16 يوليو . 5 دقائق قراءة . 557
تأنّقت زوجة المستقبل في تلك اللّيلة الصيفيّة من ليالي شهر تمّوز، فارتدت ثوبًا باهظ الثّمن أظهر كلّ محاسنها. بدت كالنّجمة المتّكئة على صفحة مياهٍ ساكنة؛ جميلةٌ هي، أميرة. كان ثوبها هديّةً من حبيبها الذي رسم ابتسامةً عريضةً فوق شفتيه، وارتياحًا استثنائيًّا فوق وجهه، وهو يتأبّط ذراعها ويسير معها نحو إحدى الطّاولات في ذلك المطعم السّاحر المتربّع فوق شاطىء "جونيه"، بانتظار قدوم ضيوفه.
جلس الحبيبان والسّعادة تغمرهما. كانت السّاعة قد قاربت السّابعة والنّصف. طلب سمير مشروبًا خفيفًا لشخصين. شرب بلذّةٍ وهو يحادث حبيبته، وتبادل معها كلمات العشق والغزل. لم يطيلا الحديث، فالدّقائق القليلة الفاصلة عن السّاعة الثّامنة مرّت بسرعة. حضر المدعوّون، واقتربوا منهما والابتسامات تسابقهم. صافحوهما وتعرّفوا إلى باسمة. لم يلاحظ أحدٌ ما أصابها!.. شيءٌ ما خطف أنفاسها عندما صافحت فريد عطا. حدّقت إلى عينيه كالمسحورة. لم تقل له أنّها أرادت أن تكون طالبته، ولا أن تبلغه أنّها أُعجبت بما سمعت عنه. مرّت لحظات التّعارف سريعة. جلس الخمسة بعدها حول الطّاولة، وبدأت الأحاديث والضّحكات تترامى في المكان، مرّةً بهدوء، وأُخرى بوتيرة عالية. دارت هذه الأحاديث بدايةً حول الخبر الذي زفّه سمير إلى أحمد، عن زوجة المستقبل. تحدّث العقيد عن حبيبته أمام ضيوفه، وأجابتهم هي عن بعض أسئلتهم واستفساراتهم. علموا أنّها حادقة أطفال وأنّها تتابع دراستها الجامعيّة. سألها فريد حينها:
- أنت لست طالبة عندي، أليس كذلك؟!..
*لا.. أردت أن أكون طالبتك، فانتظرتك ثلاثة أسابيع ولم تحضر.
- صحيح!.. كانت ظروفي صعبة.
*لقد علمت بوفاة زوجتك. أنا آسفة!..
تواصلت الأحاديث عن الشابّة الجميلة وحبيبها لبعض الوقت، قبل أن يتطرّق سمير إلى الموضوع الذي جعله يدعو ضيوفه إلى ذلك المطعم. قال لأحمد:
*قرأت مقالك دكتور، ولا أخفي عنك، أخافني الأمر.
- ألهذه الدرجة؟!..
*نعم!...
تدخّل الأستاذ الجامعي، قائلاً لضابط الأمن:
- أنا مثلك أيّها العقيد. فصديقي يتحدّى وحوشًا.
استطاع الضّابط أن يخفي غيظه عندما سمع كلامه والصّفة التي أطلقها على "جهازه الأمني". تابع إبداء رأيه المستمدّ من خطّته في ردع الباحث الأكاديمي عن التّأثير في الرّأي العام وتأليبه ضدّ النّظام. تشارك مع "آنا" وفريد لإقناعه مجدّدًا بالعدول عن أسلوبه الهجومي. تناقش الأربعة لوقتٍ طويل، فتحدّثوا بأصواتٍ خافتة، وأحيانًا، ارتموا بين أمواج الصّخب. وحدها باسمة كانت بعيدةً عمّا يدور حولها. لم تبدِ رأيًا ولا نصيحة. كانت عيناها تلاحقان عيني الأستاذ الجامعي عندما يتحدّث أو يستمع. لم يلاحظ أحدٌ من الذين حولها ما كانت عليه. الأربعة انغمسوا في موضوعٍ يشكّل لكلّ واحدٍ منهم مفصلاً مهمًّا في حياته؛ فسمير لديه مهمّةٌ تقضي بإسكات أحمد ونصحه قبل أن يلجأ إلى وسيلةٍ أُخرى لإسكاته، و"آنا" خائفةٌ على زوجها من أمرٍ أعظم بعد أن استطاع أحد الأجهزة الأمنيّة اعتقاله لثلاثة أيّام بتهمة العمالة، وفريد خائفٌ هو الآخر على صديقه ويريده أن يتابع نشاطه ويجاهر بقناعاته ولكن بأسلوبٍ بعيدٍ عن التحدّي والتهجّم، والباحث العائد من كندا بقي مصرًّا على قوله: "يجب البوح بالحقيقة"..
أنهى الخمسة طعامهم قرابة العاشرة. غادر بعدها كلٌّ إلى منزله. صمّم ضابط الأمن على متابعة محاولاته. كان تفكيره في تلك اللّيلة منصبًّا على مهمّته. لم يستطع أن يقرأ الكلام الكثير الذي حُفر في عيني حبيبته. حتّى في السيّارة عندما اصطحبها إلى منزلها، لم يتحدّث إلاّ عن الباحث الأكاديمي ومقاله. كانت تستمع إليه فقط. لم تعلّق، لأنّ تفكيرها كان منشغلاً بأمرٍ آخر؛ فقد أمضت السّهرة تحدّق إلى عيني فريد علّها تكتشف فيهما بريقًا يهدّئ من الاضطراب الذي سكن قلبها، ويخفّف من حيرتها. أرادت أن تتأكّد أنّه هو ذاته الرّجل الأربعيني الملتحي الذي التقته لمرّةٍ واحدة في حياتها قبل أحد عشر عامًا، لكنّها لم تصل إلى جوابٍ شافٍ عن تساؤلاتها. شيءٌ ما في داخلها أسرّ إليها أنّه هو ذاته، لكنّها لم تجد في عينيه سوى التّعب، وحولهما تجاعيد خاطها العمر ورسمتها هموم الأيّام، ولم تستطع التأكّد ما إذا كان صوته هو ذاته ذاك الصّوت الذي سمعته في ذلك التّاريخ لبعض الوقت فقط، والذي كان ثقيلاً متلعثمًا.
أصابها الأرق في تلك اللّيلة. لم تغب صورة الرّجل الملتحي عن ذهنها. حاولت مرّاتٍ ومرّات أن تسترجع الصّورة في ذاكرتها البعيدة، وتقارنها بوجه الأستاذ الجامعي الذي انطبع في ذاكرتها القريبة. شكّكت لبعض الوقت في أن يكون الوجهان لشخصٍ واحد، ثمّ تأكّدت فيما بعد أنّه الشّخص ذاته، ثمّ مجدّدًا شكّكت في الأمر لتعود وتتأكّد منه.. لفّتها الحيرة، فهي، وعلى الرّغم من تذكّرها تفاصيل عن تلك الفترة القصيرة التي جمعتها بذاك الملتحي منذ أحد عشر عامًا، لكنّها لم تستطع أن تتذكّر بدقّةٍ تقاسيم وجهه، ولا نبرة صوته، ولا لون عينيه. هي تعرف جيّدًا أنّها في ذلك اليوم البعيد، كانت مرتعبةً إلى حدٍّ جعلها تحدّق بجنونٍ في كلّ ما يحيط بالرّجل، إلاّ وجهه.
لم يكن اليوم التّالي يومًا عاديًّا بالنّسبة إليها. شغلها الأستاذ الجامعي وأعاد إليها عذاباتها. تعرّفها إليه ورؤيتها لشخصه، خطفاها من حضن السّعادة التي بدأت تشعر بها مع سمير. لم تستطع في ذلك اليوم الاتّصال بحبيبها كعادتها. خابرها عند المساء وسألها عن أحوالها وعن شعورها بعد تعرّفها إلى أصدقائه في اللّيلة الماضية. كانت إجاباتها مصحوبةً ببعض الإحباط. لاحظ ذلك، فاستفسر عن السّبب، فأخبرته أنّها متوعّكة قليلاً.
أدركت الشابّة الجميلة أنّها أمام مخاضٍ عسيرٍ منذ اللّحظة التي اتّصل فيها العقيد. شعرت بأنّ ما اعتبرته حبًّا له وهيامًا به، قد زعزعه شيءٌ ما بعد تعرّفها إلى فريد عطا. بكت يومها، فالقدر كان متربّعًا فوق عينيها يحثّها على البكاء، ويهمس إليها بعبره، ويدفعها بقوّةٍ إلى محاولة اكتشاف الحقيقة، لكنّ ذلك لم يكن سهلاً.
حاولت إزالة الضّباب الذي غمّم كيانها. بات همّها الوحيد معرفة ما إذا كان فريد هو ذاته الرّجل الملتحي. حيّرها الأمر وأرهقها. فعلى مدى شهرين، وبعد لقائها الأوّل به، التقته سبع مرّاتٍ في مناسباتٍ جمعتها معه ومع سمير وأحمد وآنا. كان العقيد يستعجل خطواته لإسكات الباحث العائد من كندا، فلم يرَ من وسيلةٍ أُخرى غير استغلال معرفته به، والأجواء العائليّة، ليلتقيه باستمرار، ويحاول مجدّدًا ردعه عن كتابة المقالات المحرّضة ضدّ الحكم، وكانت باسمة في كلّ مرّةٍ يتمّ فيها لقاء، تثير أحاديث خاصّة للتعرّف إلى ماضي الأستاذ الجامعي، لكنّها لم تستطع خلال الشّهرين أن تلتقط أيّ خيطٍ يربط بينه وبين الرّجل الملتحي، الذي كان لا يقلّ عمره عن الأربعين عامًا عندما التقته.
(يتبع)