02 أبريل . 6 دقائق قراءة . 516
لم تكن المدرّسة الشابّة تخدع ضابط الأمن عندما أخبرته أنّها على وشك الزّواج، ولم يكن الشّاب الذي طلب يدها سوى رامز حَميد ذاته. فلقاؤها به تواصل طيلة الفترة الماضية، وتطوّرت علاقتهما وتعمّقت. اقتنعت أخيرًا بأنّه رجلٌ يحبّها ومستعدّ للتّضحية من أجلها وأجل أمّها وولدها. كانت قد طلبت إليه قبل نحو ثلاثة شهور، أن يعطيها المزيد من الوقت لاتّخاذ قرارها النّهائي بشأن زواجهما، وعندما توصّلت إلى هذا القرار، أبلغته موافقتها على الزّواج. حدث ذلك قبل يومٍ من لقائها بسمير حصرمي في منزل طارق أبو حباب. قالت لرامز حينها:
- أنا بتّ على استعدادٍ للارتباط بك.
لم يصدّق ما سمعه، فعانقها بسعادة، وقال لها:
- هذا أسعد يومٍ في حياتي. سأذهب غدًا إلى قريتي لأخبر والديّ، فانتظري زيارتهما لك.
كان رامز يعيش وحيدًا في شقّةٍ صغيرة في بيروت، وأهله يعيشون في قريةٍ نائية من قرى لبنان. لديه خمسة أشقّاء وجميعهم متزوّجون، وشقيقة غير متزوّجة، وقد ناهزت الخامسة والأربعين من عمرها وتعيش مع والديه. هو من عائلةٍ تمتلك أراضي زراعيّة واسعة في القرية، وتقدّر حصّته منها إذا تمّ بيعها، بمبلغ يفوق المئتي ألف دولارٍ أميركي.
كان والداه ينتظران بشوق، اللّحظة التي يبلغهما فيها برغبته في الزّواج. لذلك، عندما حضر إلى القرية وأبلغهما بقرار زواجه، غمرتهما السّعادة، واتّفقا على التوجّه في أقرب وقتٍ إلى بيروت للتعرّف إلى الفتاة وأهلها. سألته أمّه عن العروس المنتظرة:
- كم عمرها؟ هل هي جميلة؟ هل هي متعلّمة؟ هل هي من عائلةٍ ميسورة؟..
اكتفى بالإجابة باختصار. كان خائفًا من البوح أمام والديه بأنّ عروسه كانت متزوّجة ولديها ولدٌ من ذوي الاحتياجات الخاصّة، فرأى أنّه من الأنسب إبلاغهما بالأمر بعد زيارتها والتعرّف إليها، لأنّه كان واثقًا بأنّهم سينبهرون بجمالها، ومن ثمّ لن يعارضوا أيّ شيء، فاستدرك الأمر، وقال لأمّه:
هي زميلتي في المدرسة. تعرّفي إليها أوّلاً، وإن أعجبتك سأجيبك عن كلّ سؤالٍ يخطر ببالك.
قبلت الأمّ بذلك، وانشغلت بتحضير "لقمة أكل غير شكل للعريس"، تعبيرًا عن شوقها إليه وفرحها به.
بعد يومين، عاد الشّاب بصحبة والديه وشقيقته العانس إلى بيروت، وقصد معهم منزل عروس المستقبل، محمّلين بالهدايا وبعض خيرات القرية. كان قد اتّصل قبل يومٍ بها، وأبلغها بموعد الزيارة.
كانت زيارة تقليديّة تعرّف خلالها أهله إلى "العروس" وأمّها. تأثّروا بمنظر الأمّ كثيرًا. راحت "أمّ خليل" تحدّثهم عن المأساة التي ألمّت بها في فترة الحرب وعن رحلتها الطّويلة مع الألم والحروق وفقدان البصر. سيطر جوٌّ من الكآبة على جزءٍ كبيرٍ من الزّيارة قبل أن يستطيع "العريس" تبديل الأجواء الحزينة، ممّا أفسح في المجال أمام والديه للتحدّث عن أهداف الزّيارة، فبدأت عبارات المجاملة والتّشريفات والمفاخرة تتلاطم في أنحاء الغرفة، وتشقّ طريقها إلى آذان الجالسين فيها. وحدها الشّقيقة العانس لم تشارك في إطلاق عبارات المجاملة، ولا في إظهار الفرح؛ بل جلست وكأنّها تودّع ميتًا، وتركت عينيها تجولان في المكان مرّاتٍ عدّة، مظهرةً عدم رضاها، حيث إنّ الغرفة التي جلسوا فيها متواضعة وتبيّن بوضوح أنّ اهل البيت "عائلة مستورة".
بقي الشّاب الأربعيني وأهله نحو ساعةٍ في منزل "العروس". تناولوا العصير والفواكه والقهوة، وتبادلوا مع أهل البيت الضّحكات اليتيمة والأحاديث المختلفة والدّعوات بالتوفيق، قبل أن يغادروا. ولكن، ما لم يُقل هناك، أطلقته الألسن كشلاّلٍ دافقٍ في السيّارة التي كان يقودها. الطّريق من بيروت إلى قريته طويلة، ويمكن خلال اجتيازها قول كلّ شيء. بدأت الشّقيقة بالكلام أوّلا. أرادت التّعويض عن صمتها. قالت لأخيها:
- لم تعجبني. يبدو عليها التكبّر. يمكنك الزّواج بفتاةٍ أخرى، أقلّه من عائلةٍ ميسورة.
أجابها والدها:
- ليس المهمّ يا ابنتي أن تكون من عائلةٍ ميسورة، فأهمّ شيءٍ في الزّواج أن تكون الفتاة شريفةً وابنة أصل، وكما لاحظت فهي طيّبة. المهمّ التّوفيق.
تدخّلت الوالدة، وقالت لابنها:
- الفتاة جميلة جدًّا، ولكن، يمكنك اختيار فتاة بعمرٍ أقلّ بكثيرٍ من عمرها.
أجابها زوجها:
- لا تنسي أنّ ابنك بلغ الأربعين من عمره، فلا بأس بعروسٍ تصغره باثني عشر عامًا.
*طبعًا طبعًا لا مشكلة، ولكن، وجود أمّها بحالتها التي تثير الشّفقة، ستشكلّ عبئًا على ولدنا.
سأل الوالد ولده حينها:
- ألم يفترض بعروسك أن تدعو رجلاً من أقاربها، عمّها أو خالها مثلاً، ما دام والدها متوفّيًا وأخوها مسافرًا؟ أيجوز أن نزور امرأتين فقط؟
أجابه بارتباك:
*أقاربهما لا يزوروهما إلاّ نادرًا.
- ماذا؟!..
*هذه هي الحقيقة.
ما كاد ينهي جملته حتّى علا صوت شقيقته الحنقة، قائلة:
- أتريد الزّواج بفتاةٍ "مقطوعة من شجرة"؟
ثمّ توالى على الكلام كلٌّ من الوالدين، وراح الثّلاثة يدلون بدلوهم.. هذه تقول: فتّش عن بنت الأصل.. وتلك تحذّر: ستخجل بها بين الناس.. وذاك ينصح: لن يحترمك أحد.. وتوالت النّصائح وكثر الوعظ والتّنبيه، ورامز غارقٌ في الحزن جرّاء ما يسمعه، إلى أن انتفض وقال لهم بحدّة:
- أنا أحبّ الفتاة وأريد الزّواج بها، فما ذنبها إذا كان أقاربها قد ابتعدوا عنها؟
هدأ الجميع فجأةً!.. لم يعد يُسمع سوى صوت محرّك السيّارة ومحرّكات السيّارات الأخرى القريبة منها في الشّارع الذي تسلكه. مرّت دقائق قليلة والصّمت سيّد الموقف، إلى أن عاد الوالد إلى الحديث، فقال لولده بحنان:
- حسنًا يا بني!.. ما دمت تريد الزّواج بها، سننسى مسألة الأقارب. فليوفقّك الله. اليوم نجتمع مساءً مع أشقّائك ونعلمهم بكلّ هذه التّفاصيل، ونتّفق على الخطوات التي يجب اتّباعها لإتمام عمليّة الزّواج.
انفرجت أسارير رامز قليلاً بعد سماعه كلام والده. صمت الجميع مجدّدًا؛ إنّما ليس لوقتٍ طويل. فقد أراد العريس المنتظر حينها إبلاغ أهله بأمورٍ أُخرى تتعلّق بزوجة المستقبل، ظنًّا منه أنّ الوقت مناسبٌ لذلك. قال لهم بهدوء:
- أريدكم أن تعلموا أنّ باسمة كانت متزوّجة.
(يتبع)