الغرفة السفليّة (الجزء الثّامن والعشرون)

30 يونيو  .   6 دقائق قراءة  .    555

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

كان الكلام الذي دار في ذلك المساء كافيًا لإقناع أحمد عامر بالتّخفيف من نشاطاته وهجومه على السّلطة. ساعده في الأمر قناعته الشخصيّة بأنّ الخطوة التّالية بحقّه قد تكلّفه حياته.

نجح سمير في مهمّته حينها. رسّخ علاقته بالرّجلين الصّديقين، وتناوب الثّلاثة على الالتقاء بين الحين والآخر لتبادل الأحاديث المتعدّدة الاتّجاهات.

انصرف الصّديقان إلى العمل البيئي من خلال الجمعيّة، وبقيت المجلّة تصدر وتتعاطى الموضوعات البيئيّة من دون التطرّق إلى السّياسة إلاّ من بابٍ أقرب إلى رفع العتب منه إلى الواقع، كما بات مركز الدّراسات والأبحاث يهتمّ بالمسائل ذاتها، إلى أن جاء شهر تمّوز.

في ذلك الشّهر، عاد الباحث الأكاديمي إلى موقعه الذي عُرف من خلاله بعد أن كان قد استغرق في صمته القلق لشهورٍ خلت. نشر في مجلّته مقالاً ناريًّا. قرأه  ضابط الأمن فامتعض وغضب. اتّصل به بعد يومين. قال له مصطنعًا الضّحك:

*ما هذا يا دكتور؟!.. لقد أطلقت النّار هذه المرّة من فوهة مدفع.

- صدّقني أيّها العقيد، السّكوت لا ينفع.

*أريد أن أتناقش الأمر معك، فما رأيك بتناول العشاء سويًّا هذه اللّيلة؟.. ثمّة مطعمٌ ساحرٌ في "جونيه" تخاله في قلب البحر. المكان قريب من منزلك. ما رأيك؟!..

- موافق.

*إذًا نلتقي عند الثّامنة. سأتّصل أيضًا بالدكتور فريد. أيناسبك الوقت؟!..

- ممتاز!.. وأظنّه يناسب صديقنا أيضًا.

*أرجو أن تصطحب زوجتك معك، فأنا سأكون برفقة زوجة المستقبل.

أظهر أحمد سعادته عندما سمع كلامه، قائلاً:

- هذا خبرٌ يفرحني كثيرًا.

*لا أريد أن تكون صداقتنا مقتصرة علينا نحن فقط، أريد بناء علاقاتٍ عائليّةٍ مميّزة أيضًا، في المستقبل طبعًا.

- في المستقبل القريب إن شاء الله.

أنهى الرّجلان كلامهما بعد أن حصل "الدكتور" على عنوان المطعم في "جونيه". كان سمير جادًّا بقوله أنّه سيكون برفقة زوجة المستقبل. لم تكن المقصودة من كلامه سوى باسمة ذاتها؛ فعلاقة الاثنين تطورّت كثيرًا منذ بداية معرفتهما ببعضهما بعضًا. عرف كلّ شخصٍ الكثير عن الآخر، لكنّ ما عرفه ضابط الأمن عن الشابّة الجميلة كان أكثر، فقد أخبرته بقصّة زواجها كما فعلت مع رامز، وكشفت له عن وضعها العائلي بكلّ تفاصيله، ورافقها مرّاتٍ عدّة في زياراتها إلى "هادي". كان كريمًا معها وحبيبًا، فشعرت بحبّها له، وتعلّقت به. رأت فيه الرّجل الذي تفتّش عنه منذ سنوات: فهو وسيم، منفتح، كريم، يحبّها ويحترمها، وحريصٌ عليها ويحميها، وتشعر بالأمان معه. دخل عقلها قبل قلبها. أعاد إليها إحساسها بأنوثتها، فرغبت برجولته والاستراحة فوق صدره. وهبته جسدها وقدّمت إليه جمالها ورقّتها تعبيرًا عن حبّها له، وغمرتها سعادةٌ لم تتلمّسها منذ سنوات.. في إحدى اللّيالي، رغبت فيه بجنون. كانا يتناولان العشاء في أحد المطاعم الذي يغلب عليه الطّابع الرّومنسي. تبادلا النّظرات والابتسامات واللّمسات، وأحيانًا في ظلّ الأضواء الخافتة، القبلات النّاعسة. أرادت أن ترتمي في تلك اللّحظات بين أحضانه. لم تستطع إنهاء عشائها. همّت بالطّلب إليه اصطحابها إلى شقّته، لكنّه سبقها بطلبٍ كانت تتوقّعه، ومع ذلك فاجأها!.. سألها:

*أتتزوّجينني؟!.. 

