23 أكتوبر . 3 دقائق قراءة . 343
محاولات تأصيل الفن الحديث
"الحداثة في العالم العربي بوصفها منظورا، أو تنظيرا، أو بشكلها السائد، إنما هي غريبة بكاملها وأننا عندما نتكلم عليها إنما نتكلم عن الآخر، متوهمين أن هذا الآخر هو الذات". أدونيس
إن تكريس الفردانية وترسيخها كقيمة أخلاقية، وغياب النظرية المؤطرة للممارسة الفنية، وشيوع السطحية أديا إلى تمييع مفهوم الأصالة، رغم أن الفنان التشكيلي العربي يتوفر على ترسانة تقنية عالية وإمكانيات أدائية لا يستهان بها، فهو لم يكن يتوفر على رؤية ثقافية/جمالية وبعد استشرافي يمكنه من "تمثل الثابت والمتحول في الحياة" ليتحرر من التبعية البصرية للفنان الغربي المختلف، المحنك، الحامل لتجربة طويلة، جعلته يتجاوز الذات والآخر ليكون نموذجا كونيا للخلق والإبداع. "إن فن الستينات في مصر، (كما في سائر أقطار الوطن العربي)، كان مجرد "مغامرات سطحية" بين الخامات والأساليب...دون أي "مضمون إنساني مقرؤ". لو حاولنا تأصيلها وإرجاعها إلى مناهج "المدارس الفنية" التي ظهرت في النصف الأول من القرن (القرن العشرين)، غرقنا في متاهات الاصطلاحات الغامضة".(مختارالعطار). فمتاهة الاصطلاحات الغامضة هي التي بات يحملها الفنانون والنقاد شعلة يستنيرون بها ليثبتوا وجودهم ويبررون مشروعية أصالتهم. لكن الهوية تعيش ارتجاجات كبيرة تعادل تلك الاهتزازات التي تتصدى لفرص "البحث عن الجديد وسلوك سبل التجدُّد" المتمثلة في السعي إلى تنظير مفهوم الأصالة وبناء فن ملتزم بقضاياه المصيرية، ومتحرر من الارتباطات والمرجعيات ذات الخلفية الدونية. وجاءت محاولات التأصيل، مستعيرة بطاقة انتمائها من التراث والتقليد، كردود فعل مناهضة، بل رافضة لما كان يتداوله المشهد التشكيلي ويُمَأسِس له على حين غفلة، فكان "ما يعرف بالحروفية أشبه بحصان طروادة لاصطياد الهوّية في مرتعها الأكثر بساطة ومطواعية" (الخطيبي).
يرى الدكتور عبد الكبير الخطيبي في دراسته التحليلية للفن العربي المعاصر1، أن محاولات استكناه الهوية انكتبت خضوعا لازدواجية جمالية/فنية، شطرها الأول تمثل في تقمص شخصية تعبيرية شكلانية، تمتح وجودها من فهرس الفن الحديث الأوروبي وتستليذ بسطوح جماليته، معتبرة أن "الهوية قضية باطنية جوانية تتفاعل مع العالم الخارجي بالحسّ والحواس"، فلم تفلح التركيبات اللونية والتكوينات الشكلية في استلذاذ طعم الهوية مما جعلها ترتمي "على هامش التعبير الهوياتي".
