12 مارس . 4 دقائق قراءة . 1090
محمد خصيف ـ المغرب
"ما يقدره العقل هو في جميع الأوقات متفوق على ما هو مرئي للحواس الخارجية."
فيلو الإسكندرية، القرن الأول الميلادي
اعتبر كتاب "تجلي المبتذل، فلسفة الفن" للفيلسوف الأمريكي الشهير آرثور دانتو1 Arthur Danto (1924-2013) من أكثر البحوث استفزازية في فلسفة الفن التحليلية، إذ عمل على خلخلة العادات الراسخة في الفكر الجمالي بشكل أكثر فاعلية. بالنسبة للكاتب أن الفن يرتبط ارتباطا وثيقا بالتأويل والتفسير. فالتأويل يجعل الشيء يتسامى ويتشكل ليصبح عملا فنيا. (يستخدم دانتو بالتبادل، المعنى الأنطولوجي للشيء Thing والمعنى المعرفي Object، لتعيين الكيان الحقيقي البسيط الذي يعارض الكيان الفني.
تخللت الكتاب سبعة فصول:
1- آثار فنية وأشياء حقيقية بسيطة،
2- محتوى وسببية،
3- فلسفة وفن،
4- جمالية وأثر فني،
5- تأويل وتعريف،
6- آثار فنية وتمثلات بسيطة،
7- المجاز، تعبير وأسلوب.
صدر الكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1981، تحت عنوان The Transfiguration of the Commonplace. A Philosophy of Art 2 ، وفي عام 1984 نشرت ترجمته الألمانية بعنوان :
. (Die Verklärung des Gewöhnlichen. Eine Philosophie der Kunst) وفي عام 1989، صدرت عن دار النشر (Editions du Seuil) الترجمة الفرنسية، بعنوان La transfiguration du banal 3 ، استهل بمقدمة للناقد الجمالي جان ماري شيفر4 Jean-Marie Schaeffer . وفي عام 2008 صدرت ترجمته الإيطالية (La transfigurazione del banale).
كل الترجمات ركزت الاهتمام على الطرح الأساس الذي اقترحه أرتور دانتو في معالجته الجمالية للفن، محاولا تحديد ماهية للفن، مغايرة لما كان متداولا من قبل، بناءً على تساؤلات إشكالية أربكت الجمالية المعاصرة منذ فجر القرن العشرين: ما الفن؟ وما الذي يجعل العمل الفني كونه أثرا فنيا؟ تساؤلات داوم دانتو على طرحها، بدءا بمقالته التأسيسية، "عالم الفن" ، إلى عمله الأخير الذي نشر سنة وفاته، الموسوم: "ما الفن؟"5
على الرغم من الجدل الذي أُثير في الأوساط الفلسفية والنقدية، تبقى الأطروحات التي قدمها دانتو في دراسته
La transfiguration du banal، أي "تجلي المبتذل ، فلسفة الفن"، من الدراسات الأساسية في الفلسفة التحليلية للجمالية.
استحداثُ نظرية فلسفية
موازاة مع نشاطه الدراسي، انخرط دانتو في تجربة تشكيلية، مارس خلالها النقش على الخشب. فهو فيلسوف/فنان، تلونت أعماله النقشية في البداية، ببصمة المدرسة التعبيرية الألمانية، ثم نضجت في أحضان أسلوب التعبيرية التجريدية الذي عُرِفت به مدرسة نيويورك6، وحيويتها الشعورية، وطاقتها الإيمائية الصادقة.
عندما اطلع على صورة لوحة «القبلة The Kiss " لفنان البوب آرت الأمريكي رووي ليشنشتاين Roy Lichenstein (1923-1997)، منشورة على صفحة مجلة ARTnews، وهو بفرنسا، أيقن أن الفن الذي يمارسه اقترب من نهايته. لم يصدق ما رأى، وبات حائرا، مرتابا، رافضا...لكنه أيقن أخيرا أن انقلابا جذريا ستعيشه الجمالية وفلسفة الفن، أساسه التساؤل العميق الذي أثارته موجة فن البوب: "إذا كان ممكنا أن هناك فن، فما هو؟
سؤال شغل بال دانتو وشكل جانبا مهما من حياته الفكرية، ولبنة قوية تأسست عليها فلسفة الفن لديه. بعثت المقالة "The New Paintings of Common Objects”التي نشرها جون كوبلان، عام 1962 بمجلة َ Art Forum 7، شرارة أولى لنشاطه الفلسفي حول تجلي الشيء من شيئيته ليغدو أثرا فنيا. وتأججت الحرارة بعدما قام بزيارة معرض آندي وارهول8Andy Warhol لتكون سببا في ترسيخ ثوابت فلسفة جمالية واعدة.
كانت زيارة الفيلسوف أرتور دانتو إلى معرض الفنان أندي واروول، الذي نظمه برواق Stable Gallery بنيويورك عام 1964، حافزا أساسيا لتأليف La transfiguration du banal. فقد شد بقوة اهتمام دانتو عمل وارهول (Brillo Boxes)، فكتب مقالته الشهيرة الموسومة: "أي شيء يمكن أن يكون فنًا ولكن ليس كل شيء فنا"9، تساءل فيها عن الكيفية التي يمكن من خلالها تمييز عمل أندي وارهول عن صناديق Brillo الموجودة بالأسواق التجارية. في رأي دانتو أن آندي وارهول لم يغير طريقة النظر إلى الأشياء فحسب، بل أكثر من ذلك، غير طريقة التفكير فيها. فلم تقتصر النتيجة فقط، على ابتكارٍ نوعٍ جديد من الخبرة الجمالية، بل أرست قواعد فلسفةٍ جديدةٍ للفن، اعتبرت العمل الفني موضوعا للتأويل، بدلاً من كونه قطعة أثرية.
ارتأينا أن نستعرض مقطعا من مقالة دانتو لأهميته:
"يعرض السيد أندي وارهول فنان البوب نسخا طبق الأصل (fac-similés ) لصناديق Brillo ، مكدسة فوق بعضها البعض، في أكوام أنيقة، كما هو الحال في مستودع سوبر ماركت. الصناديق مصنوعة من الخشب، ومصبوغة وكأنها من الكرتون، ولماذا لا؟ [...] في الواقع، يمكن لأصحاب شركة Brillo أن يصنعوا صندوقهم من الخشب المعاكس دون أن تتحول الصناديق آثارا فنية. ويمكن لوارهول صنعها من الورق المقوى دون أن تتوقف عن كونها فنًا. حتى لا ننسى الأسئلة ذات القيمة الجوهرية، نتساءل لماذا لا يستطيع أصحاب شركة Brillo صنع الفن، ولماذا وارهول لا يصنع سوى أعمالا فنية فقط. […] ما الذي يجعل صناديقه آثارا فنية؟ […] لا يهم إذا كان صندوق Brillo ليس فنًا جيدًا، ناهيك عن أن يكون فنا عظيما، لكن من العجب اعتبارُه من الفن! إذن، إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تعد صناديق برييو المعتادة، هي الأخرى فنا؟
الجواب: أن "المستودع ليس رواقا فنيًا. […] وخارج الرواق، تبقى صناديق بسيطة. […] إن الفنان فشل في إنتاج شيء حقيقي بسيط، لكنه أنتج عملا فنيا. واستخدامه لصناديق Brillo ما هو إلا مجرد امتداد للموارد والخامات المتوفرة لدى الفنانين. في نهاية المطاف، إن ما يجعل الفرق بين صندوق Brillo، وعمل فني يتكون من الصندوق نفسه، هو نظرية معينة في الفن. إن النظرية هي التي جلبت الصندوق إلى عالم الفن، وحالت دون الاستمرار في اختزال نفسه، محتفظا على شيئيته. فبدون النظرية، لن نعتبر صناديق وارهول من الفن"10.
كلام أرتور دانتو يجعلنا نطرح أسئلة تتعلق بصميم أنطولوجيا الأثر الفني وحضوره كشيء متميز عن أشياء عادية، أو مبتذلة Banal، ولو كانت من جنسه، خاضعا لأوصاف المماثلة والتطابق. فيما مضى، صرح ليبنز Leibniz أنه إذا كان شيئان يتمتعان بنفس الخصائص النوعية، فإنهما متطابقان. لكن صناديق Brillo المصنعة، وصناديق Brillo الفنية، خرجت عن هذه القاعدة، مما يدفعنا إلى التساؤل: كيف يمكن للعمل الفني أن يرتقي من شيئيته إلى درجة التجلي Transfiguration ليصبح أثرا فنيا؟ كيف يمكن تحديد ماهية العمل الفني؟ وهل للعمل الفني وضع يختلف عن باقي الأشياء العادية الأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي المعايير الجمالية وغير الجمالية التي تساعد على تحديد ماهية العمل الفني وفرزه عن باقي الأشياء؟
يتبع.
هوامش
1 آرثر كولمان دانتو، (1924 ـ 2013)، فيلسوف وناقد فني أمريكي. كان رئيسًا للجمعية الفلسفية الأمريكية والجمعية الأمريكية الجمالية. على الرغم من أنه كتب عن العديد من الموضوعات (فلسفة الفعل وفلسفة التاريخ وفلسفة المعرفة)، إلا أنه معروف بشكل رئيسي بأعماله في الإستطيقا. يعتبر، إلى جانب نيلسون جودمان، من أشهر ممثلي الجماليات التحليلية الأمريكية.
ألف آرثر دانتو العديد من المقالات والكتب في الفلسفة والنقد الفني. إن سوء فهم مقولة "عالم الفن" التي أوردها دانتو في مقالته المنشورة عام 1964، قاد الفيلسوف جورج ديكي إلى صياغة "النظرية المؤسسية للفن" "institutional theory of art". مما دفع بدانتو إلى الانفصال عن تفسير ديكي ليحدد أطروحاته الفلسفية حول العمل الفني في The Transfiguration of the Commonplace. A Philosophy of Art.
2 Danto, Arthur C. (1981). The Transfiguration of the Commonplace. A Philosophy of Art, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts.
(The transfiguration of the Commonplace)3 جاء الإصدار الأساسي تحت عنوان
4 جان ماري شيفر Jean-Marie Schaeffer (ولد في 18 مايو 1952) فيلسوف الاستقبال الجمالي وتعريف الفن. وهو باحث في CNRS ، ومدير الدراسات في EHESS.(ويكيبيديا)
5 Arthur Danto, « The Artworld », The Journal of Philosophy, volume 61, n° 19, American Philosophical Association Eastern Division Sixty-First Annual Meeting, 15 octobre 1964, trad. Danielle Lories, « Le Monde de l’art », in Danielle Lories (éd.), Philosophie analytique et esthétique, Paris, Klincksieck, 1988, p. 183-198.
6 Arthur Danto, What Art Is, New Haven & Londres, Yale University Press, 2013, trad. Séverine Weiss, Ce qu’est l’art, Paris et Fécamp, Questions théoriques et Post-éditions, 2015
7 التعبيرية التجريدية أو تجريدية التعبير Abstract Expressionism، مذهب في الرسم نشأ في الولايات المتحدة الأميركية خلال الخمسينات من القرن العشرين وانتشر بعدُ في أوروبا. يقوم على نظرية تقول بأن الألوان والخطوط والأشكال، إذا ما استُخدمت بحريّة في تركيب غير رسمي، أقدرُ على التعبير وإبهاج البَصَر منها حين تُستخدم وفقاً للمفاهيم الرسمية أو حين تُستعمل لتمثيل الأشياء. من أبرز ممثليها جاكسون بولوك هوفمان وأرشيل غوركي، وفرانز كلاين، وكلايفورد ستيل، وهانس هوفمان، ويليم دي كوننغ... ونحاتين كثر منهم على وجه الخصوص ديفيد سميث، وزوجته دوروثي ديهنر. إلى جانب المصورين والنحاتين كان لمدرسة نيويورك التعبيرية التجريدية أيضًا عدد من الشعراء الداعمين لها، والمصورون الفوتوغرافيون مثل آرون سيسكيند وفريد مكداره (الذي وثق كتابه «عالم الفنانين بالصور» مدرسة نيويورك خلال الخمسينيات)، وصناع الأفلام أيضًا-وخاصةً روبرت فرانك. رغم انتشار المدرسة التعبيرية التجريدية بسرعة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، إلا أن المراكز الرئيسية لهذا الأسلوب كانت مدينة نيويورك ومنطقة خليج سان فرانسيسكو في كاليفورنيا. (ويكيبيديا)
8 Coplan, John, "The New Paintings of Common Objects”, Art Forum, October 1962, Volume 1, pp. 26, 27, 28, 29, 30
9 ولد أندي واره في 6 أغسطس 1928 في بيتسبرغ، بنسلفانيا، الولايات المتحدة، وتوفي في 22 فبراير 1987 في نيويورك، وهو فنان أمريكي، أحد الممثلين الرئيسيين لفن البوب. وارهول معروف في جميع أنحاء العالم لعمله كرسام ومنتج موسيقي ومؤلف لأفلامه الطليعية وعلاقاته بالمثقفين ومشاهير هوليوود والأرستقراطيين الأثرياء. على الرغم من أن عمل وارهول لا يزال مثيرًا للجدل، فقد كان موضوعًا للعديد من المعارض والكتب والأفلام منذ وفاته. يُعرف آندري وارهو بشكل عام بأنه أحد أعظم الفنانين في القرن العشرين. (ويكيبيديا)
10 Danto, Arthur C. (1964). The Bartold. The Journal of Philosophie 61(19) : p. 571-584.