الجزء الرابع من رواية بحثا عن الزمن المفقود لمارسيل بروست: (سادوم وعامورة)

15 مارس  .   4 دقائق قراءة  .    1146

 العنوان يعطي ايحاء بالحديث عن الشذوذ الجنسي والمثلية، لارتباط العنوان بتلك القرى التي خسفها الله وحل بها العذاب الإلهي الذي جاء ذكره بشكل مباشر أو غير مباشر في الديانات الإبراهيمية الثلاث، لكن ذلك لن يكون هو المحور الرئيسي لهذا الجزء من الرواية كما يوحي لنا العنوان.

 

المثلية الجنسية:

يبدأ القسم الأول من الرواية بالاقتباس التالي: ” أول ظهور للرجال – النساء. هم من نسل الذين وفرتهم نار السماء من سكان سادوم.

” فللمرأة عامورة وللرجال سادوم” – (الفريد دو فينيي)

ولكن خلو الرواية من الحديث الصريح عن المثلية الجنسية، يدفعنا للتساؤل هل تم تهذيب مشاهد الرواية في الترجمة العربية أم أن هذا حدث في النص الأصلي؟

وربما يفسر هذا ما جاء في المقدمة العامة للرواية والتي كتبها جان إيف تادييه: ” وأخيرا يثبت الشذوذ الجنسي أنه أحد الطروحات الرئيسية في العمل الفني وسوف يصرح عنه بروست لجميع ناشريه المحتملين، فهو لا يستطيع أن يتصور رفض كتابه لأسباب أخرى غير التهتك”. فهل شعر بروست بالقلق لفكرة رفض نشر الرواية إذا كانت تمتلئ بوصف حالات وأفعال الشخصيات الشاذة ففضل أسلوب التلميح عوضا عن التصريح؟

ويلمح تادييه في هذه المقدمة بأن بروست في العام 1909 أرسل رسالة إلى فاليت: ” أن أحد الشخوص الرئيسيين شاذ جنسا”، كما يسطر إلى غاليمار: “هذه الشخصية مبددة إلى حد ما وسط أقسام مختلفة تماما كي لا يتفق لهذا المجلد شكل دراسة أحادية الموضوع خاصة…ولكننا على أية حال نرى هذا السيد العجوز يقنص بوابا وينفق على عازف بيانو…. إذا في الرواية نجد الثلاثي الذي يمثل الشذوذ شارلوس – جوبيان – موريل”

وسيرد الشذوذ الجنسي الأنثوي: ممثلا بشخصيات ألبرتين وأندرية وأبنة فانتوي وصديقتها.

 

يبدأ الفصل الأول باكتشاف الراوي لحقيقة شذوذ السيد دو شارلوس، يحدث ذلك وهو مختبئ يتابع تلقيح حشرة لنبتة فيشهد بمحض الصدفة العلاقة الشاذة بين دو شارلوس وجوبيان ويستعيد ذكرى قديمة من أيام طفولته لمشهد الآنسة فانتوي في علاقتها الشاذة مع صديقتها والتي شهدها بمحض الصدفة من نافذة بيته. ويربط عبر صفحات كثيرة بين العلم والعلاقات الشاذة المثلية للرجال والنساء والتلقيح للنباتات، وكأنه يحاول اقناع القارئ بأن تلك العلاقات هي علاقات موجودة في الطبيعة: ” فخلافا لما كنت أظنه في الباحة حيث رأيت جوبيان منذ قليل يحوم حول السيد دو شارلوس مثلما زهرة الأوركيد توجه دعوات للدبور، فإن هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين الذين نرثي لحالهم يشكلون جمهورا”

 

ويذكرنا الراوي أن عدد الشواذ ليس قليل في المجتمع: ” ذلك لأن الملاكين اللذين أقيما على أبواب سادوم ليعلما، فيما يقول سفر التكوين، إن كان سكانها قد فعلوا بالكامل كل هذه الأشياء التي تعالت صرختها حتى الأبدي السرمدي قد جرى اختبارهما، ولا يسعنا إلا أن نبتهج لذلك، أسوأ اختيار على يد الرب الذي لعله ما كان انبغى أن يكل هذه المهمة إلا للوطي…”

” ولم أكن أبصرت حتى ذاك لأنني لم أدرك من قبل، أن الرذيلة (هكذا يقولون لتيسير الكلام)، رذيلة كل منا إنما ترافقه على غرار ذلك الجني الذي كان خفيا على الناس ما داموا يجهلون وجوده. إن الطيبة والمكر والاسم والعلاقات المجتمعية لا تكشف عن ذاتها والمرء يحملها مخبأة”

ويعود الراوي ليصور بشكل دقيق ومدهش مشاعر دو شارلوس الشاذ الذي حجب حبه لموريل عقله: ” فالحب يسبب هكذا اندفاعات بيولوجية حقيقية في الفكر”

” يظن الشاذ أنه من نوع وحيد في العالم، وفيما بعد فقط يتخيل – وهو غلو آخر – أن الاستثناء الوحيد هو الرجل الطبيعي”

 

السرد الطويل:

يجد القارئ أمامه جمل بروست المعتادة، الطويلة المتشابكة المتشعبة وكثير من الاحالات للفنون من رسم وموسيقى وعمارة، مما يرهق القارئ ويشتت ذهنه.

يقول جان إيف تادييه في المقدمة العامة للرواية: تبين لنا أن هذه الرواية إنما تستعيد لا الحياة فحسب، بل الآداب والفنون الأخرى”

اعتماد الكاتب على سرد الذاكرة المتقافزة يجعله يتجاوز بعض الأحداث ضمن تسلسلها في السرد ثم العودة إليها ليسردها من جديد بحرية كاملة ومن زوايا متعددة. وهناك لا ترابطية للنص لدرجة ضياع خيط السرد فيشعر القارئ بالحيرة. يسرد الراوي بعض الأحداث بتقنية السارد العليم فهو يعلم ما تفعله الشخصيات بعيدا عنه بل وبما تفكر وأفكارها الداخلية، وكأنه هنا يدمج بين تقنية السارد العليم والسرد بضمير المتكلم، وفي أماكن أخرى نجده يوجه الخطاب للقارئ.

ويوضح هذا جان إيف تادييه في المقدمة: “إن وحدة الفكر الإبداعي تشبه الوحدة التي سبق أن لاحظها بروست لدى راسكين، أنه ينتقل من فكرة إلى أخرى دون إي نظام ظاهر”

 

عبر صفحات الرواية تأتي الفقرات الطويلة التي تميز أسلوب بروست السردي، تغوص في المشاعر والأحاديث الداخلية والأفكار، وكيف يتصرف الناس في المواقف المختلفة، ولماذا يتصرفون كذلك وكأننا أمام درس في علم النفس وعلم سلوك الأفراد.

” ولكن الأفراد كلما ازددنا معرفة بهم أشبه بمعدن غُمس في مزيج مفسد، فتراهم يفقدون شيئا فشيئا صفاتهم (كما يفقدون أحيانا عيوبهم)”

 

الرواية والمجتمع الفرنسي:

تعج الرواية بحوارات ونقاشات للشخصيات حول الفن والأدب والموسيقى، وفرق البالية الروسية، وباكست، ونيجينسكي، وبونوا، وسترافنسكي وغيرهم، بل قد نسمع أحدهم يعزف مقطوعة لشوبان. شخصيات الطبقة الارستقراطية وكذلك شخصيات الطبقة البرجوازية التي تنسخ كل اهتمامات وطباع الطبقة الارستقراطية، ونتعرف على الفرق بين الأسماء وطريقة نطق تلك الأسماء بين الأسر الارستقراطية، وكيف تحذف السواكن من الاسم أو إضافة دو، كيف يؤثر ذلك على مكانة الشخص وترتيبه في ذلك المجتمع.

يرسم الراوي لوحة للمجتمع الفرنسي في تلك الفترة بكل تناقضاته وعيوبه، بالتركيز على شخصيات الرواية من الطبقة الارستقراطية والطبقة البرجوازية. اللوحة بتدرجات ألوانها توضح حقيقة النفاق والقسوة: ” مهابة الارستقراطية وجبن البورجوازيين”.

وتعج الرواية بالنقاشات الأدبية والادعاءات والكثير من السفسطة والاستعراضات لشخصيات تدعي المعرفة.

ونرى على اللوحة وصف الشخص الفضولي وكيف يتصرف بتشبيهات بروست الأدبية الدقيقة والرائعة والتي يستفيض فيها لنرى اللوحة بأبعادها الثلاثية فهو لا يكتفي بالصورة المسطحة بل يغوص عميقا في الأفكار والمشاعر.

 

يرصد الراوي أثر التغيرات في المجتمع الفرنسي ونرى كيف تتم مناداة السائق بالسيد. وبدء التخلص من الفروق بين العمال والبرجوازيين وكبار السادة. ويرصد دهشة البعض مما يحدث وكيف يقابلوا هذه التغيرات الجذرية في قواعد المجتمع: ” إما لأن كبار السادة لا يزدرون العمال كما يفعل البرجوازيين…”

فحقيقة الازدراء يتم من شخصيات تظن أن الازدراء يعطيها قيمة اجتماعية أكبر. ونتأمل كيف تتغير حياة الناس عبر الزمن بتغير الأدوات والوسائل: ” ومنذ نشأة الخطوط الحديدية علمتنا ضرورة ألا يفوتنا القطار أن نحسب حساب الدقائق فيما المفهوم لدى قدماء الرومان الذين لم يكن علم الفلك عندهم أكثر بدائية فحسب بل كانت الحياة عندهم أقل استعجالا، فإن مفهوم الدقائق بل حتى مفهوم الساعات المحددة، كاد يكون معدوما”

يرصد بعمق تصرفات وسلوكيات الناس في تلك المجتمعات والصالونات التي تتبع تقاليد صارمة، وتنظر للأشخاص بحسب مكانة الأسرة وتتم السخرية ممن هو أقل حظا: ” ويبدو وكأني بهم زمرة من آكلي لحوم البشر أيقظ فيهم جرح أحد البيض شهوة الدم. ذلك لأن غريزة التقليد وغياب الشجاعة إنما يحكمان المجتمعات مثلما يحكمان الجماهير. والجميع يضحكون ممن يرون الناس يضحكون منه، على أن يجلوه بعد عشر سنوات في منتدى هو فيه موضع إعجاب. وإنما يطرد الشعب الملوك أو يرحب بهم بالطريقة نفسها”.

 

نستمع للآراء السياسية حول من يستحق عرش فرنسا. ونعيش عبر صفحات طويلة من جديد مع لمحة تاريخية عن معاني الأسماء والمدن والمحطات، وأثر النورمانديون والألمان وحتى المغاربة على الأسماء تلك.

هناك إشارات للتعصب ضد اليهود في المجتمع الفرنسي، وضرورة أن يكون هناك فصل في سكن الناس حسب دياناتهم.

الرواية لا تركز على طبقة الأغنياء فقط في المجتمع الفرنسي، بل تعرج بلمحة خاطفة على أوضاع الفقراء، مع ذلك الأب الذي يوزع أبنائه على الأغنياء لعجزه عن اطعامهم.

 

الزمن ومشاعر الراوي:

ويشير إلى دور الوراثة داخل الأسرة الواحدة لتشابه افرادها كلما مر الزمن: ” فإنه ابتداء من سن معينة وحتى لو تحققت في دواخلنا تطورات مختلفة، كلما أصبح المرء ذاته كلما برزت القسمات العائلية” هنا يحاول أن يفسر لماذا يتصرف في مواقف معينة كما تصرفت سابقا جدته أو أمه، فيستوقفه ذلك ليتأمل ويحاول معرفة السبب. وتلح عليه ذكرى جدته الراحلة التي أحبها ” ثم إننا في طقوس الأسف على موتانا إنما نخص ما أحبوه بعبادة صنمية”

ويعيش القارئ لحظات ممتعة وهو يرصد مشاعر الراوي عندما يرى الطائرة لأول مرة، بل مشاعر الجواد الذي يتوقف عن العدو رهبة وهو لا يدري حقيقة الضجيج الذي يسمعه لمخلوق غريب يلوح في السماء.

 

كيف نشعر بالزمن خلال نومنا؟ يدهشنا الراوي وهو يصف النوم كأنه شقة أخرى نذهب إليها ونترك شقتنا التي نعيش فيها. لكن الإحساس بالوقت مختلف في تلك الشقة، وحتى البشر هناك جنس آخر. اليقظة أو العودة من النوم كأن حصاة نيزكية صغيرة، ألقى بها مجهول من القبة الزرقاء لتصيب النوم المنتظم ولولا تلك الحصاة لربما دام بحركة إلى أبد الآبدين. فهل يصف الموت هنا؟

الاستيقاظ يكون انعطافه مفاجئة إلى الواقع تجعله يحرق المراحل. ويستفيض في سرد تلك اللحظة عندما يستيقظ الشخص وهو لا يعلم من هو وأين هو!

لا يكتفي بذلك بل يستطرد ويشبه النوم بعالم النجوم. فالنوم يجعلنا خارج الزمن وقياسه. المتع التي نحس بها خلال النوم لا نضعها في حساب المتع التي نحس بها خلال حياتنا: ” لقد أصبنا متعة في حياة أخرى ليست حياتنا”، ” ولأن الحياة الأخرى، الحياة التي ننام فيها، قد لا تكون في قسمها العميق خاضعة لفئة الزمن”

 

عذاب الشك والغيرة:

ويرصد المؤلف بهدوء تقلب المشاعر، كيف نشتاق للشخص ونتمناه وعندما نحصل عليه تتحول مشاعرنا.

وهناك مشاعر القلق وعدم الثقة بالنفس والرغبة الأنانية بالاستحواذ على شخص ما، وعذابات مشاعر الغيرة والشك.

روعة التصوير لدهشة الراوي وصدمته عندما يعرف أن البرتين تعرف ابنة فانتوي، فيصور ذلك الألم والغضب والحزن بل الفجيعة، فيجعل القارئ يلمس كل ذلك الحزن مرسوما على ملامحة. فتبدأ علاقة الغيرة وعذاب الشك بين الراوي والبرتين.

ويفاجئ القارئ في الصفحة الأخيرة للرواية بإصراره على الزواج من ألبرتين رغم كل شيء.

 

في هذا الجزء الرابع من الرواية يجد القارئ نفسه يألف تلك الشخصيات الكثيرة والتي لم تعد مربكة له، فهو الآن يتعرف سريعا على الاسم الذي تكرر كثيرا، وكل جزء من الرواية يساهم في توضيح ملامح تلك الشخصيات فيضيف إليها المزيد من الحياة فتصبح مألوفة أكثر للقارئ.

  2
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال