02 أبريل . 5 دقائق قراءة . 617
في ذلك النّهار، لمعت عينا ضابط الأمن وامتلأ قلبه بشعورٍ افتقده منذ زمن. أحسّ بسحر تلك المعلّمة لحظة رؤيته لها. كان جمالها يضجّ بالأنوثة؛ بشرةٌ عشقت الشّمس، فطربت للطافتها وذابت من رقّتها، ولكنّها لم تسمح لها النّوم في سريرها الحنطي، ولا مغازلة سُمرتها المكحّلة بنشوة التّراب.. وجسدٌ تحايل على سنابل قمحٍ امتشقت الأرض وهي تقبّل نسمةً صباحية، ليسرق منها رقصتها النّاعسة وتمايلها المفتون، ويغوي بهما نهدين يتلصّصان على صدرٍ غارقٍ في النّعومة، ومتأنّقٍ في الإثارة، وبارعٍ في عشق العيون الهاربة إلى الحيرة.. ووجهٌ تمرّد على شَعرٍ أسود مغناجٍ، وامتلأ سلامًا وطيبة، واستكان وسط إشراقةٍ ملهوفة تُراقص "غمّازتين" زنّرتا خدّين خجولين، وتداعب شفتين سابحتين في بحرٍ من ذوبان، وتعانق عينين انسكبتا في بريقٍ عسليٍّ يُقارع سوادًا وينافسه على طلب ودّ السّحر، ويزاحمه على التظلّل تحت رموشٍ تحاول عبثًا التستّر على مسحة ألمٍ مستلقية فوق نهم النّضوج..
لقد أسر جمالها ذلك الضّابط، وكلماتها الرّقيقة اخترقت حنينه إلى العشق والصّفاء. لم يعرف ما أصابه؛ فهو لم يعايش مثل هذه اللّحظات. أعجبته، فخطفت تفكيره. لاحظ هذا الأمر مساعده وزوجته خلال تناولهما طعام الغداء معه، فقد شعرا بشروده بين الحين والآخر. ظنّا بدايةً أنّه يفكّر في زوجته التي توفّيت قبل نحو شهر، فلم يشاءا إزعاجه أو التطفّل بطرح الأسئلة عليه، لكنّه فاجأهما حينما سأل صاحب المنزل:
*أمعلّمة "جيزال" متزوّجة؟
نظر الزّوجان إلى بعضهما بعضًا بدهشة!.. أجابت الزّوجة:
- لا أظنّ.
استدرك الأمر، وقال ببعض الارتباك:
*أردت السّؤال لأنّني لاحظت كم كانت حنونًا مع الأطفال، فقلت في نفسي إنّها ومن دون أدنى شكٍّ متزوّجة وأمّ في الوقت ذاته.
قال له مساعده:
- عادةً، المعلّمات في قسم الرّوضة يتميّزن بالحنان والعطف على الأطفال.
أكمل الجميع تناول الطّعام، ثمّ غادر العقيد المنزل بعد فترة، فجلس الزّوجان يتحدّثان عنه. قالت الزّوجة:
- إذا لم أكن مخطئة، فهو معجبٌ بمعلّمة ابنتك.
*هذه هي المرّة الأولى التي يراها فيها.
قالت له ضاحكة:
- وهل أنت انتظرت مرّةً ثانية كي تُعجب بي؟!..
ضحك، وقال:
*أرجو أن يكون قد أُعجب بها، فهو بحاجةٍ إلى زوجة.
غرقا في الحديث عنه. اقترح طارق أن يهيّء لقاءً يجمع سمير بباسمة. وافقته زوجته، ورأيا أنّ أنسب توقيتٍ للموضوع هو موعد الاحتفال الذي سيقيمانه في الذّكرى الثالثة لمولد "جيزال"، والذي يصادف بعد ثلاثة أيّام.
صباح اليوم التّالي، أبلغ طارق سميرًا بدعوته لحضور الاحتفال. قال له:
- أنا أعرف "سيدنا" أنّك في فترة حداد، ولكنّ الاحتفال بسيط، و"جيزال" ستنزعج إذا لم تحضر.
*سأحضر. اطمئن.. ولكن، هل المدعوّون كثر؟
- لا.. مجموعةٌ من رفاق ابنتي الصّغار وبعض الكبار، ومنهم معلّمتها باسمة الحسّان.
ما كاد يلفظ اسمها، حتّى انفرجت أسارير سمير، لكنّه عمل على إخفاء الفرحة التي غمرته. كان قد صمّم قبل يوم، أن يفعل المستحيل كي يعود ويلتقي تلك الشابّة. فكّر فيها كثيرًا عند المساء. دخلت إلى قلبه كنسمةٍ صباحيّة تتغلّل في وريقات وردة، وكقطرات ندى تقبّل جبين شجرة ياسمين. تسلّلت إلى روحه كبحرٍ ساج، فأيقظت شبابه المسجون خلف قضبان العمل القاسي، وجدران الارتباط العاطفي المضجر. حملت إليه تلك الشابّة أحلام المراهقين وزرعتها في عينيه، ونزعت عن قلبه الطّبقة السّميكة المغلّفة بنجومٍ مرصّعةٍ علّمته القساوة والاستغلال والبطش. أهدته تلك الجميلة باقة لطافةٍ وسكون. نثرت رقّتها فوق صدره فانشرح، وأرخت بظلال ابتسامتها فوق شفاهه فابتسم عندما كان جالسًا على مقعده وحيدًا في مساءٍ بات يشبه نفقًا مظلمًا لا نهاية له.
جاء يوم الاحتفال بمولد "جيزال". التقى ضابط الأمن معلّمة الطّفلة في منزل مساعده. استطاع أن يحدّثها لوقتٍ طويل. عبّر لها عن إعجابه بها بعد أن عرف أنّها غير متزوّجة. أبلغها أنّه أرمل ولم يعلمها متى توفّيت زوجته. عرف أنّها طالبةٌ جامعيّة أيضًا، كما عرف أنّها تعيش مع أمّها. لم تقل له أيّة تفاصيل أخرى، فاللّقاء الأوّل بين شخصين يتّسم عادةً بالحذر والكتمان لأسبابٍ قد يكون لها علاقة بقدسيّة الخصوصيّة فينا. سألته إذا ما كان ضابطًا في الجيش، فاقترب منها وهمس في أذنها ضاحكًا:
*"بشرفك!.. وجّي وج ضابط جيش؟!".. وهل برأيك أستطيع الصّمود في هذه المؤسّسة المنضبطة والصّارمة؟!..
ابتسمت، ولم تعلّق. أمضيا وقتًا لطيفًا معًا، وقبل أن ينتهي الاحتفال ويغادرا، قال لها برقّة:
*أطمع بلقاءٍ آخر معك بعيدًا عن صراخ الأطفال واحتفالاتهم، فما رأيك بتناول العشاء سويًّا مساء الغد؟
قالت له بقليلٍ من الخجل:
- أعتذر منك.
*أيّ مساءٍ آخر لا بأس.
- أيضًا أعتذر، فظروفي لا تسمح.
*الغداء إذًا!.. "التّرويقة"!..
ضحكت، وقالت:
- أشكرك على لطفك. كنت أتمنّى تلبية دعوتك، لكنّني..
وقبل أن تكمل، أدرك أنّها ستقول شيئًا لن يرضيه، فسألها:
*هل أنت مرتبطة؟
- بصراحة!.. نعم.. ثمّة شابٌ يريد الزّواج بي، وأنا على وشك الاقتران به.
دُهش حينما سمعها!.. أحسّ وكأنّ دلوًا مليئًا بالمياه الباردة قد سُكب فوق رأسه، لكنّه وهو الضّابط الصّلب، لملم ذاته، وقال لها ببرودة:
*هذا شيءٌ يفرحني. أتمنّى لك السّعادة.
مرّت تلك اللّيلة ثقيلةً عليه. شعر بأنّه أضاع حلم حياته. ازداد إعجابًا بالشابّة الجميلة بعد لقائه بها والحديث إليها، لكنّه خسرها قبل أن يتنعّم بسحر جمالها ولطافة معشرها.
في اليوم التّالي، علم طارق بالأمر. أراد معرفة ما استجدّ خلال الاحتفال بذكرى مولد ابنته، فسأله:
- هل كنت مرتاحًا أمس "سيدنا"؟
*في البداية، نعم. لكنّ النّهاية لم تكن مريحة.
أبلغه أنّه أمضى وقتًا طويلاً يتحدّث فيه إلى معلّمة "جيزال" لأنّها تعجبه، ثمّ قال له:
*للأسف!.. هي على أبواب الزّواج.
لم يعلّق النّقيب على الموضوع. أزعجه الأمر قليلاً، لكنّه لم يستطع قول شيء، فانصرف الاثنان إلى أعمالهما استعدادًا لليوم التّالي، يوم تسلّم رئيس الجمهوريّة الجديد مهامه.
(يتبع)