09 مارس . 5 دقائق قراءة . 891
ذات يوم اصطحبتني صديقة إلى مقهى غريب بعد أن أحست بحزن خفي يعاود ظهوره في سطور أيامي، قالت لي حينها سنذهب إلى مقهى علّة الشاعر، فألهمتني طريقة تسميتها للمقهى، ثم أخبرتني أن في مقهى علّة الشاعر تجتمع شريحة من المجتمع، تفَتّق فيهم الشعر نتيجة لوعة غياب المحبوب.
في مقهى علّة الشاعر الجميع لديه العِلّة نفسها، رحيل الحبيب. لديهم أيضا العلاج نفسه الشِعر، رغم أنه ليس العلاج إلا أنه يخفف الأعراض.
وإذ التقي هناك بصبية من عمري، صديقة قديمة لدي في الجامعة، لم نلتقِ منذ عشرة أعوام، علمت أنها تزوجت من يحبها وتحبه بعد التخرج، ثم علمت بعد عام ونيف انه رحل في الحرب التي اشتدت بعدما اندلعت، ما لم أكن أعلمه أنني سألتقي صديقة الجامعة في المقهى تردد قصيدتها:
سكنني الشعر أهذي
مخمورة لا أدري
حتى هو، حتى هو مترنحٌ نهدي
اعتادك نهدي، اعتاد صلاتك كقِبْلةَ المعبدِ
عد للحياة حبيبي هاك قلبي والروح تفدي
حتى أبيات شعري تنوح و تهذي
تبكي قصة حب من المهد إلى اللحدِ
قل لي كيف ينبض قلبُ من كان قلبَه ارتحل إلى عالم الأبدِ...
وأكملت أبيات شعرها بعاطفة أقوى من أن أتذكر كلماتها وبعد أن انتهت، عرفتني فورا تحادثنا بمرح وشوق وتذكرنا قصص الجامعة المضحكة وأسماء الدكاترة المثقفين منهم والجاهليين!
جاء دور أحد الشغيلة في القهوة، بالمناسبة إنه خبير في إعداد رأس الأركيلة، والجميع يحلف بأن النفس من تحت يديه يقدح في عصبونات الجسد كله، ربما لأنه ورث هذه المهنة من أجداد أجداده، ويقال بأن جده الأكبر هو أول من عمل بالمعسل في البلد ولذلك لُقّبت عائلته بعائلة معسل.
المهم شغيل القهوة هذا طبيب جراحة بارع، فقد حبيبته في عملية جراحية طارئة تحت يديه، بالرغم انه لم يخطئ حينها وإنما هكذا شاء القدر، إلا أنه يحمل الندم معه دوما، وكثيرا مايجلس حاملا ورقة وقلم معيدا كتابة سيناريوهات واحتمالات عديدة لتلك العملية الجراحية، كانت ربما قد تنقذ حياة حبيبته!
كان من أبيات قصيدته:
وكأسك والحانة
ما أسكرتنا خمرة
أنت من أسكرننا
حتى اختلطتِ عليَّ
فظننتك أنت أنا
وكأسك والحانة
غيرت الكأس وبدلت الحانة
والخمرة استعذبت الشعر
وكأن حروف القصيدة هي أنا
وكأسك والحانة
هناك تركت الأنا
وعدت متأرجحا
أسأل نفسي من أنا
وكأسك والحانة
متى تعودي فألتقيك
أو متى أنت تكونين أنا
وكأسك والحانة
كتبت أنفاسك قصيدة
ولما ماحلّقت
لففتها على ورق سيجارة
أشعلتها وجمعت من دخانها صورتك
نمت على الطريق
لأستيقظ في قبرك
وأقول لك ها أنا هنا...
تأثر الجميع لطريقة إلقائه أبياته تلك ثم دارت الأغاني الطربية القديم منها والجديد علها تخفف الجراح...
حتى جاء دور العم صحّي الليل كما يلقبونه،
صَحّي الليل سيد وقور في السبعين من عمره هو أيضا فقد حبيبة عمره، فقرر افتتاح منزله قهوة تجمع قصص الحب بالمحبين. يتمتع العم صحي الليل بمحبة كل من يزور القهوة، له سحره الخاص ويحتضن ألم المعلولين بحبهم أجمعين، فيقص لهم مرة مايلهمهم فيرفعهم فوق معاناتهم، وأخرى يضحكهم بقصائده الطريفة فينسيهم حالهم، فكان عنوان قصيدته هذه المرة زجاجة عطر:
زجاجة عطر
حلول الحياة في سطر
ماذا بالعطر؟
المكونات العشر؟!
وصل وهجر
عفو وجبر
شمس وبدر
قهوة وتمر
نبيذ وخمر
حجاب وسحر
دم وحبر
ورد وزهر
شعر ونثر
طهر وغمر
زجاجة عطر
بمنقوع أعشاب البحر
مع مطحون خصل الشعر
زجاجة عطر
كتبت عليها
انتبه خطر
ممنوع النشر
حتى الملك على مصر
طلب عينة هدية للقصر
أُعجِبُك
بدلت الوصفة بسم وفطر
الثعلب يحب المكر
والتوبة عنوان الغفر
بعد يوم سمعت صوتَ طبل وزمر
الشعب حملني لك كل التقدير والشكر
مبروك تعطر فرعون مصر!
لكن من نعين الآن ملكة على القصر؟!
أنتِ ما رأيك؟
وزعت بالمجان زجاجة العطر
ونزعت من عليها السعر
الشعب كله صار في سكر
يرقص بالعصا ويهز بالخصر
ما رأيك في زجاجة السحر؟
افرحي لدينا اسبوع وبالكثير شهر
نرجع إلى الأصل هنودا حمر
نلتف حول النار ونغني ما للحب من مفر
كل المشكلة حلها في زجاجة صبر...
فضحكنا كثيرا وأكملنا السهر، حتى حان وقت إقفال القهوة قبل الفجر
ذهبت أغسل يداي، وأنا أغسلها، دخل صحّي الليل وغسل يديه هو الآخر ثم نظر إليّ في المرآة وقال: تخاف من الموت؟
نظرت إليه في المرآة أنا الآخر ووجهه الوقور والدمع في مقلتيه نقي غفور
فما كان مني سوى أن نطقت: نعم أخافه...
فحدق بي هذه المرة مباشرة و بنظرة كلها أمن واحتواء:
لا تتنكر للحياة يذهب خوفك،
عامل اللحظة كما تعامل كل عمرك...
خرجت بعدها مطمئنا، ثم شكرت صديقتي على هذه الليلة الاستثنائية وقبل ذلك على حاستها الخفية.
في الصباح حضّرت لها الفطور، أكلنا، سعدنا ثم كتبت كل ذلك في سطور...
27 مايو . 27 دقيقة قراءة