذه المفردات على الألسنة اليوم؛ فقد كانت لغة الشعر الجاهلي مبنيةً على مصطلحات ومواصفات مألوفة بينهم، إلا أنها لم تعد مألوفة اليوم. ومن المعاني التي كانت تُستعمَل في العصر الجاهلي، وبات معظمها مهجورًا:
أجم: أي البيت المربّع والمسطّح.
عسال: أي مضطرب في مشيته.
أرماء: مفردها رمى، وتعنى السحابة الكبيرة.
الشمطاء: مَن يخالِط بياضَها السواد.
أسدام: أي المياه المتدفقة.
يحفل العصر الجاهلي بالكثير من أسماء الشعراء الذين لمعت أسماؤهم، وبقيت أبياتهم تُردَّد على الألسنة حتى اليوم. وأهم هؤلاء الشعراء:
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي. أشهر شعراء العرب على الإطلاق، اشتهر بلقبه، واختلف المؤرخون في اسمه؛ فقيل حندج وقيل مليكة وقيل عُدي. كان أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه أُخت المهلهل الشاعر...
في هذا المقال، لا يمكننا حصر كل ما قاله امرؤ القيس من أبيات، ولعل أهم ما قاله ذلك البيت الشهير الذي ابتدأ به معلّقته، وهو يقول فيه:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسِقْط اللّوى بين الدخول فحَومَلِ
وفي هذا البيت وقف امرؤ القيس باكيًا؛ فأبكى مَن حوله وهو يتذكر الحبيب والمنزل...
ولا يمكن لأحد أن ينكر القيمة التي يملكها امرؤ القيس؛ إذ نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث في بكاء الديار والأطلال. ولعله سُبق بذلك، لكنه هو الذي أعطى النسق النهائي لهذه الموضوعات...
هو زياد بن معاوية بن ضِباب بن جناب بن يَربوع، ذبياني الأب والأم. كان يُلقَّب بالنابغة، وبهذا اللقب اشتهر، وأغلب الظن أنه لُقِّب بذلك لنبوغه في شعره وتفوّقه فيه. ولعل أكثر الفنون التي تفوّق النابغة فيها هي فنون المديح والاعتذار.
وخير مدائحه تلك القصيدة البائية التي مدح فيها الغساسنة؛ إذ يصوّرهم فيها بالشجاعة في ميادين الحروب، كما يصوّرهم في سِلمهم متحدثًا عن شيَمهم وشمائلهم ودينهم ونعيمهم، ويصفهم بالجود ورجاحة الأحلام والعقول، قائلًا:
لهم شيمةٌ لم يُعطِها الله غيرهم من الجود، والأحلام غير عوازب
أما في فن الاعتذار؛ فنراه يتفوق تفوقًا ظاهرًا، ومن بديع اعتذاراه قصيدته العينيّة التي يحاول فيها استعطاف النعمان بن المنذر، قائلًا:
وعيدُ أبي قابوس في غير كنهه أتاني ودوني راكسٌ فالضواجع
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلة من الرقْش في أنيابها السم ناقع
وهو هنا يقول له: إن وعيدك أتاني وأنا آمن في قومي، وبيني وبينك منازل بَني أسد ومَن وراءهم؛ فألمتُ حفظًا للعهد وبتُّ مُسهَدًا، كأنما لدغتني أفعى.
لعله أبرز فارس احتفظت به ذاكرة العرب عبر الأجيال، إلى يومنا الحاضر. هو عمرو بن شداد العبسي. كان أبوه من أشراف عبس، أما أمه فكانت حبشية يُقال لها زبيبة، وقد ورِث عنها سواده وتشقق شفتيه. لم يعترف به والده إلا بعد أن أظهر بسالة وشجاعة في حروب داحس والغبراء، وقد لازمه هذا الجرح طوال حياته؛ فكان يقول:
إني امرؤٌ من خير عبس منصبًا شطري، وأحمى سائري بالمُنصُل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت أُلفيتُ خيرًا من مُعمٍّ مُخوَّل
إنه يحاول أن يثبت شرف نسبه؛ فشطره الأول عائد إلى أصله الأبوي. فيما شطره الثاني يعود إلى جهة أمه؛ فتنوب عنه شجاعته واقتحامه للحروب، حتى غدا في قومه خيرًا ممَّن عمُّه وخاله من سادتهم.
تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد. أشهر شواعر العرب. عاشت أكثر عمرها في العهد الجاهلي وأدركت الإسلام؛ فأسلمت.
أكثر شعرها وأجوَده رثاؤها لأخوَيها (صخر ومعاوية)، وكانا قد قُتِلا في الجاهلية؛ فهي تقول في رثاء أخيها:
تبكي خناس على صخر وحقَّ لها إذ رابها الدهر، إن الدهر ضرّار
ولعل أبرز بيت قالته الخنساء في أخيها صخر:
إن صخرًا لتأتمّ الهُداة به كأنه علم في رأسه نار
وقد بات هذا البيت يُضرَب به المثل فيمَن كان شهيرًا لامعًا لا تخطئ فيه الناس.
هذه لمحة سريعة عن الادب في العصر الجاهلي والعصر الجاهلي عموماً. والحقيقة أن هذا العصر لا يمكن حصْره في مقال أو عنوان مقتضَب؛ فهو عصر حافل بالقيم والأخلاق، وبأسماء شعراء أسسوا للشعر العربي فيما بعدُ. لذا، آثرْنا أن نتحدّث عن أهم النقاط التي سيتعرّف قارئ المقال من خلالها إلى الشعر الجاهلي وأهميته ومميزاته وأهم روّاده.
الخُلاصة
الشعر الجاهلي هو فرع من الادب في العصر الجاهلي وهو الشعر الذي وُجِد في العصر الجاهلي، أي في الحقبة التي مثّلت مائة وخمسين عامًا إلى مائتي عامٍ قبل ظهور الإسلام. للشعر الجاهلي أهمية كبيرة في التعبير عن المشاعر الوجدانية والقيم والأخلاق العربية الأصيلة، وأبرزها مواقف الحب والشجاعة والبطولة...
رواد الشعر الجاهلي كثُر، وهم مَن وضعوا الأساس للادب العربي، وقد بقيت أسماؤهم خالدة حتى اليوم في أبياتهم التي يرددها الكبير والصغير. وأبرز هؤلاء الشعراء: امرؤ القيس، النابغة الذبياني، وعنترة بن شدّاد، وغيرهم الكثير. ولا ننكر أهمية الشاعرات العربيات في العصر الجاهلي، وعلى رأسهنّ الخنساء التي اشتهرت برثاء أخيها وأبيها في العصر الجاهلي؛ ثم اشتهرت برثاء أبنائها الأربعة في عصر صدر الإسلام.
تصفح أيضًا عبرمرداد
ما هي الأطعمة التي يتجنبها النباتيون والأطعمة التي يأكلونها
بقلم "صفاء محمود الشّيخ" لِفريق "مِرْداد".