27 أبريل . 10 دقائق قراءة . 1072
يدور هذا الجزء من الرواية حول علاقة الراوي بالبرتين تلك الفتاة التي تجذب انتباهه مع صديقاتها على الشاطئ والتي يتمنى أن تهتم به ويتعرف عليها. بعد أن أصبحت ملكا له وتسكن في بيته وهو لا يصدق أنها ملك له وحده، يبدا بسجنها ومراقبتها وتحديد أين تذهب ومن يمكن لها مقابلتهم. وبمرور الأيام تفقد ذلك البريق واللمعان في عينيه، لكنه لا يستطيع التخلي عنها بسبب غيرته الشديدة فهو يخشى أن تنتقل للعيش مع رجال آخرين، فتتحول إلى سجينة في بيته.
وكما الأجزاء السابقة للرواية نجد الراوي ينقلنا من حادث لحادث، من الحب والغيرة لنقاشات المنتديات بروادها المتصنعين المتفاخرين وأحاديث أهل السياسة حيث يصرح أحدهم بأن النساء لا يفقهن شيئا في السياسة. وهناك أحاديث النميمة والغمز واللمز: " فالمنتديات تبدي على الدوام كثيرا من الغيرة من القوم البارزين جدا وتكره الثروات الضخمة".
ويشير الكاتب لتأثره بحكايات الف ليلة وليلة، والربط بين إبداع الموسيقى والرسم والنحت والحكايات والشعر والصلاة ولغة الملائكة ويرى ان الفن بالحقيقة ليس سوى امتداد للحياة. ويعقد مقارنات طويلة بين الموسيقى والأعمال الأدبية فيما يشبه النقد الأدبي.
عذاب الحب والغيرة:
الراوي يحير القارئ فهو يهيم حبا بألبرتين ويتغزل بجمالها، وجمال جسدها، وبعد صفحات يبدأ بوصف الحب بالمرض الذي يصعب الشفاء منه، فهو يشبه الشقيقة الصرعية الشكل.
ويقع في قبضة الحيرة والشك عندما يفكر أن المرأة التي تخون تكذب وتتفنن في الكذب: "إما إشفاقا أو خشية أو تهربا غريزيا في هروب يتوازى وتحرياتنا" فحتى لو أن تحرياته لم تقدم دليل على خيانتها فهو يبرر ذلك بأنها تحتاط.
حيرته وتحرياته عنها وإدمانه التفكير تجعله يتوصل إلى تصنيف تصرفاته بدقه: " ليست الغيرة في الغالب سوى حاجة حائرة إلى الاستبداد مطبقة على أمور العشق"
ويستفيض عبر صفحات طويلة يصف الحزن الذي يجتاحه وهو ينغمس فيه، ويدفعنا للتساؤل هل ما يحس به تجاه ألبرتين هو حب حقيقي، أم مجرد رغبة عابرة وحب امتلاك وغيرة مرضية؟
" فقد كانت تبدو لي كل يوم أقل جمالا. وحدها الشهوة التي تؤججها لدى الآخرين كانت ترتفع بها في نظري إلى سدة عالية حينما كنت أعود فأتألم حين أبلغ الأمر وأعتزم منازعتها إياها. كان بمقدورها أن تسبب لي العذاب وليس الفرح وبالعذاب وحده كان يستمر تعلقي المزعج" ، رغبة كبيرة في أن تكون له وحده وحرمان الآخرين منها. ذلك الحب المرضي، حتى لو توقف عن حبها لكن لن يسمح لأحد بالاقتراب منها.
يصف عبر صفحات طويلة مشاعر الغيرة وعذابها والشك والقلق الذي يحاصره. يشرح باستفاضة مشاعر الذكر الأناني الذي يريد الاستحواذ على امرأة، وتغييرها وتحجيمها، وكيف تتغير مشاعره نحوها بعد أن حولها لامرأة أخرى غير تلك التي هام بها حبا.
" فلسنا نحب إلا ما لا نملكه بكليته".
تحليل للشخصيات:
الكاتب لا يكتفي برسم ملامح الشخصيات وأفعالها، بل يمارس التحليل النفسي من خلال الحديث الداخلي لشخصية الراوي، الذي يطلعنا على أفكاره، فطبيعة الحياة التي فرضتها حالته الصحية عليه، جعلته يجد الوقت الكافي للتفكير وإعادة التفكير في كل تصرف، فيستعيد كل موقف مرارا وتكرارا ويراه من زوايا مختلفة. ويحتاج القارئ أن يتمتع بالصبر. وألا يكون في عجلة من أمره.
وهناك عالم الأحلام والمنامات، فالراوي ولأنه يقضي أحيانا أوقات طويلة نائما فله وقفات مع الأحلام وعالم النوم: " مع أنه يبدو تماما أن الحلم مصنوع أحيانا من مادة الحياة الأكثر بدائية، ولكن هذه المادة تعالج وتعجن إلى حد أنك بالمط الناجم عن أنه ليس يحول حد كمن الحدود الساعية في حال اليقظة دون أن تنسحب حتى ارتفاعات شاهقة، لا تتعرفها"
" لكن ربما كان ثمة عوالم أخرى أكثر حقيقة من عالم اليقظة"
ويستفيض في وصف أثر الفن على النفس والمشاعر والأحاسيس:" فغناء الطائر وصوت بوق الصياد واللحن الذي يعزفه راع على قصبته إنما تحفر في الأفق خطوط إنشادها"
نحن نشبه أهالينا:
وينبهنا الراوي كيف أن المرء يشبه أهله في تصرفاته وأحاديثه، ينتبه لذلك عندما يرد بطريقة معينة ويتوقف عند كلماته كثيرا ويشعر بالغرابة عندما يتضح له أنه يردد كلمات سمعها من ذويه في صغره: " ذلك كان جوابي. وسوف يتعرف المرء ضمن العبارات الشهوانية عبارات أخرى كانت خاصة بأمي وبجدتي. ذلك أني أخذت أشبه شيئا فشيئا ذوي جميعهم، والدي الذي كان يبدي بطريقة تغاير تماما طريقتي دون شك، فإنه إن تكررت الأشياء فإنما بتغيرات كبيرة – أعظم الاهتمام بالطقس السائد".
نحن نتغير كلما كبرنا وتظهر فينا بوضوح تصرفات وطباع الأهل التي كنا نستنكرها وننتقدها:
" فحين نكون جاوزنا سنا معينا تقبل روح الطفل الذي كناه وأرواح الأموات الذين صدرنا عنهم لتلقي إلينا بملء اليدين بثرواتهم وأذيات سحرهم وتطالب بالمساهمة في المشاعر الجديدة التي نحس بها. والتي نعيد صهرها فيها، وقد طمسنا صورتها القديمة، في عملية خلق جديدة"، " ينبغي لنا أن نستقبل، بدءا من ساعة معينة، سائر ذوينا الذين وفدوا من بعيد جدا وتجمعوا حولنا".
" كان وجهها يعبر عن خيبة أمل وكنت أستخدم في لوم صديقتي الأسباب نفسها التي كثيرا ما قوبلت بها من جانب والدي عندما كنت صغيرا وبدت غير ذكية وقاسية في نظر طفولتي غير المقدرة حق قدرها"
نحن إذا نتائج التربية التي تلقيناها في طفولتنا، البعض لا يستطيع تجاوز هذا. ويستمر الراوي في تحليل شخصيته وتفسير تصرفاته التي تذكره بطفولته:
"هذه الأقوال، وليس جزء كبير مما نقول سوى استظهار، كنت سمعتها كلها تنطق بها أمي التي تبلغ بها ذات مرة كنت أبكي فيها، أن تقول لي إن نيرون ربما كان سريع الانفعال ولم يكن لذاك السبب أفضل. والحقيقة، وكما هو حال تلك النباتات التي تتضاعف في نموها، فقد كان الآن، في مقابل الولد الحساس الذي سبق أن كنته فحسب، رجل يناقضه، يفيض حسا سليما وقسوة على حساسية الآخرين المرضية، رجل يشبه ما سبق أن كان ذوي، بالنسبة إلي. وغذ يقع على كل منا أن يجعل حياة ذويه تستمر داخله فإن الرجل الرزين المتهكم الذي لم يكن موجودا داخلي في البداية قد لحق بالرجل الحساس وأضحى من الطبيعي أن أكون بدوري مثلما سبق أن كان ذوي"
عالم الوراثة وانتقال الصفات لا يزال يظهر عبر الصفحات بشكل مختلف:
" أما الشيء المؤكد فإن تلك الظاهرة واقعة على الدوام. إن البشرية مغرقة في القدم. وقد وفرت الوراثة وصنوف التزاوج قوة لا تقهر للعادات السيئة والارتكاسات العابثة. ثمة شخص يعطش ويحشرج لمروره على مقربة من شجرة ورد، وآخر يصيبه طفح من رائحة دهان قريب عهده، ويصاب كثيرون بضروب من القولنج إن انبغى أن يسافروا، ولا يستطيع أحفاد اللصوص وأصحاب ملايين وكرماء حجب النفس عن سلبنا خمسين فرنكا"
سجينة وسجان:
أنه السجن...ونعيش مع مشاعر المحب الذي يسجن نفسه في سجن الشك والغيرة ويسجن من يحب.
" أسيرة تعود كما هو طبيعي تماما برفقتي وكأنها امرأة اتخذتها لي وتغيب، تحميها الجدران، في بيتنا"
"كان يبدو لسوء الحظ أنها داخل سجن"
" ليس من سجن جميل"
نعيش معاناة الراوي الذي يدرك أنه يسجنها ويعذبها لكنه لا يستطيع التوقف عن ذلك. ويحاول أن يبرر للقارئ لماذا يجد البعض متعة في تعذيب وإزعاج الآخرين، فيعيش القارئ معاناة الراوي المتخبط، ضحية طفوله وتربية أثرت عليه سلبيا بشكل كبير. ويذهب الراوي عميقا في التحليل ليذكر سبب الشعور بالغيرة:
" ومثلما لا معرفة إلا وتأتي من الذات، يمكن القول تقريبا إن لا غيرة إلا آتية من الذات. عن الملاحظات قليلة الأهمية، وليس يستطيع المرء استخلاص المعرفة والألم من المتعة التي يحسها بذاته"
" ذلك لأن متعتي بأن تكون البرتين في بيتي بشكل دائم كانت متعة إيجابية تقل كثيرا عن المتعة التي قوامها أن أكون انتزعت من المجتمع، حيث يستطيع كل أن يتذوقها، الفتاة الندية التي كانت على أي حال لا توليني مسرة كبيرة فقد كانت تحرم منها الآخرين"، وهكذا يبرر لنفسه مسألة سجنها ومنعها من ارتياد المنتديات والصالونات.
ولا ننسى أن الراوي طفل وحيد، ومعتل صحيا، لهذا مشاعره أنانية ويحب السيطرة، ويتعلق بكل فتاة جميلة.
أسئلة وجودية:
وتدور الأسئلة الوجودية عن الموت والحياة والجدوى من الأدعية والتلاوات لمن يعلم ان جسده ستأكله الديدان بعد دفنه، وتؤرقه فكرة العيش على هذه الأرض تحت سلطان قوانين مجهولة نذعن لها لأننا كنا نحمل تعاليمها في ذواتنا دون أن نعلم من سبق أن خطها فينا، تلك القوانين التي يقربنا منها أي نشاط عميق للعقل وهي خفية وتخفى على البلهاء.
وهناك الموت الذي يقف الراوي عنه ليحاول فهمه: " إن موت الآخرين شبيه برحلة تقوم بها بذاتك وتتذكر، وقد أصبحت على مئة كيلومتر من باريس، أنك نسيت دزينتي مناديل وإن تترك مفتاحا للطباخة وأن تودع عمك وتسأل عن اسم المدينة التي تضم عين الماء القديمة التي تود مشاهدته"
ولأن هناك شخصيات مثلية في الرواية ظهرت في الأجزاء السابقة فالحديث يمر عنهم: " الميل لدى الرجل إلى مفاتن الرجولة إنما يلقى تعويضه في الذوق الفطري ودراسة وعلم الملبس النسائي. وإن ذلك ليتفق وقوعه أحيانا كما لو أن الجنس الآخر، بعدما أحتكر الرجل كامل الرغبة الجسدية وكامل الحنان العميق لدى أمثال دو شارلوس، قد وهب في المقابل كما لو كان من قبيل الذوق الافلاطوني أو باختصار القول كل ما كان من قبيل الذوق إلى جانب الرفاهات الأكثر براعة وسلامة"
إشارات كيف يعرف الشاذون بعضهم: "وهم يعتادون داعين بعضهم يا عزيزي.."
همسات عن العشق المثلي بين شخصيات الرواية وتلميحات دون تصريح...وحوار بين شخصيتين عن هل الشذوذ الجنسي اختفى من المجتمعات فهو موجود بين اليونانيين وبعض الملوك وبعض الشخصيات المشهورة الذي يتم ذكرها بالاسم!
في الرواية الشخصيات الارستقراطية الرجالية هي من تضع المساحيق للوجه وتنتعل الحذاء بالكعب العالي.
في هذا الجزء من الرواية الفقرات والجمل أفضل من تلك في الأجزاء السابقة من الرواية.يشعر القارئ أنها أكثر سهولة وفهما.
04 يوليو . 3 دقائق قراءة
21 يوليو . 5 دقائق قراءة
15 مارس . 4 دقائق قراءة