رسالة إلى كاتبة في جريدة السماء

Maher

06 مارس  .   3 دقائق قراءة  .    610

رسالة إلى كاتبة في جريدة السماء


اعتدت  في طفولتي قبل تعلم القراءة أن أحتفظ بجريدة يوم السبت، كان أبي يحب الاستيقاظ باكرا وإيقاظي معه فيصطحبني إلى الفوال ومن ثم بقالية باهجان الهندي فيشتري لي السكاكر و الحلويات وخاصة بيضة الكيندر وجريدة السبت، جريدة غرفة الشاعر المحلية ثم يدعني أحادث باهجان وأمرح معه قليلا، فلا يفلتني حتى أمتلئ برائحة هندية عطرية تحمل معي أجواء الرقص والشغف إلى المنزل. 
كنت أحب الجريدة كثيرا مع أني لم أكن أفهم ماذا تعني، وكيف أن هناك شيء اسمه حروف وكلمات لها في العقل والقلب مفعول ومدلول.
كل ما أتذكره حينها أن أمي وأبي يقرآن منها زاوية اسمها رسالة إلى كاتبة، فأحببت هذه الزاوية جدا لتأثري بخشوع أمي تقرأ لأبي في كل سبت فحواها، فيبكيان تارة فأبكي معهما وأخرى يسكنهما الصمت فأرى طيف محياه الوقور...

عندما كبرت عثرت في صندوقي على قصاصات الزاوية لمدة ثلاث أعوام، وعرفت حينها أن الكاتب هو أحد جيراننا الذين اثروا على طفولتي وملامح شخصي
فكثيرا ماكانت تنتابني نوبات الربو الحادة حتى ذات يوم لم يكن أمام أمي سوى أن تستنجد بهذا الجار، فهدأ من روعها وأدخلنا منزله، فهدأتُ فورا وعادت أنفاسي يسرة وكأن شيئا لم يكن!
استغربت أمي ذلك ومن حينها كان جلنار (اسم جارنا)  طبيبي، وغرفته التي يكتب فيها هي عيادتي 
كان يجلس أمام حاسوبه ويجلسني أمام آلة كاتبة قديمة فألعب كمن يكتب، أحببت جدا النقر على الآلة الكاتبة، وأحببت المكوث عند جلنار، فبت أذهب إليه كل يوم، لأراه، لأنقر، لألعب ككاتب مثله...

عندما كبرت عرفت قصته، وقصة زاويته في الجريدة، فآلة الكاتبة تلك كانت لحبيبته التي ماتت في حادث سير أليم 
وعرفت أيضا أنها كانت زميلته في الزاوية أقصد في المهنة وكانت تكتب الشعر الذي لأجله قررت إحدى  الشخصيات افتتاح الجريدة، جريدة غرفة الشاعر.
تأثر جلنار جدا بوفاتها وماكان له غير تلك الزاوية، زاوية غرفته التي كان من خلالها يصلي يناجي ويكتب، وزاوية جريدته تلك التي كنا من خلالها كلنا نقرأ...
زاوية ربطت أبناء المدينة بقلوبهم، زاوية ربطت الأرض بالسماء بكلمات تعبر عن حياة حب وصفاء...

أحد تلك الزوايا "رسالة إلى كاتبة" يعود إلى عام ١٩٩٩ كتب فيها جلنار: 


فواصل الموت  كانت بيننا كالجملة حروفها فواصل وفواصلها بكم الحروف...
كانت اتصالاتنا عن أنفسنا فاصل 
وكانت الحدود بيننا مناجاة للتواصل...
أنا جملة، وأنت جملة...
تأبى فاصلة الواقع إلا أن تربط في ما بيننا!!!

 

دعينا نلتقي خلف السحابة لمحة 
خلف السحابة حسابات الوقت 
كلها انتفت…
أنا الغافل في حياتي 
ولما في منامي التقيتك
حقيقة أنت فيّ استيقظت…
خلف السحابة نجم منصتٌ
لوردة السماء تغني أنشودة 
"اقطفني اقطفني" والوردة بين يديك بين نهديك سحرًا تفتّحت…
والشمس بدفئها مطروبة حتى هي أقفلت…
والقمر مع نسمة ليل ثمل 
طول عمرها لحبل حبه ما أفلتت…
حتى أنا من ثملته سكرتُ
أنتِ في السماء رقصتي وستارة نافذتي نفسها لنفسها أسدلت…
والشمعة شاهدة الهوى ولما بأنفاسك لامستها 
طفت عمرها للذكرى التي خلّدت…
ماذا بعد أقول؟ 
أنا كلما قلت 
سراب كان وصفي 
فالحقيقة تولد لحظة، 
للنصوص ولا للحظة نفسها سلّمت…
أنا لو حاولت الحقيقة أن أطيلها 
أطلت وهمي، والأوهام كثر بها حياتي تعثرت…
أتُرى أنتٍ في القلب محبة؟!
ما أجمل العيش معها 
هي العيش هي الحياة 
والحياة دورات لأجلها الدنيا خلقت…
غفى القمر مع نسمته 
ومدامع عيني لوجنتيِّ رطّبت…
ألقيت نفسي في كون جديد 
على وسادتي  لأول مرة نمت دوني
مع روحيَ التي انعتقت…
وفي الصباح على  فنجان قهوة
عصفورة بيضاء قرب شرفتي رفرفت…
عرفتها انتِ فخفقت بقلبي كجناحين 
تركت فنجاني، تركت حياتي ومع العصفورة،
معك، هكذا غادرَت نفسي في الأعالي حلّقت.
 


بحثت عن جلنار كثيرا، في كل وسائل التواصل الاجتماعي، حتى استعلمت من أمي عنه، فأخبرتني أن اسم جلنار هو اسم حبيبته  

أما هو فأبقى نفسه مجهول الاسم والهوية…

  2
  8
 4
مواضيع مشابهة

15 يناير  .  1 دقيقة قراءة

  0
  1
 0

04 مارس  .  2 دقيقة قراءة

  0
  1
 0

14 أكتوبر  .  3 دقائق قراءة

  1
  4
 0

06 أغسطس  .  7 دقائق قراءة

  2
  3
 1
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
أنّا كريستين عيد
06 مارس
مؤثّر جدّاً ما كتبْتَه..
  0
  1
 
زهراء جعفر
06 مارس
شكراً لمشاركتك هذه الرائعة جداً
  0
  1
 1
رنيم عزّام
12 مارس
كنتُ أبذل جهدًا لإبعاد سؤال "لمَ جلنار؟" عن رأسي ريثما أقرأ. جميل جدًا!!
  0
  1
 1
لينا شباني
15 أكتوبر
وأخيراً عرفتُ لما يُسمى رجل باسم جلنار. وعندما عرفتُ دمعت عيناي. رائع
  0
  1
 1