02 أبريل . 6 دقائق قراءة . 576
وقعت ابنة الثّامنة والعشرين مرّةً جديدة في شباك المجتمع. أسرها الجهل المستشري في بعض جوانبه؛ فأهل رامز أنموذجٌ من مئات أو آلاف العائلات المتوزّعة في طوائف ومناطق متعدّدة على امتداد مساحة لبنان، وابنهم أنموذجٌ آخر من آلاف الشبّان الذين بقوا أسرى الضّغوط الأسريّة والاجتماعيّة والأفكار الغارقة في الظّلام، على الرّغم من حملهم الشّهادات العلميّة الرّفيعة المستوى، والتي يفترض أن تصنّفهم في منزلة المثقّفين والمتمتّعين بدرجاتٍ عليا من الوعي.
لم تخطىء الشابّة الجميلة عندما قالت له إنّها تشفق عليه؛ فهي تدرك أنّ أمثاله يستحقّون الشّفقة لأنّه داس على قلبه، وأضاع حلم حياته خوفًا من حرمانه من ميراث والده له، وتعرف جيّدًا أنّه ربّما كانت حساباته عقلانيّة، ولكن، ما دوره في هذه الحياة؟!.. ما قيمته إذا لم يدافع عن أفكاره وآرائه وقناعاته؟!.. وتعرف أيضًا أنّه لم يدرك بعد كالكثيرين، أنّ الحياة بما تعنيه، تستحقّ العناء منّا للدّفاع عن قناعاتنا والاستماتة من أجلها، ولم يدرك أيضًا أنّ العصور الوسطى قد ولّت منذ زمن، وأنّ الإنسان هو الغاية والهدف.
فضّل ذلك الشّاب الأربعيني البقاء تحت جناحي والديه وعدم الدّفاع عن حقّه في اختيار شريكة حياته؛ بل حبّ حياته. دمّر بقراره هذا، كلّ القيم الإنسانيّة، واصطفّ إلى جانب المستسلمين لأفكارٍ خاطئة وظالمة. استسلم لنظرة العديد من النّاس في مجتمعاتنا إلى المرأة؛ فهؤلاء يعتبرون أنّ زواج الشّاب يجب أن يكون من فتاةٍ وليس من امرأة مطلّقة أو أرملة. هذا بنظرهم "عيب"، وهي بنظرهم غير مناسبة. هكذا.. لأنّها كانت متزوّجة فقط. وافقهم ذلك المتعلّم على أفكارهم المشبعة بالجهل، ووافقهم أيضًا على أمورٍ أُخرى؛ فهم يعتبرون أنّ ارتباط الشّاب بشابّة كانت متزوّجة ولديها ولد أو أكثر، أمرٌ معيب يستثير القاصي والدّاني للمبارزة في اللّوم والانتقاد السّخيف، إلى درجةٍ تجعل أهل الشّاب يخجلون بولدهم، ويخافون من كلام النّاس وانتقاداتهم الجارحة. أمّا المصيبة الكبرى فتكمن في كون ابن الشابّة من ذوي الاحتياجات الخاصّة. هذه جريمةٌ بنظر العديد من النّاس. الإعاقة عندهم أكثر الأشياء التي يخجل بها المرء. نسوا أنّ المعاق إنسان. نسوا أنّه بحاجةٍ إلى الوقوف إلى جانبه ومساعدته، ليس من باب الشّفقة؛ بل من باب العلاقات الإنسانيّة السّليمة التي يجب أن تربط النّاس في ما بينهم.
وقع رامز في الفخّ، ووافق أهله على اعتبارهم "هادي" "شيئًا يخجلون به"، فدمّر نفسه عندما انزوى في قبوٍ مظلمٍ تجمّعت فيه أفكارهم وقناعاتهم. لقد خسر باسمة، وربّما لم يخسرها لأنّه في الأصل لم يكن يستحقّها؛ فتلك الإنسانة التي تعوّدت الألم والصّدمات، عُجنت بطحين الرّفض للأفكار المتكاذبة، ومياه التحدّي للجهل والظّلم، وملح الأقدار والظّروف الصّعبة، فأضحت رغيفًا شهيًّا يقدّم على طبق الحياة، لا لتلتهمه الأفواه الجائعة؛ بل لتتذوقّه الشّفاه المتعبة من الكلام العبثي، والثّائرة على الابتسامات المصطنعة، والمثقلة بقبلات الزّمن الغادر، ورامز لم يكن واحدًا من أصحاب هذه الشّفاه.
غادرت باسمة شقّة الشّاب الأربعيني في ذلك اليوم والدّموع تُغرق وجهها الناعم. كانت السّاعة قد تجاوزت الثّالثة عصرًا بقليل. لم تستطع يومها التوجّه إلى الجامعة. عادت إلى منزلها محتضنةً حزنها العميق. لم تكن تتوقّع كلّ هذا الظّلم. غارت في غرفتها ولم تقم بأيّ عمل، ولكن مع حلول السّاعة الخامسة، نفضت عنها غبار الإحباط وتوجّهت إلى رؤية ابنها. عانقته هذه المرّة بألمٍ أكثر. بقيت معه لبعض الوقت ثمّ عادت إلى منزلها لتتحدّى نفسها من جديد وتصارع قساوة الحياة، وفي الصّباح انطلقت إلى عملها بتصميمٍ أكبر. أدركت مجدّدًا أنّ التوقّف في منتصف الطّريق سينهيها، وأنّ تجربتها الجديدة مع الشّاب الأربعيني لن تزيدها إلا إصرارًا على تحصين ذاتها وتطوير قدراتها. قصدت الجامعة بعد ظهر ذلك اليوم. كان يُفترض أن تتابع محاضرتين إحداها تتعلّق بعلم الاجتماع التّربوي، لكنّ أستاذ المادّة لم يحضر أيضًا للأسبوع الثّالث على التّوالي. كان لا يزال يتقبّل التّعازي بزوجته بعد وفاتها قبل أيّامٍ قليلة. لم يرق الأمر لها، ولم تكن في حالةٍ تستطيع معها الانتظار. أرادت أن تسابق الزّمن، فقرّرت بانفعال، استبدال أستاذ المادّة. ما عاد يهمّها فريد عطا وتميّزه، فاختارت أستاذًا ذا ميولٍ إسلاميّة، وبدأت تتابع محاضراته في علم الاجتماع التّربوي منذ ذلك اليوم.
مرّت ثلاثة أسابيع. كانت زوجة النّقيب طارق أبو حباب تزور مدرسة "الأبناء" مرّتين في الأسبوع للاطمئنان عن ابنتها، وكانت في كلّ مرّةٍ تلتقي معلّمتها وتتحدّث إليها في أمورٍ شتّى، حتى بدأت تلوح بين الاثنتين بوادر صداقة. علمت زوجة النّقيب أنّها انفصلت عن عريسها المنتظر، فأبلغت الأمر إلى زوجها، وبدوره أبلغه إلى العقيد سمير حصرمي الذي ما انفكّ يفكّر في تلك الشابّة التي أسرت قلبه.
عاد الأمل إلى ضابط الأمن. أدرك أنّ الأقدار تستعدّ لترسم له طريقًا توصله إلى قلب ابنة الثّامنة والعشرين، فبات يخطّط للقاءٍ يجمعه بها. ساعده في ذلك صديقه النّقيب بعد أن أسرّ إليه بإعجابه بها. تمّ اللّقاء خلال عطلة عيدي الميلاد ورأس السّنة. كانت زوجة النّقيب قد دعتها إلى تناول طعام الغداء معها بمعرفة زوجها، فلبّت الدّعوة، ولكنّ الزّوجة لم تكن على علمٍ بأنّ سميرًا سيحضر مع مساعده لتناول الغداء. كان ذلك اتّفاقًا بين الرّجلين لإظهار الأمر وكأنّه صدفة. حصل اللّقاء، وتبادل الاثنان الأحاديث بوجود طارق وزوجته، فكانت بدايةً للتّواصل فيما بينهما. توالت بعد ذلك الاتّصالات الهاتفيّة. كان ضابط الأمن هو المبادر دائمًا للاتّصال، ويومًا بعد يوم، ازدادت معرفة الاثنين ببعضهما بعضًا، حتّى أصبحا يلتقيان من حينٍ إلى آخر في أحد المطاعم أو المقاهي، يشربان القهوة أو يتناولان الطّعام.
(يتبع)