الغرفة السفليّة (الجزء الرّابع عشر)

24 فبراير  .   7 دقائق قراءة  .    570

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

      إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع - الجزء العاشر - الجزء الحادي عشر - الجزء الثاني عشر- الجزء الثالث عشر 

حين أمطرت السّماء في ذلك اليوم من شهر تشرين الأوّل، سكبت دموعها بغزارةٍ فوق بيروت، بينما راحت تبكي بصمتٍ فوق جبال لبنان وشماله وجنوبه وشرقه.

في ذلك اليوم، أحاطت الأمطار بذراعيها أبنية العاصمة الشّاهقة وشوارعها الرّاقصة. ضمّـتها إلى عنفوانها فزادتها وقارًا. قرعت أبوابها بقوّةٍ ففتحتها آمالا ًمبعثرةً فوق أرغفة الخبز التّي تلاحق أفواه الأطفال. لاحقت الأمطار المارّة والسيّارات في كلّ بقعة ضوءٍ وحلمٍ حائر. نزلت من عليائها لوحةً مجدولةً بصفاءٍ وخطوطٍ بلـّورية لا تعرف سوى الشّفاه المبتسمة طريقــًا إلى الحياة. دموع فرح تلك أم بكاء مرّ ؟!.. النّاس يسألون.. بيروت من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها شُدّت إلى السّماء تسألها. لم يأتها الجواب إلا ّ زخـّاتٍ مائجة تحدّث ريحـًا لعوبًا، وتهمس في آذان الخريف المرتدي بزّته الرماديّة، والمنتظر عند زاوية الآهات ليودّع العام بعد أقلّ من ثلاثة شهور.. ما سمعها أحد. غيومٌ داكنة حائرة قلقة أطبقت على شفتيها وجمعت كلماتها وراحت تتلعثم فيها.. الكلّ شاهدها، والكلّ شهد عليها، على روعة ذلك المطر الغزير المتدفــّق من عيونها.

لم تفاجىء السّماء أحدًا!.. أوّل المطر في تلك البلاد الجميلة يتسلّل عادة ً إلى بعض مناطقها من دون الأخرى، وينذر ناسها الطيّبين بأنّ الصّقيع يقترب من الأبواب، وبأنّ الخير آتٍ ليتلحـّف قلوبهم، وأحيانـًا ليخيفهم.

في ذلك اليوم، لم يتوقـّع العقيد سمير حصرمي أنـّه سيغادر مكتبه على عجلٍ ويتوجـّه إلى المستشفى. كان منكبًّا على ملفـّاتٍ عدّة طلبت قيادته منه تحضيرها؛ فهو أحد ضبّاط الأمن المكلــّفين بجمع المعلومات عن أشخاصٍ يتبوّؤون مراكز اجتماعيّة واقتصاديّة وإعلاميّة وسياسيّة، قد يشكـّلون خطرًا على النّظام السّياسي في البلاد، ومهمّته تقضي بتبويب هذه المعلومات، وتقديم الأفكار والمخطـّطات بشأنها، والإشراف على تنفيذها بالشّكل الذي يحدّ من خطورة هؤلاء الأشخاص على النّظام السّياسي ليبقى متماسكًا.     

يومها، كان هذا الضّابط قد حضر اجتماعًا مبكّرًا لكبار الضبـّاط في الجهاز الأمني الذي يتبع له. كانت التّعليمات واضحة. جاءت أوامر الذي ترأّس الاجتماع صارمة:

- أنتم الآن أمام مسؤوليـّاتٍ كبيرة، وعليكم مضاعفة جهودكم. يجب إعداد الملفـّات عن كلّ شخصٍ مؤثــّرٍ في الحياة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو الإعلاميّة أو غيرها. وليكن معلومـًا أنّ ما يُحكى عن نظريـّاتٍ في الديمقراطيّة والحريّة في لبنان قد يستغلها البعض في هذه الآونة. إيـّاكم والتّغاضي عن الأشخاص أو المجموعات التي تجاهر في هذا الموضوع، فهؤلاء هم الأشدّ خطورة، ومهمّـتنا حماية هذا النّظام منهم.

وتابع قائلاً:

- أبشّركم بأنّه ستوضع إمكاناتٌ ضخمة تحت تصرّفكم، وعليكم الإستفادة منها إلى أقصى الحدود. سنزوّدكم بكلّ التّعليمات، وعليكم تزويدنا بكلّ المعلومات، والعمل على الحدّ من أيّ نشاطٍ يربك النّظام أو يعرقل أهدافه. يجب أن تضربوا بيدٍ من حديد، فلا تفسحوا في المجال لأيّ معارضٍ للحكم مهما كان حجمه، بأن يساهم في إضعاف النّظام.

دام الاجتماع نحو نصف ساعة، انصرف بعدها كلٌّ إلى عمله. تزوّد كبار الضبّاط في ذلك الجهاز الأمني، بشحنةٍ معنويّة كبيرة، فراحوا يسابقون الدّقائق لتحضير أنفسهم للجدّ والعمل الدؤوب. كانت السّاعة قد قاربت العاشرة صباحًا عندما رنّ جرس الهاتف الخلوي لسمير، وهو منكبٌّ على ملفـّاتٍ عدّة. نظر إلى شاشة الهاتف، وتأفـّف!.. سأل نفسه بانزعاج:

- أف!.. ماذا تريد هذه الآن؟!..

كانت زوجته المتّصلة. سألها على الفور:

- خير؟!..

قالت له:

*أرسل لي سائقك. تريدني شقيقتي أن أرافقها إلى السّوق.

أجابها بنفور:

- "شي حلو"!.. لا والله لن أفعل، فلديك سيـّارة.

*أنا متعبة، وسائقي مريض لم يحضر اليوم، وأفضّل ألا أقود سيّارتي بنفسي. أرسل لي سائقك.

- السّائق ليس هنا. اطلبي سيـّارة أجرة.

قالت له بغضب:

- أتريدني أنا زوجة العقيد سمير حصرمي وابنة الرّجل الذي لا يتنفـّس وزيرٌ في البلاد من دون إذنٍ منه، أن استقلّ سيـّارة أجرة؟!..

علت وتيرة انفعاله عندما سمعها. أبلغها أنـّه منشغلٌ جدًّا ولا يستطيع أن يرسل إليها السّائق، فبدأت تجادله بلؤم، وبادرها بالمثل. لم يطل الأمر. أقفلت الخطّ وقد أخذ الغضب مأخذًا منها، وعاد هو إلى عمله قبل أن يعرف كيف ستتصرّف، وهل ستقود سيّارتها أم أنّها ستعود وتطلب سيّارة أجرة!.. لم يعرف ذلك إلاّ  بعد مرور أكثر من ساعةٍ، حينما تلقــّى اتـّصالا ًمن شرطة سير بيروت، فعلم حينها أنّ زوجته كانت تقود سيّارتها بسرعةٍ جنونيّةٍ، واصطدمت بقاعدةٍ اسمنتيـّة لأحد الجسور الكبرى، وتمّ نقلها إلى المستشفى.

غادر العقيد مكتبه على عجلٍ وتوّجه إلى المستشفى. اتـّصل من هناك بوالد زوجته وأبلغه بالحادث. كانت إصابة الزّوجة بالغة، فقد أُصيب رأسها وتعرّضت لنزيفٍ حادٍّ في الدّماغ، ممّا استوجب إدخالها إلى غرفة العمليّات وإجراء عمليّةٍ جراحيّة لها. كانت محاولة من قبل الأطبّاء ليس أكثر.

"وضعها ميؤوسٌ منه، ولكنّنا سنحاول عمل شيءٍ لها، والاتّكال على الله".

هذا ما أبلغه أحد الأطبّاء له. تلقّى ذلك ببرودةٍ وحزن. توجّه إلى "كافتيريا" المستشفى بانتظار وصول والدها وخروج الأطبّاء من غرفة العمليّات، وهناك، عاد والتقى الأستاذ الجامعي بعد أن كان قد التقاه عند قسم الاستعلامات قبل نصف ساعة. لم تكن دهشته عابرة عندما سمع اسمه؛ فضابط الأمن هذا كان قد عرف فريد عطا منذ شهور قبل أن يلتقيه وجهًا لوجه.

لم يكن الأستاذ الجامعي من الأشخاص الذين يشكّلون خطرًا على النّظام السّياسي في البلاد قبل صيف العام 1998. لم يرد اسمه قبل هذا التّاريخ في أيٍّ من الملفّات التي تهتمّ بها بعض الأجهزة الأمنيّة، خاصّةً تلك التي يشرف عليها العقيد، ولكن، في ذلك الصّيف حدث ما استوجب فتح ملفٍّ باسمه.

كان شهر حزيران يلفظ أنفاسه الأخيرة. في صباح ذلك اليوم، استدعى سمير حصرمي مساعده النقيب طارق أبو حباب، وسأله:

- هل تذكر الضجّة التي حدثت العام الماضي جرّاء نشر مقالاتٍ ودراساتٍ عن البيئة في لبنان؟

فكّر المساعد قليلاً، ثمّ سأل:

*أتقصد مقالات الدكتور عامر؟

- بالضّبط. أحمد عامر.

*ماذا عنه؟

- الرّجل عاد إلى لبنان، ومعلوماتي أنّه سيستقرّ هنا.

*"شو المطلوب سيدنا"؟

- تجهيز ملفٍّ كاملٍ عنه. أين يقطن؟.. عائلته، مشاريعه، معارفه، وكلّ شيءٍ عنه.

قالها وشرد قليلاً، ثمّ تابع:

- لا أريد أن يقولوا في يومٍ من الأيّام أنّني أهملت عملي.

 

                                                                                       (يتبع)

 

 

  3
  3
 2
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
26 فبراير
شكرا استاذ يوسف لاضافة هذا الجزء ترابط الأحداث يكتمل جزءا جزءا...
  1
  0
 
يوسف البعيني
27 فبراير
الشكر لك على المتابعة.. تحيّاتي.
  0
  1