- هل أنت جاد؟!..

*وهل عمري يسمح لي بالمزاح في مثل هذه الأمور؟

- لا، لم أقصد. ولكن..

*ولكن ماذا؟!..

- فكرة الزّواج باتت تخيفني.

*أما زالت قصّتك مع رامز تلاحقك؟

- لا أبدًا، فالموضوع أبعد من ذلك..

وقبل أن تكمل قاطعها، وقال بحنان:

*نحن نحبّ بعضنا بعضًا. أريد أن يكبر هذا الحبّ، وأنت تريدين ذلك أيضًا. أرغب في أن يكون حبّنا في الضّوء، نكون زوجين، ونبني عائلة. سأكون سعيدًا بوجودي قربك على الدّوام، وسأكون أسعد إذا أكرمنا الله بأطفال.

نظرت إليه بقلق، وقالت:

- بصراحة، هذا ما يخيفني!.. أخاف الزّواج بك وإنجاب الأطفال، لأنّ هذا الأمر قد يبعدني عن "هادي".

*لا، لن يبعدك عنه.

- سأقصّر بواجباتي تجاهه..

طال حديثهما في تلك اللّيلة. ناقشا الأمر مطوّلاً. لم ترق فكرة الزّواج لها، فقد أدركت أنّ هذه الخطوة ستقتل حبّها له، وستخلق مشكلاتٍ كثيرة في المستقبل في حال أنجبت أطفالاً جددًا. هي تعرف تمامًا أنّها سعيدة معه، ولا مشكلة لديها بهذه العلاقة العاطفيّة ما دامت مقتنعة بها وتشعر بالأمان والحبّ والسّعادة. لكنّه أصرّ على طلبه ورفض أن يستمر بعلاقته معها بالشّكل الذي هو فيه لوقتٍ طويل، ليس لأنّ مثل هذه العلاقة لا يحبّذها المجتمع الشّرقي، ولا لأنّها قد تؤثّر على مركزه، نظرًا لأنّها غير شرعيّةٍ بنظر القانون والنّاس، بل لأنّه يريد أن يكون لديه أطفالٌ يحملون اسمه. حاول بشتّى الطّرق إقناعها بالزّواج به، وأمام إصراره، قالت له أخيرًا:

- امنحني بعض الوقت للتّفكير.

*ألا تحبّينني؟

- بلى!.. أحبّك كثيرًا وأنت تعرف ذلك، لكنّني بحاجةٍ إلى وقتٍ أطول للتأكّد من أنّ هذا الحبّ لن يقف في طريقه أيّ شيءٍ في المستقبل.

*لماذا تتردّدين؟

- بعض الوقت فقط!..

*أنا أعتبر طلبك هذا موافقة، ومع ذلك سأمنحك وقتًا للتّفكير؛ أسبوعان كحدٍّ أقصى.

أنهى الاثنان عشاءهما وانصرفا، وقبل مرور أسبوعين، أبلغته موافقتها المبدئيّة على فكرة الزّواج، لكنّها وضعت شرطين لذلك، أوّلهما: بقاء والدتها معها. وثانيهما: عدم الارتباط بخطوبةٍ رسميّةٍ وإبقاء علاقتهما على ما هي عليه للتأكّد أكثر من أنّ هذا الحبّ الذي تكنّه له هو حقيقيٌّ ولن يهتزّ. 

وافقها مرغمًا لأنّه لم يرد خسارتها. قال لها:

*حسنًا!.. سأتفهّم طلبك هذا، ولكن أرجوك ألا تطيلي.

- أرجوك!.. أنت حبيبي فلا تستعجل الأمور. إن أردت الارتباط بك كزوجة، فهذا يعني أنّني سأقبل على هذه الخطوة بكلّ قناعةٍ وارتياح.

كانت صادقةً بما طرحته عليه، لكنّها لم تدرك أنّها ستكون على موعدٍ جديدٍ مع قدرها الذي لم ييأس من ملاحقتها، والذي تربّص بها هذه المرّة في أحد المطاعم السّاحرة في "جونيه"، حيث موعد ضابط الأمن مع أحمد وآنا وفريد.

                                                                                       (يتبع)

 

  3
  3
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال