الغرفة السفليّة (الجزء الثّالث عشر)

02 فبراير  .   5 دقائق قراءة  .    650

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

      إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع - الجزء العاشر - الجزء الحادي عشر - الجزء الثاني عشر 

سارت الأمور كما اشتهاها الباحث العائد من كندا. حصل على رخصةٍ لمجلـّـته وبدأ بإصدارها شهريـًّا، وتمّ تأسيس الجمعيـّة تحت اسم  "جمعيّة التّوعية البيئيّة"، برئاسة فريد عطا، وجُهّزت المستندات اللاّزمة للحصول على ترخيصٍ لها.

انشغل الأستاذ الجامعي بالجمعيّة. استطاع الحصول على ترخيصها الرّسمي في وقتٍ قصير، فكثـّف اجتماعاته مع الأعضاء المؤسّسين، وبدأ يرسم معهم خططـًا للعمل بمساعدةٍ أساسيّة من صديق عمره الذي اكتسب خبراتٍ جمـّةً في هذا المجال، من خلال وجوده في كندا لمدّة سبع سنوات.

بدأ الفرح يتسلــّل قليلا ً إلى قلبه من جرّاء نشاطاته الجديدة، لكنّ حجم الحزن المتربّع فيه كان أكبر، فراح يتآكله في كلّ مرّةٍ يقترب فيها من زوجته، ويمزّقه في كلّ فترةٍ يشعر فيها بحاجته إلى امرأةٍ تطفىء لهيب عاطفته وأحاسيسه.

أطلّ شهر تشرين الأوّل، وبدأت حالة كاتيا تسوء. بدأ الورم ينتشر بسرعةٍ في أنسجة دماغها. باتت تفقد وعيها في فتراتٍ متقاربة؛ تُنقل إلى المستشفى ثمّ تعود إلى منزلها بعد أيـّام. حدّ هذا الأمر من نشاطات زوجها في الجمعيّة، ولم يستطع أيضـًا أن يداوم بشكلٍ منتظم على الحضور إلى الجامعة التي فتحت أبوابها لتسجيل أسماء المنتسبين إليها في تلك الفترة. مرّت الأيّام عليه في ذلك الشّهر كالكابوس. ضاقت الدّنيا به، وشعر أنـّه الوحيد في هذه الحياة الذي ينتظر اللّحظات كي يودّع زوجته الوداع الأخير، فكان في كلّ مرّةٍ يُحضرها فيها إلى المستشفى يلفّه الاضطّراب والخوف عليها، ويجزع كلّما شاهد طبيبها يتقدّم نحوه خوفـًا من إبلاغه أنـّها فارقت الحياة، إلى أن شاءت الصّدف أن يلتقي في أحد الأيّام من ذلك الشّهر، شخصًا ساعده من دون أن يدري، على التّخفيف من خوفه وقلقه المتواصلين.

كان ذلك اليوم ماطرًا، وكان الأستاذ الجامعي قد قصد الجامعة صباحـًا تاركـًا زوجته في المنزل وبقربها والدتها. تلقــّى اتّصالا ً عند الظّهر من سعدلله نجـّار أبلغه فيه أنّ ابنته ساءت حالتها ونُقلت إلى المستشفى وأُدخلت قسم الطّوارئ. هرع إلى المكان. توّجه إلى قسم الاستعلامات. سأل الموظّفة هناك بقلق:

- أرجوكِ!.. هل ما زالت كاتيا عطا في قسم الطوارئ؟!..

لم ينتبه إلا ّ بعد لحظاتٍ إلى أنّ الموظّفة كانت منشغلةً بأحدهم وقد جاء يسأل أيضـًا عن زوجته. التفت إلى الرّجل، وقال:

- أعتذر منك يا أستاذ.

أجابه ببرودة:

*"ماشي الحال".

أُبلغ فريد أنّ زوجته في غرفة العناية المركّزة. توجـّه مسرعـًا إلى صالة الانتظار. كان والداها هناك. جلس معهما. ازداد قلقه وخوفه!.. مرّ نصف ساعة، بدأ بعدها يتحدّث إليهما كالمجنون. مرّةً يصف حالة زوجته الصحيّة، وأخرى يصف حالته النفسيّة. لاحظ سعدلله أنّ صهره مثقلٌ بالضّغوط إلى أقصى حدود، فطلب إليه المغادرة إلى "كافتيريا" المستشفى لتناول بعض العصير أو القهوة. توجّه إلى المكان حيث كان يعجّ بالأطبّاء والممرّضين والزوّار. أراد الجلوس ولكنـّه لم يجد أيّ طاولةٍ شاغرة، فقصد إحداها وقد جلس عندها شخصٌ واحد. تفاجأ بهذا الشّخص!.. كان هو ذاته الذي التقاه عند قسم الاستعلامات. استأذنه في الجلوس، وجلس. كان الرّجل يشرب القهوة وقد بدت عيناه غائرتين في الحزن. سأله:

- ألست الأستاذ الذي التقيته عند قسم الاستعلامات؟

*نعم!..

- خير؟!.. ما بك؟

*زوجتي هنا.

- وأنا زوجتي هنا أيضًا.

راح الاثنان يتحدّثان والهمّ رفيقهما. أخبر الرّجل فريدًا أنّ زوجته تعرّضت لحادث سيّارة وتعاني من نزيفٍ في الدّماغ وهي تنازع، وأخبر فريد الرّجل أنّ زوجته أصيبت بمرض السّرطان وهي تنازع أيضـًا. تذكـّر الأستاذ الجامعي حينها ما كان يسمعه من والدته في صغره بأنّ "من يرى مصيبة غيره تهون مصيبته". أدرك أنـّه ليس الوحيد في هذه الدّنيا الذي ينتظر اللّحظة التي سيودّع فيها زوجته. لقد أدخل الرّجل إلى قلبه ومن دون أن يقصد ذلك، بعضـّا من الرّاحة وكثيرًا من الإيمان. بات يعلم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أنّ الحياة مليئةٌ بالقصص المؤلمة والعبر، وعلى الإنسان أن يعترف بقرارة نفسه أنّ ثمّة أشياءً في حياتنا لا يمكن التحكّم فيها، ولا الاشتراك في تقريرها؛ فقدر كاتيا أن تمرض وتستعدّ لتوديع الحياة بسبب هذا المرض، كما قدر زوجة من يجالسه في "كافتيريا" المستشفى، أن تستعدّ لتوديع الحياة بسبب حادث سيرٍ مروّع.

بقي الرّجلان يتحدّثان لدقائق قليلة. ثمّ سأل فريد:

- أرزقت بأبناء؟

*لا.. وحضرتك؟

- أيضًا، لم أرزق بأبناء.

صمت قليلا ً، ثمّ عاد فسأل:

- من حضرتك؟.. يشرّفني أن أتعرّف إليك.

*أنا العقيد سمير حصرمي.

- تشرّفنا. أنا الدكتور فريد عطا. أستاذ جامعي.

مدّ فريد يده ليصافح العقيد، لكنـّه لم يلاحظ يدًا تمتد لمصافحته. تأمّل في عيني الرّجل فلاحظ أنّ الدّهشة قد اعترتهما. تفاجأ بالأمر!.. سأله:

- هل ثمّة شيء أزعجك أيّها العقيد؟!..

أجابه بقليلٍ من الارتباك:

- لا.. لا.. أبدًا.. شردت للحظاتٍ ورحت أفكـّر في الحادثة التي تعرّضت لها زوجتي.

ثمّ مدّ يده مصافحًا، وقال:

- عفوًا دكتور!.. تشرّفنا.

- لا بأس!.. آمل أن يكون الله في عونها وعونك..

 

                                                                                       (يتبع)

 

 

  4
  1
 4
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
21 فبراير
استاذ يوسف جزيل الشكر على هذه القصة المليئة بالأحداث وهذا القلم الرواي الذي يصور لي مسلسلا ربما لو أخرج وأطل على الشاشة لانقذ الأجيال الحالية من وهم الكثير من الأعمال الرائجة. أرجوك أن تكمل لنا بقية الأجزاء. أشكرك مرة أخرى وياليت أن التقي بك وتحدثني أكثر عن كل قصصك. محبتي
  0
  0
 
يوسف البعيني
22 فبراير
أستاذي الكريم تحيّاتي شكرًا لك وعلى اهتمامك.. ستُنشر الرّواية بأكملها هنا على هذا الموقع، وعسى أن نلتقي قريبًا، فهذا شرف لي.. أنا أكتب سيناريو وحوار أيضًا، وكنت قد بدأت بكتابة مسلسل من ثلاثين حلقة مستوحى من الرّواية، وعرضت بدايته على إحدى المحطّات المحليّة، لكنّ التطوّرات في لبنان حالت من دون إكمال الخطوة.. عسى قريبًا سأعاود العمل على الموضوع..
  1
  1
 1
16 مايو
Ryzpae Cialis Ca Marche https://newfasttadalafil.com/ - Cialis Cialis Rkmhpo https://newfasttadalafil.com/ - cialis online pharmacy It is an obstetric emergency. Iiwzjs
  0
  0
 
13 نوفمبر
Physical activity was associated with lower mortality rates in persons with breast cancer, T2D, COPD and IHD can you buy cialis online
  0
  0