24 فبراير . 8 دقائق قراءة . 408
مضى جدّي، وبقي ذكره بحكاياته، الحكمة والمآثر تجعل الحضور غير منقطع، وتعطي للوجود وللعلاقة شكلاً غير معهود.
هذا الإنسانُ، الرجل، غيرَ المتعلم (حسبَ تعريفنا) فتّح قلبي وعقلي على اختبارات في الحياة يعجز المنهج العلمي عن توصيفها والترتيب العقلي عن تفنيدها. كان يتكلّم من وَحي تجاربه وخلاصات ودروس مستفاد، العِبرَة فيها ومنها متأتية من مقاربة ضميره البريء مع أحداث محيطه وقراءة المستقبل على ضوء سلم المتغيرات المتهاوي.
في حينها أنت تسمع وتندهش ولا تفهم، لكنك تخزّن في مستوعب الذاكرة، لتعيد اجتراره عندما تكبر. فإما تصبح قصصاً لتخبرها، أو أمثالاً تتعلم منها كأحجار الرصيف تسند خطاك.
مستوعب الذاكرة! يشبه حاوية تغصّ بالبضائع على متن سفينة تشق عباب المحيط الغادر. تعرف ميناءها وتعلم أنه بعيد، ولا تدري من نصيب من ستكون حمولتها من ذكريات.
تمرّن هذا الجَدّ البسيط، العفوي على يَدَي عقارب الزمن، التي رغم سُمّها لم تنل من براءته. لم يكن الوقت عدوّاً حينها، لم أره يوماً يحيا وكأنه في حَلَبَة مصارعة، أو ميدان سباق. لم يهتم يوماً بالغنى أو الغَلَبة ولم يلهث ليتذوق معنى النجاح أو التفوق على سواه
تَشَبّعَت مخيّلتي صوراً، كُلٌّ منها تصوغ رواية من حب كفيلة بأن تُعمّر جَنَة تماثل الصفحات الأولى من كتاب التكوين. قِصص عن أناس نَمَوت بينهم وعليهم، كانوا يشبهون كل ما يتكلمون عنه وما يفعلونه، عاهدت نفسي أن أكتب قصة عن كل واحد منهم.
جدي وجدتي لوالدتي، أمي التي تشبه الحمل المناضل بهدوء لا يُسبَر قديسة التَخَفّي، خالَتَين وخالين، أختي مرآة روحي.
أهل شارع بغداد في حي السادات على مفترق حارة العمارة والقزازين، آل الحلاق والمنجد خِيرة أهل الشام.
وبين طيّات جميع هؤلاء يختفي معلّمي الذي وَثِقَ بموهبتي، رَجُلٌ آتٍ من نسل الملائكة أحبّ الشعر والفلسفة، فأصبح عَجْنَةً بشرية بخميرة إلهية، فسمّاه والده أديب وكأنها نبوءة بعهد جديد.
وسأدع قصة عشقي لمنجدتي لأمليها يوماً على شمسٍ ولدي لصوغها لمن بعدي، كما أنا أردت أن أُخبِر قصص من بالحب عَلَمَني.
الوفاء ليس هدفاً بذاته، بل الأمانة هي الهدف، الأمانة للإنسانية وحقها بالاستمرار وهي تغتذي على حكايات الخير والسلام والرحمة واللطف والبساطة والكرم.
مسؤولية نقل وإيصال القيم والمفاهيم والجواهر العليا، وضرورة تبنّيها والتزامها في مواجهة عمالقة القسوة.
نحن نشبه كَبلَ الكهرباء الناقلُ للضوء، نحكي خبرتنا ونُسَجّل ما سَوّانا، ومع الأيام قد يصبح قنديلاً من ماء وزيت وفتيل نار ونور لأولادنا.
هكذا نكون أوفياء للآتي وليس لمن رَحَل أو لِما مضى.
هذا يَصِلنا بقصة اليوم يا ولدي، العمالقة والجبابرة.
قَرروا في علم النفس اصطلاح آليات الدفاع، على الأفعال أو ردود الأفعال التي تمنح الشخص إحساساً بالأمان جرّاء تعرضه لموقف او لمثير داخلي وخارجي يَهز سياقه الطبيعي. وباختصار هي حِيَل تقوم بها النفس لتجنب الألم والصراع. وكُتبَ الكثير عنها من تصنيفات وتفريعات وشروح لست بوارد تعدادها لك الآن، فبإمكانك الاطلاع عليها عبر الشبكة العنكبوتية او من خلال الكتب الورقية.
المصطلح برأيي كان صحيحاً، ومَن أنا لأغيّر عبارات علمية اجتهد المختصون لتحديدها بدقة. حَقاً، لست بأحدهم ولست بأحدٍ.
لكنني أجد عبارة آليات الهجوم تناسب الواقع أكثر وإن أمكن إدراجها تحت الأولى.
لكن لنشاهد معاً.....
تَخرجُ إلى الشارع في مَشهدٍ سريع يعتمد على الملاحظة والمراقبة التي تمتد بشكل طبيعي بين الثامنة صباحاً والسادسة مساء على سبيل المثال. لتمارس غالباً عملاً مكتبياً قد لا يتطلّب الكثير من الجهد ولا يستهلكك جسدياً، إنما تجد نفسكَ حين تُغلقُ باب المنزل خَلفَكَ مُنهكاً من جهة ومُتَأهباً من أخرى.
ما الذي يَلُفُ مشهد الشارع برمّته؟ الاستعداد الدائم للعدائية المفرطة، حين تعمل على دراسة التبدّل النفسي في تصرفات الناس تجد أنه قد تبدلت آليات الدفاع لآليات هجوم استباقية يمكن بسهولة دعوتها عدائية الحماية.
يعتقد كل فرد في منظومة العداوة أنه في حال استبق الهجومية سيفوز برهبة العدو وتداعيه.
أين توجد هذه المشاهد؟ في كل حيّز من المكان
قِف وتأمل طابور الانتظار للخبز، وانظر كيف بغضون لحظات من شأنه أن يتحول إلى معركة ضارية تبدأ بالمشادّات الكلامية وتنتهي بأصوات اللكمات حاملة صداها العميق، كالمؤثرات الصوتية في الأفلام السينمائية. ما هي إلا برهة لتتناهى لأذنك أصوات النساء بين استغاثة لوقف هذا الهراء، وبين منهنّ يستجدينَ ربطةً لا يملكن ثمنها، وهنا تخرق الضجيج نغمات الدموع وتنهدات عجوزٍ تضع حجاباً أبيضاً وتلتفُ بمعطف كحلي مهترئ، وجهها كياسمينة متعبة عيناها تضجّان بالإيمان والخذلان، تتكئ مرتاحة على عكازٍ خشبي فاتح اللون أعطته لها جارتها بعد وفاة زوجها على طابور الأرز منتظراً، ليأتيها صوت رنين الجوال والاسم المكتوب أبا صالح لتردّ قائلةً السلام عليك حبيبي، فيأتي صوتٌ شابّ حجة أنا لست أبو صالح، رحمه الله كان قد حفظ رقمك باسم رفيقة عمري، نحن في المشفى أخبري الأولاد وتعالوا.
الشاب الذي اتصل بأم صالح، ركض ليوقف سيارة أجرة وقبل السلام باغته السائق بعنف، إلى أين؟ الأجرة كذا! بوجه متجهم يتهافت ساعياً ليتغداه قبل أن يتعشى به.
فأخبره أنه بحاجة لنقل رجل كبير بالسن إلى أقرب مشفى كي لا يلفظ أنفاسه في الشارع. تفَتّحت عينا السائق واحمرّتا غضباً، وهرعَ مسرعاً وهو يتمتم بلهجة غير مفهومة متهماً الشاب بجريمة لا يريد مشاركته بها.
أما سائق سيارة الأجرة الغاضب، فقد تلقى اتصالاً هاتفياً وهو يقضي ساعاته الطويلة على طابور الوقود، وبعد ست ساعات وقبل أن يصل دوره بقليل إذا بحرس الهاتف يصيح زوجتك تَلدُ إلحق بنا على المشفى. فها هو يخسر مكانه على الطابور وحِصتهُ من مادة منها يأكل القوت.
أخذ بلهفة يطلب من الشباب مساعدته بإزاحة السيارة على جنب الطريق ليسرع إلى مولوده، فلا الواقفون استجابوا ولا سيارة تكسي توقفت.
في استعلامات المشفى اوقفته الموظفة وبادرته بالاستجواب بلهجة التعالي والعداء وبملل وامتعاض مريض من الطابق الخامس. قال في نفسه لابد وأن لها واسطة أكبر حتى بمقدورها وبهذه الجرأة مخاطبتي بهذا الأسلوب، فاستكان كفاعل إثم مكشوف.
ما إن التقط بضعاً من شهيق، لتصل زميلتها سائلةً أين كنتِ صباحاً؟
فأجابتها بحنقة في الجحيم، منتظرة على صف استحقاق الفواتير محتملة صفاقة عامل الكُوّة الذي بعنف ولا مبالاة استباح كل معايير التهذيب في قدرته على تهزئينا، واستطردت لم أستطع ان العلم من يسنده ولا مستوى ضغط دمى.
وبدورها سألتها كيف كان يومك أنت
تنهدت طويلاً وقالت كله مآسي، منذ الصباح احضروا رجلا عجوزاً وافته المنية على دور الخبز، ولحقت به أرملته إلى العناية المشددة، وهي تردد اسمه لماذا تركتني. ما هي لحظات حتى وصلت امرأة وحيدة تلد إسعافياً وتصرخ احضروا زوجي. فأهلي نصفهم ماتوا ونصفهم مشتتون في الخارج.
وشاب ادخلوه وهو يلوي من شدة الحروق بعد أن ساعد بإطفاء الحرائق.
لم ألحظ نفسي مسترسلا بالتكلم، نظرت إلى جدي فرأيته يغط في نومه وتعلو وجهه ملامح الحزن، أيقظته ليذهب إلى سريره، فارتعب مني وقال ما هذا الكابوس يا فتى؟ رأيت في حلمي عمالقة وجبابرة حجمهم أكبر من الأرض لكنهم يتصارعون على ترابها. كانت قلوبهم صغيرة وخارج اجسادهم وألسنتهم كبيرة لا تتسع في أفواههم يعادون بعضهم على أتفه الأسباب دون طائل، الخوف يدفعهم لمهاجمة أبرياء. لا عليك يا ولدي، شكراً لأنك أيقظتني، لكن هل كنت تقول شيئاً وأنا نائم؟
كلا كلا أبدا جدي، كنت أراقبك في زمانك واتمنى لو أنك ما زلت صاحٍ.
07 سبتمبر . 1 دقيقة قراءة
16 نوفمبر . 1 دقيقة قراءة