20 مارس . 7 دقائق قراءة . 625
مرّت شهور الصّيف ثقيلةً على ضابط الأمن. كان نشاط الباحث العائد من كندا يزداد. باتت مجلّته منبرًا لانتقاد وزير البيئة والدّولة. بدأ مركز الدّراسات والأبحاث البيئيّة الذي أنشأه، يستقطب المهتمّين بالشّأن البيئي، وشريحةً واسعة من المثقّفين والطلاّب. لم يدرك ضابط الأمن أنّ هذه النّشاطات إنّما تساعد على تفعيل الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعلى تصويب الأخطاء والحياة الديمقراطيّة؛ بل أمعن في رسم المخطّطات لإفشال صاحب هذا المشروع، فأمثاله، وهم ينفّذون أوامر قيادتهم، ويضحّون في سبيل هذه القيادة، قد يدركون أنّهم مخطئون، لكنّهم لا يستطيعوا مخالفة هذه الأوامر، إنّما يستميتون في تطبيقها، لينحرف بعضها عن مهمّة رجل الأمن الحقيقي في بلدٍ ديمقراطي، والتي تتلخّص بالحفاظ على حياة المواطنين وأمنهم وحريّاتهم وصون كراماتهم وحريّة التّعبير عن آرائهم ومعتقداتهم.
* * *
في ذلك اليوم الماطر من شهر تشرين الأوّل، خرج سمير حصرمي من الاجتماع الصّباحي في مركز عمله، وكلّه أملٌ في لجم أحمد عامر وقطع الطّريق على فريد عطا الذي لم تكن نشاطاته بعد توازي تلك التي يمارسها صديق عمره. أدرك العقيد أنّ ما سمعه من رئيسه في ذلك الاجتماع، إنّما يبشّر بإعطائه صلاحيّات أكبر تساعده على الإطباق على الرّجلين، فباشر على الفور بدراسة بعض الملفّات لوضع خطّة جديدة تحقّق أهدافه، لكن، تعرّض زوجته لحادث سيرٍ وذهابه إلى المستشفى، أعاق عمله.
انشغل بوضع زوجته الحرج طيلة ذلك اليوم. حضر والد الزّوجة ووالدتها والأقارب إلى المستشفى. حاول الأطبّاء إنقاذها من الموت بإجراء عمليّتين جراحيّتين لها في المخ، ولكن من دون جدوى، إلى أن فارقت الحياة عند السّابعة مساء. كان الأستاذ الجامعي حينها قد غادر إلى منزله تاركًا زوجته في غرفة العناية المركّزة فاقدة الوعي. لم يعرف أنّ زوجة العقيد قد توفّيت. قرأ الخبر صباح اليوم التّالي في إحدى الصّحف. اتّصل على الفور بأحمد، وأخبره بأنّ أحد الأشخاص الذي التقاه في المستشفى وهو برتبة عقيد، قد توفّيت زوجته، ولديه النيّة بتقديم واجب التّعزية إليه. سأله عن إمكانيّة مرافقته، فوافق، واتّفق الاثنان على الذّهاب مساءً إلى منزل زوج الفقيدة للقيام بواجبهما تجاهه.
لم يكن فريد يعرف لأيّ فرعٍ أمني أو عسكري يتبع سمير. لم يتسنّ له سؤاله عن الموضوع، فقرّر الاستفسار عن الأمر خلال زيارته المسائيّة له إذا سمحت الظّروف بذلك.
جاء المساء، فتوجّه مع صديقه إلى منزل العقيد. كان يعجّ بالمعزّين. تفاجأ صاحب المنزل بهما!.. لم يتوقّع رؤيتهما. اقترب الاثنان منه وصافحاه وواسياه ببضع كلمات، وقبل أن يجلسا، أراد فريد أن يعرّف بصديقه، فقال للزّوج المفجوع:
- الدكتور أحمد عامر.
أجابه ببرودة:
- لي الشّرف. الدكتور عامر "أشهر من نار على علم"..
جلسا على مقعدين بعيدين عنه قليلاً، وقُدّمت إليهما القهوة. بعد دقائق قصيرة، غادر شخصان المكان. كانا يجلسان قرب سمير، وقبل أن يتواريا، اقترب شخصٌ من الأستاذ الجامعي، وقال له:
- تفضّل دكتور، أنت والدكتور عامر.
طلب منهما الجلوس قرب زوج الفقيدة. قال له فريد:
*"ماشي الحال".
- لا. قيمتكما كبيرة. تفضّلا..
اقتربا وجلسا. بدأ الثّلاثة يتبادلون الأحاديث عن الموت والقدر. كانت أحاديث مقتضبة تخلّلها الصّمت لمرّاتٍ عدّة. ثمّ سأل فريد سميرًا:
- عقيد!.. حضرتك في أيّ فرع؟
أجابه:
- أنا ضابطٌ إداري في وزارة الدّاخلية.
أنهى كلامه ثمّ تناول بطاقة تعريف صغيرة من جيبه قدّمها إليه. قرأ فيها: العقيد سمير حصرمي، بالإضافة إلى رقم هاتف خلوي من دون عنوان.
كذب ضابط الأمن على الأستاذ الجامعي. لم يكن مستعدًّا ليقول له في أيّ جهازٍ أمنيٍّ هو، فعمله يفرض عليه مثل هذه التّغطية ومثل هذا الجواب، ولن يُقدم على ارتكاب خطأٍ يثير الشّكوك والشّبهات حوله، ولا على خطوةٍ ناقصة تنسف كلّ مخطّطاته وأهدافه.
مكث الصّديقان نحو ثلث ساعةٍ ثمّ غادرا. بدأ المعزّون وأهل الفقيدة وأقاربها يغادرون تباعًا، وعند السّاعة الثّامنة، لم يبقَ في المنزل سوى النّقيب طارق أبو حباب الذي كان يساعد في استقبال المعزّين مع ضابطين غيره.
أراد النّقيب المغادرة، لكنّ سميرًا طلب إليه المكوث لبعض الوقت. راح الرّجلان يتحدّثان عن اليوم المرهق الذي مرّا به، ثمّ انتقلا إلى الحديث عن فريد وأحمد. قال طارق:
- تفاجأت بحضورهما!..
*وأنا أيضًا. لقد صودف وتعرّفت إلى فريد عطا أمس في المستشفى؛ فزوجته مريضة. ولكن، قدوم أحمد عامر فاجأني!..
- هل سيبدّل هذا الأمر شيئًا بالنّسبة إلى ملفّيهما؟
*بادرة جيّدة منهما، ولكن، هذا لا يعني أن نوقف عملنا. كلّ شيءٍ باقٍ على حاله، فنحن لا نجمع بين المشاعر والواجب، والاثنان اللّذان حضرا إلى هنا، جاءا فقط ليقدّما واجب التّعزية بوفاة زوجتي. إيّاك والخطأ نقيب!.. أيّ خطأ في عملنا يعني النّهاية، فشقيقك هو شقيقك بالهويّة، ولكنّه في إطار عملنا مثله مثل أيّ شخصٍ آخر.
غاصا في الحديث عن الواجب والمشاعر على الرّغم من التّعب الذي أصابهما، ثمّ انتقلا مجدّدًا إلى الحديث عن اليوم المرهق الذي مرّا به، وعن مراسم الدّفن المقرّرة في اليوم التّالي. فجأةً!.. تنهّد العقيد، وقال بأسى:
*كالحلم، موتها كالحلم!.. لقد اختارت مصيرها بنفسها. عنيدة!.. أقلّ الأشياء كان يغضبها.
لم يفهم مساعده بدايةً السّبب الذي دفعه إلى التفوّه بهذه الكلمات، لكنّه عاد فأدرك أنّ ضابط الأمن الجالس معه، يحاول أن يخرج ما في صدره للتّخفيف من ألمه. أدرك ذلك سريعًا عندما سمعه يقول:
*قبل أسبوعين احتفلنا بعيد زواجنا الحادي عشر. قاسية!.. كانت قاسيةً جدًّا، وزواجنا كان "غلطة العمر". حلمتُ يومها بالمجد والسّلطة. أنا لم أتزوّجها؛ بل تزوّجت سلطة أبيها.
نظر طارق إليه بدهشة!.. لاحظ ذلك، فقال له:
*قد يفاجئك كلامي نقيب، فاعذرني!.. لكنّني بأمسّ الحاجة إلى التحدّث أمام أحد، وللأسف ليس لديّ أصدقاء. كلّ الذّين أعرفهم إمّا هم زملاء أو أصحاب عاديّين أو أشخاص تربطني بهم مصالح معيّنة. اعذرني!.. فلربّما أنت الوحيد الذي تربطني به صداقة.
- لا عليك "سيدنا". إذا كان الأمر يريحك فلا بأس!.. "فضفض"..
(يتبع)