الغرفة السفليّة (الجزء العشرون)

02 أبريل  .   5 دقائق قراءة  .    359

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

لم ينهِ رامز كلامه حتّى علت أصوات والديه وشقيقته مجدّدًا. عادوا إلى الرّفض وبشدّة هذه المرّة. قال والده غاضبًا:

- من أنت حتى ترتبط بامرأة كانت متزوّجة؟!.. أنسيت انّ أجمل فتاةٍ تتمنّى أن ترتمي بين قدميك؟!.. أنسيت أنّك من عشيرةٍ يرتجف الرّجال لمجرّد السّماع باسمها؟!..

وقالت والدته:

- ما الدّاعي للارتباط بامرأةٍ كانت متزوّجة؟!.. أتعاني من عاهة؟!.. ما شاء الله، فأنت شابٌّ وسيمٌ وابن أصلٍ ومتعلّم.. أجننت؟!..

ثمّ أسمعته شقيقته كلامًا مماثلاً.. علت أصوات الثّلاثة حاملةً معها الغضب والاستياء. بقوا على هذه الحالة دقائق والابن صامت حزين. شعر كأنّه طفلٌ يتعرّض للتّوبيخ. أفرغ أهله ما في داخلهم من استياءٍ ورفض، ثمّ لاذوا بالصّمت. بدأ الإحباط يغزوه. فكّر بطريقةٍ لإقناعهم، فرأى أنّ أفضلها استثارة مشاعرهم، فروى لهم الظّروف التي جعلت عروسه تتزوّج وهي لا تزال في الثّامنة عشرة من عمرها. استفاض في رسم الحالة المأساويّة التي كانت تمرّ فيها في ذلك الوقت، فدغدغ عطف أهله، ولاحظ أنّهم رقّوا قليلاً بعد ما سمعوه. أرادهم أن يبدّلوا آراءهم بها، فقال لهم بثقة:

لو لم تكن شريفةً لما اختارت الزّواج برجلٍ خمسينيّ. أرادت أن تستر نفسها. كان بإمكانها أن تختار طريقًا أُخرى لا تشرّف أحدًا ما دامت بعيدةً عن كلّ حسيبٍ ورقيبٍ من أقاربها، ولكنّها لم تفعل.

جاءت كلماته مقنعة. قال له والده بعد سماعه:

- الحقّ معك يا ولدي. من الواضح أنّ عروسك شريفة وتفتّش عن السّترة. لا بأس!.. حسنًا!.. لا عيب إن كانت قد تزوّجت سابقًا، فبعد ما سمعته عن قصّتها، لا ضير من الارتباط بها.

عاد الصّمت. بقيت المشكلة الأكبر أمام "العريس". سأل نفسه عن الطّريقة لإبلاغ أهله بأنّ "عروسه" أمّ، ولديها ولد من ذوي الاحتياجات الخاصّة. ترك الأمور تستريح قليلاً، فسيطر الهدوء على الجميع. مرّ أكثر من خمس دقائق، ثمّ أبلغهم بأنّ لديها ولد. ظنّ أنّه إذا ذكر لهم وضعه واستفاض في وصف حالته، قد يشفع هذا الأمر له فلا يعترضوا مجدّدًا، لكنّ حسابات "بيدره" لم توافق حسابات "حقله". كان والداه وشقيقته قد أبدوا موافقتهم مرغمين على زواجه من ابنة الثّامنة والعشرين، والتي تعيش حياةً متواضعة مع أمٍّ فاقدة البصر، والتي كانت متزوّجة وأقاربها بعيدون عنها، ولكن أن تكون أمًّا لولدٍ يعاني من الإعاقة، فهذا ما أثارهم وأغضبهم بشدّة، فرفضوا ورفضوا.

لم يستطع إقناعهم بعد إبلاغهم بأمر "هادي". جرت نقاشاتٌ حادّة داخل السيّارة. لم ينقطع الأهل عن إظهار رفضهم للموضوع، وقالها الوالد بحدّة:

- نحن غير موافقين على هذا الزّواج.. فتّش عن فتاةٍ أُخرى.

وصلوا إلى القرية ولم يتوصّلوا إلى اتّفاق. استُكملت النّقاشات داخل المنزل، وسيطرت أجواء الغضب والتشنّج. انزوى "العريس" في غرفته والحزن يتآكله، وانتظر ساعات المساء لحضور أشقّائه ومناقشة الموضوع معهم، آملاً أن يساعدوه في إقناع والديه، لكنّ الأشقّاء كانوا أكثر جزمًا من الوالدين. جاء رفضهم حازمًا ومتشدّدًا. لم يتعاطف أحد معه. مرّ وقتٌ والحدّة تتقاذف أهل البيت. علت أصوات الجميع؛ صراخ، وخوف من انكسار هالة العائلة إذا تزوّج أحد أفرادها بأرملةٍ لديها ولد من ذوي الاحتياجات الخاصّة.