بينما الشطر الثاني اتخذ من "التعبير الحروفي والعلامي والرمزي" نهجا هوياتيا، مصيريا، ظل الرواد يعيشون هوسه، لم ينجحوا في تحديه واختراقه رغم محاولاتهم المكشوفة لتجاوزه. وتبقى في نظر الخطيبي، منجزات العراقي شاكر حسن (1925-2004)، والجزائري محمد خدة (1930-1991)، والمغربي أحمد الشرقاوي (1934-1967)، واللبناني سعيد عقل (1911-2014)، والتونسي نجيب بلخوجة (1933-2007)، " تجارب رائدة وشبه نهائية استنفدت مفهومي العلامة والحرف، وكادت تكون بداية ونهاية لهذه التجربة". أجل، كانت ولا زالت هذه التجارب "بداية ونهاية" لتيار الحرف والعلامة، إذ كان للأفكار الحداثية التي وثقتها كتابات نظرية وبيانات فنية الأثر العميق على تجارب العديد من الفنانين العرب وغير العرب، أغلبهم لم يستوعبوا عمق تجربة الجماعة فاتخذوا الحرف العربي والعلامة مطية "لاستنهاض وهم هوية تمنح نفسها لهم مباشرة في اللغة وفي الكتابة والرموز المتداولة".(الخطيبي).
أدت مقصدية استنهاض الهوية الواهية ومداواة "الجرح النرجسي"، الذي عانى منه الفن العربي كباقي أجناس الثقافة العربية، بأطرها وأفكارها ورؤاها إلى الكشف عن نزعة إيديولوجية تراثية خالصة، شبيهة في صراعها وصيغتها بتلك التي عمت المجتمع والسياسة، "إيديولوجيا تريد الاستغناء عن كل إيديولوجيا "مستوردة" لتنزل التراث نفسه منزلة الأيديولوجيا". (2)
وفي نظر فريد الزاهي أن علة المرض وأعراض الالتباس لا يكمنان في الحركة التراثية نفسها، الحاملة لمشعل الحرف والعلامة، بل يتجسدان في التحول الذي شاب الحروفية وصيرها إلى "نزعة إيديولوجية"، أزاحت عن التراث حقيقته التاريخية، ليصبح واقعا تشطيريا لا تاريخيا، أوصل العلامة والحرف إلى نوع من "اجترار للمرئي البصري الإسلامي والشعبي".(3)
أدت عملية الاجترار هذه بالفنان العربي إلى السقوط في مأزق فني/إبداعي انكتبت من خلاله التأسيسات الجمالية والتقنية للوحة التشكيلية في محاولات يائسة للتوفيق بين توظيف عناصر التراث كبدائل تشكيلية/جمالية ومعطيات الاتجاهات الفنية الحديثة.
إن الواقع التشطيري للتراث والكينونة اللاتاريخية اللذان عايشتهما وماتزال، الممارسة التشكيلية العربية ألزما، كبدائل أنطلوجية، الفنان العربي على التحرك في إطار معارض فردية وجماعية، إقليمية ووطنية، تبين تاريخيا أنها لم تفد هذا الفنان في الارتقاء بفنه إلى تأسيس تجربة مساوقة ذات مرجعية ثقافية تتجاوز الفردانية والتشطير لتستشرف آفاقا أكثر شمولية.
التراث كإيديولوجيا
"مازالت الحركة التشكيلية تدور في فلك الخصوصيات الفردية المعتمدة في أغلبها على استنساخ واجترار التجارب الغربية، وإعادة صياغتها دون أن تحقق أطرها ومعاييرها وتقنياتها الخاصة بها، أي دون أن تحقق سماتها الجماعية ذات الشكل البيئي الخاص" (حوار مع غسان مفاضلة، الدستور الأردنية 6/12/1991)
أظن أن الريادة في الحرف لا تقف عند هذه الأسماء، بل تتجاوزها إلى تجارب فنية أخرى لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، ونستحضر هنا تجربة الفنانة العراقية مديحة عمر(1908-2005)، التي اعتبرها الناقد شربل داغر رائدة الحركة الحروفية الأولى، حيث "عمدت منذ سنة 1944 إلى البحث الحروفي وفصّلت ذلك في بيانها الفني عنونته ب "الخط العربيّ عنصر استلهام في الفن التجريدي"(داغر). فالفنانة سعت إلى توظيف "الحروف من أجل المعنى فكانت رسومها أشبه بالرسوم التوضيحية"(فاروق يوسف). كما أستحضرتجربة الفنان جميل حمودي (1924-2003) الذي عرف "بنظريته عن استلهام الحرف جماليا"(فاروق يوسف).
الحروفيّة العربيّة: ردّة فعل
يصف شربل داغر، في كتابه الحروفيّة العربيّة: فن وهويّة، الحروفيّة بأنّها ردّة فعل على الفن الغربي المتمثّل بلوحات الطبيعة الصامتة وصور التماثيل الإغريقيّة. فقد لجأ الحروفي إلى استلهام الحرف العربي وسيلةً للعودة إلى الأصل والتراث. وهكذا تكوّنت الحروفيّة ضمن حركة عامّة، لم تعد تكتفي بمحاكاة الفن الجديد الذي تعلمته ولا بالنزعة الاقتدائية بالتجربة الغربيّة، بل باتت “تحوّر” هذا الفن، واجدةً له “منابت محليّة”. إنّها “تبيئة” الفن الغربي في البلاد العربيّة، والسعي لانتاج لوحة “خصوصيّة”[22].
والحروفيّون، جماعة مرتبطة بتقاليد الخط العربيّ العريقة، وفي التأويل الشعبيّ والصوفيّ الذي يتحدث عن تأثير الحرف في مصائر الناس وعواطفهم وأحاسيسهم وعقولهم، لما يحمل من أبعاد إيحائية بصريّة ومضمونيّة كبيرة[23]. منذ اكثر من نصف قرن والحركة التشكيلية تعاني من الاضطراب والتخبط في محاولة منها لتلمس خطاها واحالاتها المرجعية الحقيقية، وكذلك فب بحثها عن خصوصية هويتها المبدعة. حيث يرافق ذلك قلق وجودي تراكمي ترزح تحت الذات العربية والمبدعة والمعذبة في صراعها مع الاخر بكل ما نراه ونتلمسه في محيط تسوده ثقافة نصية تقليدية، وامية بصرية متعالية، وفي هذا السياق استطيع القول بان الحركة التشكيلية على الساحة العربية لم تستطع بما حاولت ارساءه وتأسيسه ان تجعل من طموحها - كصيغة تشكيلية متبلورة – تحققا يكتسب شرعيته فخلقت جوا من التشكيك غنيا بالاحتمالات قابلا للكثير من التأويلات (...) ان الصراع المتوتر داخل علاقة ثنائية الجانب بين الفنان العربي وذاته من جهة وبينه وبين الغرب من جهة أخرى، في سياقات ظرفية غير متكافئة أدى الى تشكيل هوية ذات صورة ضبابية لدى الفنان التشكيلي الحديث.
جماعة البعد الواحد
وأتمثل أيضا بجماعة البعد الواحد العراقية التي جاءت تتويجا للحركة الحروفية التي عرفت إرهاصاتها الأولى مع أربعينيات القرن العشرين والتي يعتبر الفنان شاكر حسن آل سعيد (1925-2004) منظرها الأول وواضع قواعدها. فقد امتدت تأثيرات جماعة البعد الواحد النظرية والممارساتية خارج العراق.
(المقصود بـ”البعد الواحد” هو اتّخاذ الحرف الكتابي نقطة انطلاق للوصول إلى معنى الخط كقيمة شكلية(داغر). والرجوع إلى بُعد للخط كانتماء إسلاميّ عروبي (من العروبة) مناقض للبعد الثلاثي (الطول والعرض والارتفاع) في اللوحة الغربيّة(شكرون). هذه الجماعة هي في الأساس معرض فني ووثائقي جرى في بغداد في 1971، بعد أن ظهرت الفكرة، لأول مرة، في 1969؛ وهي فكرة تنظيم معرض عن تـأثير الحرف في الفن التشكيلي. ساهم في إنضاج هذا المشروع: جميل حمودي، ضياء العزاوي، رافع الناصري، عبد الرحمن الكيلاني محمد غني.
هوامش: