14 مارس . 7 دقائق قراءة . 943
بقلم محمد خصيف - المغرب
" إنه لمن المفارقة اليوم أن نأسف عن اختفاء المعايير الجمالية للحكم على الفن المعاصر والعمل لصالح إحياء أو خلق القيم".1
كيف يمكن للعمل الفني أن يرتقي من شيئيته إلى درجة التجلي Transfiguration ليصبح أثرا فنيا؟ كيف يمكن تحديد ماهية العمل الفني؟ وهل للعمل الفني وضع يختلف عن باقي الأشياء العادية الأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي المعايير الجمالية وغير الجمالية التي تساعد على تحديد ماهية العمل الفني وفرزه عن باقي الأشياء؟
أمام حضور الاختلاف والتعددية والاختراقات التي تميز بها براديغم الفن المعاصر ـ فنون ما بعد الحداثةـ يصعب التوصل إلى أجوبة مقنعة ومرضية. فالممارسات الفنية المعاصرة خلخلت أساليب التعبير البصري وقوَّضَت المعايير الإستطيقية الأكاديمية، وأعادت ترتيب أوراق الثالوث: الفنان/العمل الفني/الفن، بل أدلت بظلالها على الحكم الجمالي، أسسه وقيمه وأخلاقياته. وهكذا يكون الفن المعاصر قد عمل على مساءلة جل نظريات الإستطيقا الكلاسيكية، إستطيقا كانط وإستطيقا هيغل وإستطيقا الرومنطيقيين الألمان شليغل وغيره. وجاءت نصوص مدرسة فرانكفورد، أدورنو على الخصوص ونظريته الإستطيقية2، لتربك بالمرة كل تلك المتون العتيقة، بتمردها المعلن والقوي على فلسفة الفن والإستطيقا جميعها. فنص أدورنو وضعهما موضع ارتجاج، أفقدهما بالمرة كل صفات البداهة والتماسك واليقين، وكشف حقيقة أنهما من "الجماليات التي لم تفعل غير السقوط في ضرب من الإستطيقا السالبة والمتنسكة التي جعلت الفن منذ كانط محروما من المتعة ومن الغاية ومن المفهوم، واختزلته في كونية غربية تحولت في آخر المطاف إلى كارثة"3 .
أصبحت أصابع الاتهام موجهة إلى الفن والعمل الفني، بل إلى الفنان نفسه. فمنذ أن عرض مارسيل دوشان أشياءه الجاهزة Ready-made، أزيحت كل معايير التقويم الجمالي وتلاشت، فظهرت المؤسسة، من بين مكونات "عالم الفن" الرئيسية، لتثمن وتحتضن أشياء اعتبرتها أعمالا فنية. وهكذا أصبح الاعتراف بالشيء أنه أثرا فنيا، ليس بناء على خصائصه وصفاته الجمالية أو التقنية، ولكن اعتمادا على التقدير الذي يمنحه له الوسط الفني، أي حسب ما اتفق وتراضى عليه أهل "عالم الفن"، أولئك الأشخاص المصرح لهم مؤسسيا بذلك. فهذه الفئة هي وحدها المسموح لها بوضع الشرط الجمالي لتحديد ماهية العمل الفني، وبالتالي أصبح بإمكانها أن تقرر ما هو فن وما ليس بفن.
يرى الفيلسوف جورج ديكي George Dickie (1925...) " أنه من الضروري إدراج شرط جمالي [إيجابي] في تحديد ماهية الفن، باعتبار أن أي عمل فني «مرشح للتقدير"، من قبل "عالم الفن"، أي مجموعة الأشخاص المصرح لهم مؤسسيا، الذين، إذا جاز التعبير، هم أمناء المتحف الخيالي musée imaginaire4، على جميع الأعمال الفنية في العالم...فالشيء الذي لا يمكن أن يكون موضوع تقدير لا يعتبر أثرا فنيا"5. لكن دانتو لا يتفق مع هذا الطرح. فهو أنه ليس مؤكدا على الإطلاق، أن يرقى الشيء إلى درجة "أثر فني" من قبل عالم الفن، حتى وفقًا لمعيار التقدير الذي قدمه ديكي كشرط جمالي.
إضافة إلى نقد دانتو لفكرة ديكي، نجد الناقد تيد كوهن Ted Cohen (1939ـ2014) يتقدم باعتراض مفاده أن هناك أشياء لا يمكن أن تؤدي إلى تقدير (إيجابي)، وبالتالي، لم يتعذر أبدا اعتبارها أعمالا فنية. هناك خصوصيات (سلبية) ربما قد تساعد على تحديد أي شيء من بين الأشياء كونه عملا فنيا. وهكذا، يستنتج الناقد كوهن أن المسألة لا تتعلق بالضرورة وبشكل حصري، بما هو مؤسسيً، كما يعتقد جورج ديكي. ومن بين الأشياء الي يستشهد بها كوهن، مبررا طرحه، "نافورة" مارسيل دوشان، كونها مُنَفِّرة، شكلا ووظيفة، لكن الأقدار شاءت أن تكون هذه النافورة إيقونة الفن الحديث!
هل الأشياء التي تُمنَح تقديرا جماليا سلبيا لا يمكنها أن تكون أعمالا فنية؟
حتى لو تم الاعتراف بأن النافورة في صيغتها القبلية، حين كانت تسمى مبولة، لا يمكنها أن تؤدي إلى تقدير جمالي (سواء كان إيجابيا أو سلبيا)، فهذا لا يعني أنها لا يمكن أن تكون عملا فنيا. والتاريخ أثبت أنها فعلا عملا فنيا...بالطبع، بطريقة أو بأخرى، يجب تمييز المبولة/العمل الفني، عن المبولة، ذات نفس المظهر الخارجي، ونفس الخصائص الفيزيائية، ولكنها لم ترق إلى مستوى الأعمال الفنية. وحتى إذا كان ليس بمقدورها إثارة تقدير جمالي، فهذا لا يعني ضمنياً أن عملا فنيا، يحمل نفس الخصائص المادية، لا يُقَدَّرُ جماليا. فالخصائص التي نود تقديرها، ستكون خصائص عمل فني وليست خصائص مبولة.
في رأي الفيلسوف ديكي أن الفرق الوحيد بين تقدير الفن وتقدير ما ليس بفن، يكمن في أن الإثنين معا يتعلقان بأشياء (objets) مختلفة. إن صفات النافورة Fountain الفيزيائية، سطحها الأبيض اللامع، وعمقها البارز بفضل انعكاسات الأشياء المحيطة، وشكلها البيضاوي اللطيف، هي في اعتقاد ديكي، نفس الخصائص المادية، التي يتقبلها الجميع ويستلذ بها، و مماثلة لتلك التي شُكِّلت بها أعمال نحتية عالمية مشهورة. ويتمثل ديكي باسمين بارزين في النحت الحديث برانكوزي Brancusi (1876ـ1957) وهنري موور Henry Moore (1898ـ1986).
لكن الفيلسوف دانتو يدحض هذه الفكرة، ليثبت أن ديكي حينما ذكر "أشياء مختلفة"، غاب عنه الانتباه إلى البون الشاسع الحاصل بين أثر الفني Œuvre d’art وشيء عادي Thing. بل إن عملية التقدير عنده مرتبطة أساسا بالشيء العياني، بينما الترشح للتقدير، حسب دانتو، يفترض أن يوضح: لماذا شيء ما هو عمل فني.
تبقى الإشكالية الفلسفية والجمالية متعلقة بسؤالين رئيسيين:
هوامش
1ـ مارك جيمنيز، الجمالية المعاصرة، الاتجاهات والرهانات، ترجمة وتقديم كمال بومنير منشورات ضفاف الطبعة الأولى، 2012 ص.106.
2ـ تيودور ف. أدورنو، نظرية إستطيقية، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، بيروت منشورات الجمل الطبعة الأولى 2017، ص. 14ـ15
3ـ بنشيخة المسكيني. أم الزين وآخرون ـ مؤانسات في الجماليات.نظريات، تجارب، رهانات، ط1 (بيروت: منشورات ضفاف، 2015، ص. 204
4ـ يرتبط هذا التعبير ارتباطًا وثيقًا بالمتحف الخيالي لأندريه مالرو، وهو مقال من عام 1947 حيث تم تقديم المبدأ الذي يحدده. منذ ذلك الحين كشفت شخصيات أخرى من عالم الثقافة والفن عن اختياراتها، مثل ميشيل بوتور في Le Musée imaginaire de Michel Butor ، وهو عمل نُشر في عام 2015 وأعيد إصداره في عام 2019.)
5- Danto, Arthur, la transfiguration du banal. Une philosophie de l’art. Editions du Seuil, 1989. p. 195