09 مارس . 10 دقائق قراءة . 685
كيف يمكننا إعادة المعنى لحياتنا في هذا العصر اللا إلهي المنعزل والعدمي؟
يتميز عصرنا الراهن الذي كثيرا ما تحدد بوصفه سليل الحداثة العدمية بنزعة تشاؤمية ناتجة عن تفكك اجتماعي متعدد الأبعاد. على خلاف الماضي، الذي وجدت فيه دائمًا عوامل موحدة للناس. سواء كان الدين، أو الآراء السياسية أو القومية أو المجتمع، حيث خلقت هذه الأشياء خيطًا مشتركًا يمكن للأفراد من خلاله أن يشعروا بأنهم مفيدون للمجموعة التي ينتمون لها.
غير أن كل ما سبق ذكره في الأعلى في طريقه للاختفاء بسرعة. ويمكن اعتبار هذا الاختفاء رائع من نواح كثيرة. لأن التقدم أمر حيوي لتحسين المجتمع، ومن خلال الوعي وانفتاح الفكر توصلنا إلى نتائج تتزامن مع هذا التراجع. لكن علينا الاعتراف أن لهذا التقدم أيضًا سلبيات.
لقد تزايدت معدلات الاكتئاب منذ عدة سنوات. ومثل هذا السؤال المعقد ليس من السهل ربط الإجابة عنه بعامل وحيد محدد، إذ يبدو من الواضح أن شيئًا ما في الحداثة قد أضر بصحتنا العقلية.
بالإضافة إلى ذلك نشعر بالعزلة الشديدة. حتى قبل أن ينتشر وباء الكوفيد 19 ويزيد من عزلتنا أكثر.
كل هذا قد ارتبط بإحساس بأن الكارثة وشيكة. كما أدى تغير المناخ إلى تدمير كوكبنا بطريقة مثيرة وواضحة للعيان. لقد أظهر لنا كوفيد مدى تأثير المرض علينا ومدى هشاشتنا في العالم، بل اعتبر العلماء إن هذا يمثل تهديدًا بسيطًا مقارنة بالأوبئة المحتملة في المستقبل. فالأمل قد بات نادرا.
إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها البشرية مشاكل محيرة للعقل. فقد قتل الطاعون الأسود حوالي ثلث أوروبا، ولم يكن لديهم حتى العلم لشرح ما حدث. ومع ذلك فقد أصروا على مقاومة الجوائح بالوسائل المتاحة لهم. إذن لماذا تميز عصرنا بالتشاؤم واليأس؟ ما الذي تغير ليجعلنا نشعر بأننا أصبحنا غير مهمين وعاجزين في ذات الوقت ؟
انهيار الدين:
إذا أخذنا كمثال الولايات المتحدة الأمريكية، فإننا نجد أن عدد الأشخاص الذين يعتبرون مسيحيين يتناقص بسرعة. باعتبار أن المسيحية هي الدين السائد في الولايات المتحدة، وهذا مؤشر على انخفاض عام في المشاعر الدينية. والسبب بسيط وهو يعود إلى أن التقدم العلمي والتكنولوجي يجعل من الصعب قبول الإلتزام بالعقائد الدينية المطلوبة لتعارضها في الغالب مع منطق العلم .
لقد لعب الدين سابقا دورًا تفسيريًا كبيرًا في المجتمع. ولم يعد هذا هو الحال اليوم. فنحن راضون أكثر من أي وقت مضى عما يخبرنا به العلم والعلماء عن العالم، وإذا كانت هناك فجوة معرفية، فنحن على ثقة من أن العلم سوف يملأها في الوقت المناسب.
ومع ذلك، فإن العلم لا يحل محل الدين. وفي حين أنه يمكن أن يتولى دور المعلم إلا أنه لا يتمتع بنفس القوة التوحيدية التي يتمتع بها الدين. إذ يمكنني مشاركة الإيمان بالمادة المظلمة وفاعلية اللقاحات مع من يجاورني في هذا العالم ومع ذلك أعتقد أنه ليس لدينا هدف مشترك.
الدين بهذا المعنى آخذ في التلاشي ومعه تلاشى التماسك والشعور الجماعي بأننا جميعًا جزء من عالم لهم نفس الهدف العظيم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتزاز بالانتماء الوطني يتراجع بين الناس. يضاف عليها الانقسام بين الفصائل السياسية، والسلوك الفظيع لكثير من سياسيينا الذي يقودنا إلى الابتعاد عن المعتقدات القومية والوطنية. فنحن لسنا جزء من الوطن نحن فقط نعيش فيه.
صحيح نحن البشر نعتبر كائنات اجتماعية، لكننا لا نتصرف على هذا النحو. هناك فردانية قاسية تتجلى بوضوح في مجتمع اليوم تشجعنا على التفكير في أنفسنا بمعزل عن الآخرين. ولسان حالنا يقول "إنه ليس "مجتمعي" ، إنه "أنا" فقط. هذا التفكير على هذا النحو من الأنانية والفردانية أمر غير مسبوق.
سبب هذا التغيير متعدد الأوجه. فهذا العصر هو زمن العولمة والعولمة بما هي كذلك تجعلنا لا نشعر بالارتباط نحو بلدنا الأصلي. في الظروف العادية يمكننا أن نكون في الواجهة الأخرى من العالم بمجرد حلول الليل لذا لا يوجد سوى سبب ضعيف للبقاء في نفس المكان .
ولهذا السبب أيضا، توجد أسباب أقل لمحاولة تغيير المجتمع من خلال مجرد نشاط حادث. لماذا أبقى في بلد لا أتفق معه ومع مُثله العليا بينما يمكنني الانتقال بسهولة إلى مكان آخر ؟ لماذا نقبل الإلتزام بالانخراط في عناء الخطاب العام؟
نحن اليوم نبدو أقل حماسا لمحاولة إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم ونحمل شعورا أقل بالانتماء الطبيعي. فالأمة فضاء ومساحة وليست هوية.
وهو ما يزيد من تآكل إحساسنا بالانتماء. ففي الماضي، ربما كنا قد اختلفنا بشدة على الطريقة التي كانت تدار بها الأشياء لكننا اعتنينا بالأمة التي نسميها الوطن. والثورة الفرنسية هي خير مثال على ذلك. لقد كره الثوار الحكومة لكنهم أحبوا فرنسا.
أما في هذه الأيام فنحن نكره كل البلاد وبالرغم من أن هناك من يشاركنا هذا الشعور فنحن محتالون فرديون في أرض أجنبية وليس أخوة وأخوات لأننا نحن لا نشارك هدفًا مشتركًا بمجرد مغادرة الماضي الذي كنا نعيشه في زمان ومكان آخر.
الإنتاج والنجاح والعزلة:
أخيرًا، قمنا بعزل أنفسنا بواسطة الطريقة التي بنينا بها اقتصادنا.
إذا نظرنا إلى المجتمعات الماضية لم يكن لدى الناس نفس الدافع الاجتماعي تقريبًا. كان الفلاح فلاحا. وليس بإمكانه أن يصبح ملكا. هذا يعني أن تبعية الناس للبنى الاجتماعية كان مقبولا وأنهم لم يشعروا بالضغط للتنافس مع أعضاء المجتمع الآخرين في أدوارهم المختلفة.
في حين أنه لا يزال من الصعب جدًا الارتقاء في العالم (خاصة بالنسبة للأقليات)، إلا أنه يبدو الأمر، على الأقل، أكثر معقولية .
من المؤكد أن الرأسمالية تلعب دورًا في هذا. يتم بيع "الحلم الأمريكي"، والنتيجة هي وجود عدد كبير من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم استثنائيين ومختلفين وأفضل من الآخرين.
يتم تقدير الأفراد إلى حد كبير وفقا لمبدأ الإنتاج والمردودية، والشخص الذي يحاول تحقيق أقصى استفادة لنفسه سيكون مستعبدا أكثر من الشخص الذي يشعر بالرضى والقناعة بمكانته في المجتمع. وعندما يتمكن شخص ما من إنشاء إمبراطورية تجارية من النفايات، فإننا نحتفل بها إلى ما لا نهاية.
لقد ساوينا النجاح بالشخص الصالح. ونتيجة لذلك فإن النجاح هو أمر حيوي للغاية.
بالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الأشخاص الذين هم في أدنى السلم المالي على أنهم غير جديرين بالاحترام. لأنهم إذا عملوا بجهد أكبر، وإذا اهتموا أكثر بالعمل، لاستحقوا النجاح. ونظرًا لأنهم لم ينجحوا، فإنه ينظر اليهم ككسالى. ونحن بالتأكيد لا نريد أن نكون أصدقاء مع شخص لديه مثل هذه الصفات السلبية.
فنحن أشخاص منفردون، لا نهدف إلى تحقيق منفعة جماعية بل نطمح إلى تحقيق النجاح الفردي.
طريق للمتابعة:
هذه ليست دعوة للعودة إلى القيم المحافظة. فجزء كبير من هذا التغيير هو نتيجة لتقدم الذكاء. وكون التقدم فوضوي، ونحن لم ننتهي بعد منه. يجب علينا إذن أن نجد طريقة لاستبدال الأنظمة القديمة التي أعطتنا إحساسًا جماعي بالمعنى والأمن بأخرى جديدة تنسجم مع مواقفنا التقدمية.
ولا شك أن الفن سيكون له دور هائل في هذا الشأن .
البشر كآلات سردية:
نحن نعمل من خلال مبدأ الكشف عن علاقة السبب بالنتيجة، ثم نقوم بتحويل هذه المعلومات إلى قصة. وحاليًا نفتقر إلى أي نوع من السرد يعطينا دورًا مهمًا حقًا نلعبه تجاه الإنسانية بشكل عام.
ربما نكون قد تجاوزنا فكرة المعنى الميتافيزيقي العميق للحياة، لكننا مع ذلك متحدون بشيء واحد: وهي تجربتنا المشتركة للوضع البشري.
يعمل الفن الإبداعي والتعبيري على توحيدنا إذ تسمح لنا رواية رائعة أو لوحة متحركة أو فيلم رائع، بولوج أذهان الآخرين. والتعرف فيها على وجهات نظر وتحديات مشتركة. نحن ندرك أننا لسنا وحدنا، وأنه مهما كانت مشاكلنا فردية، فإننا لا نواجهها بمفردنا بل مع مجموعة من الأشخاص الآخرين.
والفن العظيم لديه القدرة على وضعنا في مكان شخص آخر. حيث يمكننا البدء في فهم القواسم المشتركة بيننا وبين "الآخر". ويبدأ التعاطف في ملء المسافة التي بيننا.
الخاتمة:
بينما لا شيء من هذا يقودنا إلى اتجاه محدد إلا أنه يعطينا سببًا للالتقاء. إذ يمكن للفن أن يبدأ في إصلاح الروابط المتوترة بين الأفراد.
نحن نتخطى الفكرة القديمة لبعض المعاني الإلهية أو التاريخية المفروضة علينا من الخارج. المعنى إذا كان شيء، فسيأتي من الإنسانية نفسها. لن يكون مصنوعا من النجوم بل من أرواحنا.
سيتعين على الفرد دائمًا اكتشاف الأشياء بنفسه في مستوى معين. ذلك أن معالجة التهديدات الوجودية الهائلة وخلق مجتمع يتمتع فيه كل واحد منا بأفضل فرصة لإيجاد معناه الخاص سيكون عملاً جماعياً.
الفن هو الخطوة الأولى. ويجب أن نتعلم كيف نقدر الفن، وأن نعيده إلى مكانه الريادي. فلا يمكن تقييم الفن فقط بقدرته على بيع نفسه. علينا أن ندرك أهميته العميقة في توحيدنا إذا أردنا مواجهة تحديات عصرنا. عندها فقط يمكننا أن نبدأ في بناء الأمل الذي نحتاجه بشدة.