حُسم الأمر برفضٍ كلّي لهذا الزّواج. أجمعت العائلة على هذا القرار، فلم يجد الشّاب المتعلّم سبيلاً إلاّ تحدّيهم. وقف أمامهم، وقال غاضبًا:

- سأتزوّجها. أنا أحبّها وسأتزوّجها إن وافقتم أو لم توافقوا.

نهض أبوه سريعًا، وقال له بانفعال:

- افعل إن استطعت!.. ولكن ليكن بعلمك، لا أنت ولدي ولا أعرفك إذا تزوّجت بهذه المرأة. لن يكون لديك مكان بيننا، ولن تحصل على قرشٍ واحدٍ من حصّتك من ميراثي.

نزلت الكلمات كالصّاعقة على رأسه. لم يعد يستطيع التّفكير، فبقي يحدّق إلى والده الواقف أمامه، ثمّ جال بنظره على الباقين قبل أن يغادرهم غاضبًا. لم يلحق به أحد. خرج وتوجّه نحو سيّارته، فاستقلّها وانطلق بها نحو العاصمة.

سجن رامز نفسه في شقّته في بيروت ليومين، وأقفل هاتفه الخلوي. حاولت باسمة الاتّصال به مرّات عدّة من دون جدوى، فانشغل بالها عليه. لم تكن تعرف مكان سكنه بالضّبط، فهي لم تزره سابقًا، وكلّ ما كانت تعرفه أنّه يقطن في شقّةٍ صغيرة كائنة في مبنى يقع عند أطراف منطقة "الحمرا" القريبة من مدرسة "الأبناء". استطاعت الحصول على عنوانه بالكامل من أمانة سرّ المدرسة، فقصدته. كان المكان غارقًا في الفوضى. لم يستطع قاطن الشقّة القيام بأيّ عملٍ داخلها خلال اليومين المنصرمين، بسبب الإحباط الذي أصابه، فباتت غير مرتّبة وغير نظيفة.

 لم يظهر عليه أيّ تفاجؤ عندما رآها، ولم يُظهر شوقه إليها عندما عانقته بشدّة. سألته على الفور:

- لقد انشغل بالي عليك، هل أنت مريض؟

*لا..

- ما بالك إذن؟

لم يجبها، فاعتراها القلق!.. راحت تنظر إلى عينيه فشعرت أنّ أمرًا خطيرًا يختبىء خلف تعبهما. مرّت لحظاتٌ وهو صامت. عادت وسألته بقلق:

- ما بالك حبيبي؟

قال لها بصوتٍ خافت:

- أهلي غير موافقين على زواجي بك.

صُدمت!.. لم تتفوّه بكلمة. أحسّت بدمعتين تحطّمان جدار الأمل في عينيها. بقيت تحدّق إليه وهو يشرح لها السّبب، قائلاً:

- لقد أُعجبوا بك كثيرًا، وليس لديهم مشكلة كونك كنت متزوّجة، لكنّ رفضهم جاء على خلفيّة وجود ولد لديك.

سألته بحرقة:

- على هذه الخلفيّة فقط، أم لأنّه مصابٌ بالإعاقة؟!..

لم يجبها، فأدركت أنّ السّبب يتعلّق بإعاقة ابنها. قالت له:

- هذا رأي أهلك، فما رأيك أنت؟

*أنت تعرفين رأيي، ولكن..

لم يكمل.. تأفّف ووضع يده فوق جبينه ضاغطًا عليه بها، ثمّ نهض ومشى قليلاً، ليعود ويجلس بانفعال، قائلاً بصوتٍ مرتفعٍ مصحوبٍ بارتباكٍ واضح:

- أبي سيحرمني من الميراث إذا تزوّجت بك.. أنا.. مصرٌ على هذا الزّواج.. لكنّهم جميعهم وقفوا ضدّي..

اقترب منها وأمسك بيديها، وتابع يقول:

- أنا متمسّك بك، ولكن، لا أعرف ماذا أفعل؟!.. أتحدّث هنا عن ميراثٍ يقدّر بمئتي ألف دولارٍ أميركي.

لم ينهِ كلماته حتى أبعدته عنها بعنفٍ ونهضت. نظرت إليه باحتقار، وقالت:

- ظنّي بك لم يخب، فأنت لا تعرف أيّ معنى للحبّ. أنت تريد الزّواج ليس أكثر. لقد صدّقت عقلي فوافقت، ولكنّني كنت خائفة في قرارة نفسي من أفكارك ونظرتك إلى الحياة.. أنا أشفق عليك رامز.. أشفق عليك.. "ضيعانك"..

لم تنتظر جوابه. غادرت المكان بسرعة، ولم تكد تغلق باب الشقّة بانفعال، حتى انفجرت بالبكاء.

 

                                                                                       (يتبع)

 

  2
  2
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال