29 أبريل . 6 دقائق قراءة . 606
كان رئيس سمير واضحًا في أوامره:
- "عليك أيّها العقيد أن تلتقي "كمال الباطح" وتطّلع منه على المعلومات التي جمعها، وتعطي توجيهاتك له لجمع معلوماتٍ أكثر، حسب ما ترتئيه. يعني باختصار، أنت ستكون المسؤول المباشر عن هذا الأمر، لأنّ بقاءك في كندا لن يتجاوز الثّلاثة أيّام، فكمال سينفّذ ما تطلبه منه، ويزوّدنا بالتّقارير في وقتٍ لاحق".
فهم ضابط الأمن الهدف من سفره إلى كندا. أدرك أنّ مهمّته دقيقة، فهو يريد جمع معلوماتٍ تساعد في تشويه صورة الباحث الأكاديمي، وقد لا يكون "كمال الباطح" مدركّا لهذا الموضوع بتفاصيله، فيعمل على جمع معلوماتٍ عاديّة ليس لها قيمة، ووجوده هناك سيسهّل عليه مهمّته.
استمرّ الحديث لأكثر من ساعة. أُحيط العقيد بكلّ شاردةٍ وواردة لإنجاز مهمّته، وعند الانتهاء من تزودّه بالتّوجيهات، سأل "رئيسه":
*متى سأسافر؟
- مساء الغد.
*ومن سيرافقني؟
- المقدّم "عابدي" والرّائد "بو فرحان"، وهما لا يعرفان شيئًا عن مهمّتك الأساسيّة.
*فهمت "سيدنا".
- بقي أمرٌ آخر. يجب ألا يعلم أيّ مخلوقٍ بسفرك، حتى أقرب المقرّبين إليك.
*واضح "سيدنا".
- سنزوّدك بجهاز هاتف خلوي غير هاتفك، وأنصحك بإقفال خطّك منذ هذه اللّحظة، حتّى لا تكون محرجًا أمام أيّ متّصلٍ لإبلاغه أنّك متغيّبٌ أو ما شابه ذلك.
تلقّى سمير الأوامر وانصرف إلى مكتبه. أقفل خطّ هاتفه الخلوي، وانقطع عن التّواصل مع الآخرين خاصّةً باسمة. لم يكن قادرًا على إبلاغها بأنّه سيتغيّب. حتّى النّقيب طارق لم يعلم بما يحدث حوله؛ فكلّ ما تبلّغه منه أنّه سيتغيّب عن المكتب لمدّة ستّة أيّام، وإذا سأل أحدٌ عنه، عليه أن يكتفي بالقول: لا أعرف شيئًا.
في اليوم التّالي، اتّصلت المدرّسة الشابّة بسمير عصرًا. كان خطّه مقفلاً. حاولت مرّاتٍ عدّة، ولكن عبثًا. عاودت الكرّة مساءً، ثمّ في الصّباح التّالي، من دون أيّ جواب. قلقت!.. انتظرت حتّى وقت مغادرتها المدرسة، فاتّصلت حينها بصديقتها، زوجة النّقيب طارق، وطلبت منها رقم هاتف زوجها. حصلت عليه، فحدّثته وسألته عن سمير. أجابها باختصار: لا أعرف شيئًا، لكنّه عاد وقال لها: من المؤكّد أنّه مكلّفٌ بعملٍ ما. أراحها جوابه قليلاً، فشكرته وانطلقت إلى جامعتها، لكنّ القلق بقي محيطًا بها!.. فقد تأكّدت أنّ ضابط الأمن طرأ عليه أمرٌ ما في العمل، إنّما لم تجد تفسيرًا للأسباب التي منعته من الاتّصال بها.
مرّت أيّامٌ أربعة عليها وكأنّها دهر. شعرت خلالها بمدى شوقها إلى سمير، وأدركت أنّ قلقها عليه لم يكن عاديًّا؛ فهي تعرف هذا الشّعور جيّدًا. أيقنت أنّها مغرمةٌ به ولم تعد تطيق الابتعاد عنه، ولعلّ ردّة فعلها في بداية ذلك المساء خير دليل على ذلك؛ فقد كانت جالسةً في منزلها تتفحّص كتابًا حين رنّ جرس هاتفها الخلوي، وما أن فتحت الخطّ للتحدّث، حتّى شهقت عندما سمعت صوته!.. بادرها بكلمةٍ مفعمة بالحنان:
*"اشتقتلّك"...
صرخت بفرحٍ ودهشة:
- أين أنت يا حبيبي؟!..
سألها بفرح:
*ماذا قلت؟
- حبيبي!.. حبيبي!.. حبيبي!..
نزلت كلماتها على مسمعه كنسمةٍ صباحيّةٍ لطيفةٍ أنعشت قلبه وأدخلت السّعادة إليه. قال لها:
*وأنت حبيبتي.
- لماذا لم تتّصل؟!.. أنا أعرف أنّ لديك أعمالاً، ولكن اتّصل على الأقلّ وأبلغني.
*أعتذر منك، فأحيانًا لا أستطيع، لأنّه قد تبرز أمامنا حالاتٌ طارئة في أيّ وقت.
- لا بأس حبيبي!.. "اشتقتلّك"!..
تحدّثا لبعض الوقت. أبلغها أنّه في منزله وهو متعبٌ ولا يستطيع رؤيتها قبل الغد، فتوافقا على الالتقاء مساءً. كان قد عاد من كندا قبل ساعتين، وتوجّه فورًا إلى مكتب "رئيسه" حاملاً معلوماتٍ مهمّة عن أحمد عامر، أطلعه عليها بتأنٍّ، فسأله "الرئيس":
- هل ثمّة معلومات أخرى يجمعها "كمال الباطح"؟
*لا.. أظنّ أنّ ما بين أيادينا كافٍ، أليس كذلك "سيدنا"؟!..
- نعم!.. أعتقد ذلك. فالمعلومات مثيرة!..
أنهى إجابته وأمسك بهاتفه وأجرى اتّصالاً. قال للمتحدّث معه:
- احترامي لك "سيّدي".
- .............
- العقيد سمير وصل لتوّه وقد حمل معه معلوماتٍ ممتازة عن أحمد عامر.
- .................
- حسنًا!.. إلى اللّقاء.
أقفل الخطّ وحدّق إلى العقيد، وقال له مبتسمًا:
- غدًا صباحًا سترافقني للقاء "سيادته".
*"سيادته"؟!..
- نعم!.. لدينا اجتماع معه. لا نريد أن نخطو خطوةً ناقصة، فالأمور في البلد حسّاسة، وأنت تدرك هذا الأمر، أليس كذلك؟
*بالطّبع "سيدنا"!..
في الصّباح التّالي، غادر الاثنان بيروت. كان "سيادته" في انتظارهما. كانت المرّة الأولى التي يلتقي فيها سمير هذا الرّجل. أدرك في قرارة نفسه أنّ مهمّته المتعلّقة بالباحث العائد من كندا، دقيقة وخطيرة ومرتبطة بشكلٍ مباشرٍ بأهمّ ضبّاط الأمن الموجودين في لبنان.
دام اجتماع الضبّاط الثّلاثة ساعتين، ناقشوا خلاله كلّ المعلومات التي حصلوا عليها، ووضعوا خطّةً متكاملة للإيقاع بالباحث الأكاديمي.
كانت الخطّة تقضي بشنّ حملةٍ إعلاميّةٍ مكثّفة، تكشف ارتباط هذا الباحث بأشخاصٍ متعاطفين مع إسرائيل. لم يروا بديلاً من هذا الأمر؛ فهم يدركون جيّدًا أنّ أسهل الطّرق لتحطيم مسؤولٍ أو شخصيّةٍ في لبنان، هو اتّهامه بالعمالة لإسرائيل، وهذه حجّة لا يستطيع بعدها أيّ كان أن يدافع عن هذا المتّهم.
عاد العقيد مع "رئيسه" إلى بيروت بعد الظّهر بقليل. كانت أمامه مهمّات كبيرة. عرف أنّه سينشغل في المساء، فاتّصل بحبيبته معتذرًا عن اللّقاء بها، وتفرّغ لمهمّاته. بدأ الاتّصال بصحافيّين يثق بهم ويعملون في صحفٍ يوميّةٍ موالية للحكم. زاره أوّلاً أحدهم، فسأله:
*أتريد معلوماتٍ مثيرة لنشرها في صحيفتك؟
- وهل أنا مجنونٌ كي أجيبك بالنّفي؟!..
*إذًا سجّل هذه المعلومات..
بدأ يملي على الصّحافي التّالي:
"أفادت مصادر أمنيّة مطّلعة، أنّ أحد أبرز المدافعين عن البيئة في لبنان، والذي عاد مؤخّرًا إلى البلاد ليستقرّ فيها، موضوعٌ في دائرة المراقبة من قبل الأجهزة الأمنيّة المعنيّة، للاشتباه بارتباطه بضبّاطٍ من جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، يبرمجون معه حملةً منظّمةً ضدّ الدّولة لزعزعة الاستقرار فيها وتقويض أسس النّظام في لبنان".
سأله الصّحافي:
- فقط؟!..
*البقيّة تأتي.. انشر هذا الخبر، واتّصل بي غدًا عند الحادية عشرة قبل الظّهر لتحصل على معلوماتٍ جديدة.
غادر الصّحافي، وجاء آخر ليحصل على الخبر التّالي:
"عُلم من مصادرٍ موثوقة، أنّ صاحب مجلّةٍ غير سياسيّة ورئيس تحريرها، مرتبطٌ بجهاز الموساد الإسرائيلي، ويعمل من خلال مجلّته على التّحريض ضدّ النّظام في لبنان. وأكّدت هذه المصادر أنّ أجهزة الأمن المعنيّة وضعت يدها على الموضوع".
غادر الصّحافي الثّاني، وحضر ثالث ليحمل معه الخبر التّالي:
"أفادت معلوماتٌ خاصّةٌ بصحيفتنا، أنّ المدعو (أ.ع.) يدير خليّةً مرتبطةً بجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، وقد أُوكل إليها مهمّة التّحريض على النّظام وإضعافه، بغية إيجاد شرخٍ داخلي يربك المقاومة البطلة في الجنوب، ويساعد العدو الإسرائيلي على البقاء محتلاًّ للأراضي اللبنانيّة، وقد علمنا أنّ الأجهزة الأمنيّة المعنيّة باتت لديها المعلومات الكافية حول هذا الشّخص، وهي على وشك إلقاء القبض عليه وكشف كلّ الملابسات".
(يتبع)