قراءة لرواية بحثا عن الزمن المفقود – الجزء السابع – الزمن المستعاد لمارسيل بروست:

04 يوليو  .   3 دقائق قراءة  .    636

 

هنا يصل القارئ للمحطة الأخيرة لرحلة قراءة رواية بحثا عن الزمن المفقود، بشخصياتها المتعددة، وأحداثها التي تعبر الزمن وتستعيد الماضي وجزء من حياة أشخاصه. حقا إنه انجاز حقيقي أن ينتهي القارئ من قراءة الأجزاء السبعة. وسيكتشف أنه سيعيش مع أحداثها وشخصياتها وكاتبها لزمن غير محدد، يكتشف فيه جمال ماقرأ.

 

عن الحرب:

تدور أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى. "إن الحرب لا تفلت من قوانين هيغل العجوز إنها ضرورة مستمرة" 

اعتبر هيغل الحرب ضرورة منطقية في حسم العلاقات بين الدول لكي يتم تجاوز الإرادة الجزئية في فرض سيادة الدولة على الدول الأخرى باعتبارها هي أيضا غايات، وبالتالي فإن الدخول في صراع بينها هو ضرورة ولازمة لكي يتم السلب والرجوع إلى العقل الكلي مما ينتج منه قانون يحكم العالم باسره. وهو هنا متفق مع غروسيوس في إدارة الدول بقانون دولي عام. إلا أن هذا القانون عند هيغل لا ينشأ إلا بالحرب كحالة سلبية تؤدي في النهاية إلى التعين والتحقق الذاتي. 

ويعرض الكاتب جزء مما غيرته الحرب في حياة الناس اليومية. وكيف يتأقلم الناس مع ما يحدث، وكيف يتفاعلون معه. " بحيث أن موت ملايين البشر المجهولين يكاد لا يلامسنا ولا يزعجنا أكثر من مجرى هواء"

تصوير بليغ لطريقة تأثر الناس الذين يعيشون بأمان بما يحدث للناس الآخرين من كوارث." البلهاء في كل البلدان هم الأكثر عددا"

ويصور مظهر من مظاهر بشاعة الحرب:" أعجب بإنكلترا المثالية والتي لا تستطيع أن تكذب عندما قطعت القمح والحليب عن ألمانيا"، يصف جانب من فظائع الحروب: " والثقافة الشائعة الذكر هي أن تقتل نساء وأطفال لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم"

ورغم الحرب فإن حياة البعض لا تتغير، ويسجل دهشته لما يراه عند دخوله مبنى لا يعرف حقيقة ما يحدث فيه، فيسجل لقطات من ممارسات الشخصيات المثلية في الرواية: " إنه حجم حقيقي ظننت أني كالخليفة في ألف ليلة وليلة، وصلت في الوقت المناسب لأجد رجلا يضرب، وإذا بي أمام حكاية أخرى من حكايات ألف ليلة وليلة حكاية المرأة التي مسخت كلبة تضرب بطوعها كي تستعيد شكلها الأول"

" عندما ندرس بعض حقبات التاريخ القديم، نذهل من وجود أشخاص طيبين، إذا أخذوا بمفردهم يساهمون دون أي وازع في مجازر جماعية ومذابح بشرية يرونها على الأرجح كأشياء طبيعية".

 

عن الأدب والكتابة:

خيال جميل وتعبير ساحر عن المشاعر والراوي يصف لنا ذكريات طفولته. ويعرج  للمعاناة الصحية التي تحرمه من الكتابة، ويتساءل: " أتساءل: هل يستطيع الكاتب أن يأمل بنقل متعة إلى القارئ لم يشعر بها؟"

بروست حقا يحير النقاد، فهل روايته سيرة ذاتية، أم عمل أدبي خيالي. ويعلن لنا عن رأيه بكتابه: " في هذا الكتاب الذي لا يوجد فيه إلا شطح خيال، ولا توجد فيه شخصية حقيقية واحدة مهمة، وخلقت فيه أنا كل شيء حسب مقتضيات عرضي ...."

في حيز غير قليل يسهب الكاتب في آراؤه حول الكتابة والفن والنقد الأدبي. فيكتب بإسهاب عن الكاتب والكتابة وخبرة الكاتب. حديث يكشف للقارئ عن معاناة الكاتب واحباطاته والآمه. ويقارن بين الرسام والكاتب: " يحتاج الرسام إلى مشاهدة كنائس عديدة ليرسم واحدة منها، أما الكاتب فيحتاج إلى أكثر من ذلك ليحصل على الحجم والقوام والعمومية والواقع الأدبي، يحتاج إلى أشخاص كثيرين ليحصل على عاطفة واحدة"

يتحدث عن خبرات الكاتب الحياتية التي تشكل مادة كتابته وأعماله الأدبية. عن معاناته الصحية والآم جسده وعزلته. ويعرج إلى دور الألم في إبداع الكاتب واثراء تجاربه. " السنوات الرغيدة هي سنوات ضائعة، إننا ننتظر ألما لنتمكن من العمل".

"وحتى من غير الصحيح أنني أفكر بالذين سيقرأونه، أفكر بقرائي. لانهم لن يكونوا، بحسب رأيي، قرائي، وإنما قراء أنفسهم، فكتابي ما هو إلا نوع من العدسات المكبرة مثل تلك التي يقدمها بائع نظارات كومبريه إلى أحد المشترين، بفضل كتابي سأعطيهم وسيلة لكي يقرأوا أنفسهم".

تشبيهات كثيرة مميزة وعبارات رائعة لوصف دخول الليل أو ظهور الصباح، الطائرات في السماء. وتشبيه حركة الماء بالموسيقى.

حديث طويل عن الأدب ومقارنة بين الأعمال الأدبية ونقدها.

 

ماذا يفعل الزمن؟

يتوقف كثيرا عند ماهية الزمن، وأثره على الناس. شاب الأمس هو شيخ اليوم لكنه لا يحس بذلك. " الناس لا يرون ملامحهم وأعمارهم، ولكن كل واحد ينظر إلى ملامح وأعمار الآخرين، كما في المرايا المتعاكسة" ، يتناول موضوع السن والشيخوخة والزمن من زاوية فلسفية. 

عبر صفحات طويلة يرصد بروست أو الراوي فعل الزمن بالوجوه للشخصيات التي عرفها في شبابه. ويسهب كعادته في توضيح فكرته عن فعل الزمن بالبشر، فالزمن كي يصبح مرئيا يبحث عن الأجسام فيعبث بملامحها، يرخيها، ويمطها، ويضع لطخات داكنة، فيغير ملامحها لنفهم أن ذلك من صنع الزمن الذي لا نشعر بمروره. " وهكذا نرى أن الزمن يمتلك قطارات سريعة وخاصة تنقل بسرعة إلى الشيخوخة المبكرة"، " وكذلك يبدد الزمن الخصومات العائلية".

يصف الراوي كيف تغيرت الأزياء في فرنسا، ويرصد تغير آراء الناس حول عدد من القضايا بتغير الزمن، فما كان منكرا يصبح عاديا، مثل قضية دريفوس الشهيرة. ونرى كيف تغيرت طبقات المجتمع الفرنسي بمرور الزمن، وظهرت أجيال تجهل كل شيء عن عظماء الماضي ومشاهيره. " يكفي جيل واحد ليتم فيه التغيير الذي حصل منذ قرون".

" وبسبب التقدم الحتمي لعلم الجمال الذي انتهى به الأمر إلى التكرار الممل، فإن عائلة الفيردوران كانت تقول إنها لا تطيق الأسلوب الجديد في الفن لأنه يأتي من ميونخ، ولا الشقق المدهونة بالأبيض، ولم تعد تحب إلا الأثاث الفرنسي القديم ذا الديكور القاتم".

ويفهم القارئ سر تسمية العمل ببحثا عن الزمن المفقود (سر عنوان الرواية)، فيعيش القارئ لصفحات مع كلام عميق عن الزمن والاحساس بجمال الأشياء عندما نستعيد ذكراها ونستمتع بتلك اللحظات التي لم نستمتع بها في وقتها: "ذلك أن الجنان الحقيقية هي الجنان التي أضعناها"

وعبر صفحات طويلة يعيش القارئ مع تحليلات الراوي، وتقييم تصرفاته ومشاعره في الماضي وهو ينظر إليه بمنظار جديد: " ولأن الأجساد البشرية تختزن في داخلها ساعات من الماضي، فإنه بإمكانها أن تسبب الكثير من الألم للأشخاص الذين يحبونها، ذلك لأنها تختزن الكثير من الذكريات، ومن الفرح، ومن الرغبات التي أُزيلت من أجله، والتي تبقى قاسية جدا على الشخص الذي يتأمل ويطيل، في نظام الزمن، الجسد الحبيب الذي يغار منه لدرجة أنه يتمنى تدميره".

 

سحر ألف ليلة وليلة:

ويكشف لنا عن عمق حبه وتأثره بكتاب ألف ليلة وليلة: " سيكون كتابا بطول ألف ليلة وليلة ربما، ولكنه مختلف تماما. لا شك أننا عندما نحب عملا ما فإننا نرغب في فعل شيء مشابه له". ويتمنى أن يمهله الموت لينتهي من كتابة كتابه الطويل كما فعل شهريار مع شهرزاد وهي تحكي حكاياتها التي لا تنتهي. " لكن كنت بحاجة إلى ليال كثيرة، مئة ليلة، أو ربما ألف. وسوف أعيش في قلق لأنني لا أعرف إذا ما كان سيد قدري أقل رأفة من السلطان شهريار، وعندما أقطع حكايتي في النهار، أتراه يقبل تأجيل موتي ويسمح لي باستئناف البقية في الأمسية القادمة". 

 

الترجمة:

تغير مترجم الكتاب من الجزء السادس، وعلى غلاف هذا الجزء فقط يظهر اسم المترجم له دون اقترانه باسم المترجم للأجزاء السابقة. ويلاحظ القارئ أن المترجم لم يلتزم بترجمة المترجم السابق، فهو يغير تسميات وضعها المترجم السابق فيتسبب بالإرباك للقارئ. فهو مثلا مصر على تسمية المادلين بالمجدلية دون مراعاة أن القارئ عرفها كذلك في بداية الرواية، وأن مصطلح أو تسمية المجدلية غريب ومزعج ويحتاج القارئ وقت ليستوعب أنها تعني المادلين.

يصف المترجم الجندي ذو الشعر بالجندي الشعراني وهي ترجمة غريبة للفظ الفرنسي Poilu   التي تعني مشعر أو أزغب أو كثير الشعر. 

ملاحظات المترجم في الهوامش غير ذات قيمة بالنسبة لي. ما يهمني عند قراءة الرواية هو أفكار الكاتب ولا أحتاج توضيحات المترجم وتفسيراته وتأويلاته. بل أنه يلعب دور ناقد في بعض ملاحظاته وهذا غير مقبول ولا محمود. وفي صفحة 377 وضع ملاحظة غريبة: "كان على بروست أن يدرج هنا قصة أوديت التي أصبحت عشيقة كوتار، وليس في آخر هذا الجزء من الكتاب". المترجم الذي يكون له آراء تخالف مؤلف الكتاب الذي يقوم بترجمته يمكنه اصدار كتاب خاص به يضع كل آرائه ونقده فيه.

 

  1
  4
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال