29 سبتمبر . 7 دقائق قراءة . 705
ضجّت البلاد بمقتل أحمد عامر. أجمعت التّعليقات على ضرورة انتظار نتائج التّحقيق في الجريمة. بعض الأصوات المعارضة للحكم ألمحت إلى حدوث عمليّة اغتيال، لكنّها لم تتجرّأ على إلقاء الاتّهامات جزافًا.
أرسلت الحكومة الكنديّة محقّقين لمشاركة القوى الأمنيّة اللبنانيّة في تحقيقاتها، بوصف القتيل أحد مواطنيها، لكنّ هؤلاء المحقّقين لم يتوصّلوا إلى شيءٍ ملموس، واعتبروا أنّ عمليّة القتل تمّت بسبب السّرقة، كما لم يستطعوا مع أمثالهم اللبنانيّين، توجيه أصابع الاتّهام إلى أيٍّ من الذين كانوا على معرفةٍ جيّدة بالمغدور، خاصّةً الطلاّب منهم، لعدم الاشتباه بأحد؛ فالأدلّة كانت قليلة، لاسيّما في ظلّ اختفاء الهاتف الخلوي لأحمد، وعدم التمكّن من الاطّلاع على الاتّصالات لكشف خيوطٍ تعرّف عن القاتل.
استمرّت التّحقيقات المشتركة نحو ثلاثة أسابيع، غادر بعدها المحقّقون الكنديّون إلى بلادهم، كما غادرت "آنا" هي الأُخرى حزينة، وكئيبة، بعد أن خسرت أغلى ما لديها. أوكلت محاميًا لتصفية ممتلكات زوجها في لبنان، ولم تعد تهتمّ بشيءٍ في هذا البلد الذي خُطفت فيه روح حبيبها، ووُضع ملفّ هذا الزّوج في خزائن النّسيان والإهمال المتعمّد، أسوةً بملفّات العشرات؛ بل المئات من الروّاد اللبنانيّين الذين دافعوا عن الحريّة والديمقراطيّة، وأصحاب الآراء السياسيّة المتنوّعة الذين اغتيلوا خلال الرّبع الأخير من القرن العشرين.
أُسكت أحمد عامر أخيرًا.. شُيّع جثمانه بمشاركةٍ سياسيّةٍ وشعبيّةٍ كبيرة، وكان مَن أمر بقتله في مقدّمة الذين تقبّلوا التّعازي به، مظهرًا حزنه المصطنع عليه وكأنّه فقد أخًا.
أنهى سمير حصرمي مسيرة هذا الباحث، وعمل جاهدًا كي يُظهر لفريد عطا كم هو مهتمٌّ بكشف حقيقة مقتل صديقه. لم يشكّ الأستاذ الجامعي به لحظةً واحدة؛ بل على العكس، فقد اعتبر أنّ ما قام به على مدى الثّلاثة أسابيع التي تلت عمليّة القتل، إنّما ينمّ عن اهتمامٍ صادق من قِبله. فسمير أوهمه أنّه يلاحق التّحقيقات. كان يتّصل به يوميًّا أو يلتقيه ليبلغه بالتطوّرات، وأحيانًا كان يناقش معه احتمالات أن يكون صديقه قد اغتيل، ويضع الفرضيّات ويشاركه التوقّعات والتّحليلات بشكلٍ يجعله بعيدًا عن كافّة الشّبهات، وبالتّالي كي يقنعه أنّ الجريمة لا تتعدّى كونها عاديّة.
استكان العقيد عندما شعر أنّ الأستاذ الجامعي بات مقتنعًا بأنّ صديقه قُتل بسبب السّرقة، لكنّ فريدًا كان في قرارة نفسه قلقًا ورافضًا لهذه الفكرة، فهو يعرف أحمد جيّدًا، كما يعرف أصدقاءه ومؤيّديه، فصمّم على العمل بصمتٍ وهدوءٍ ومن دون إشراك ضابط الأمن قلقه، علّه يتوصّل إلى نتيجةٍ ما.
لم تبرز أيّة خيوطٍ تساعده على كشف حقيقة ما حدث، لكنّه كان على يقينٍ بأنّ صديقه دفع ثمن مواقفه وآرائه، فرأى أنّ إثارته للموضوع من الزّاوية السياسيّة، تُبقي قضيّة مقتله حاضرة، وتشكّل عاملاً ضاغطًا على السّلطة لمتابعة التّحقيق في القضيّة.
انتظر الصّديق الوفي موعد التجمّع الذي أقيم بمناسبة مرور أربعين يومًا على مقتل الباحث. أراد أصدقاء المغدور جعله تجمّعًا سياسيًّا بامتياز، خاصّةً بعد أن راوح التّحقيق في جريمة القتل مكانه، ولفّته البرودة والتّغييب المقصود. تحدّث في ذلك اليوم عددٌ من السياسيّين، وجميعهم استنكروا الجريمة وأشادوا بمميّزات الفقيد، وطرحوا الشّكوك حول قيام بعض الأجهزة الأمنيّة بتدبير عمليّة القتل، لأنّ التّحقيق لم يصل إلى أيّة نتيجةٍ بعد مرور أربعين يومًا عليها. كما تحدّث فريد بالمناسبة باسم أصدقاء الباحث الأكاديمي، فرثاه بكلماتٍ مؤثّرة، ثمّ قال بنبرة المتحدّي:
"بما أنّ أحمد عامر قد اتُّهم مرّةً زورًا بالتّعامل مع إسرائيل، واعتُقل نتيجة ذلك، وبما أنّ التّحقيق لم يكشف خيوط الجريمة حتّى اليوم، فإنّني باسمكم وباسم الحريّة في لبنان، أوجّه أصابع الاتّهام إلى كلّ من أذاه قبل رحيله؛ أتّهمهم باغتياله، وأحمّلهم المسؤوليّة المعنويّة عن ذلك، حتى يضعوا أمامنا نتائج مقنعة عن التّحقيق".
فجّر الأستاذ الجامعي باتّهاماته، قنبلةً سياسيّةً كبيرة تردّدت أصداؤها في مختلف أرجاء لبنان، وفسحت في المجال أمام القوى السياسيّة المعارضة للحكم، لشنّ حملة منظّمة ضدّ تقاعس الأجهزة الأمنيّة المعنيّة من جهة، وضدّ تورّط بعضها في محاولات إسكات المعارضين للحكم من جهةٍ أخرى. ضاعف جهوده للاستفادة من دعم هذه القوى، فكثّف لقاءاته بنوّابٍ ورؤساء أحزاب ونقابيّين ومثقّفين وإعلاميّين معارضين، وبعد كلّ لقاء، كان يدلي بتصريحٍ يهاجم فيه بعض الأجهزة الأمنيّة، إلى حدٍّ جعل المسؤولين عن هذه الأجهزة يتخوّفون من تحرّكاته، ودفعهم إلى اتّخاذ خطواتٍ تحدّ من تأثير هذه التحرّكات، وصولاً إلى القضاء عليها، ففُتح ملفّه بالكامل، وكُلّف العقيد سمير حصرمي بمعالجته.
لم يتوقّع أحدٌ أن يقفز فريد عطا خلال أسابيع قليلة إلى صفوف المعارضين للحكم ليعارض بشدّة، ويهاجم بجرأة، ويعبّر عن آرائه بحريّةٍ مطلقة. ما من أحدٍ شعر بما شعر به هذا الرّجل بعد مقتل صديقه. بات مقتنعًا بأنّ هذا الصّديق اغتيل، بعد العجز المتعمّد للسّلطة في كشف بعض ملامح الجريمة. أدرك أنّ السّكوت يشجّع الأجهزة الأمنيّة المعنيّة بمقتل صديقه على المضيّ قدمًا في غيّها وقمعها وإجرامها. كان يتذكّر دائمًا ذلك اليوم الذي جمعه به في منزله بعد موت خاله واتّخاذ قراره بالانفصال عن زوجته. لم ينسَ ما قاله يومها:
"أمامنا مشوارٌ طويلٌ لنبني بلدنا كما نحلم به. المهمّ ألا نخاف. إذا كنت تحبّ بلدك وضميرك مرتاح فلا تخف، وتحدّث بالذي تريده.."
ترسّخت هذه الكلمات في ذهن فريد كعشق التّربة للمياه. بدأ ينشط بين طلاّبه وزملائه في الجامعة، واستطاع أن يدعو قسمًا كبيرًا منهم إلى اعتصامٍ للمطالبة في تسريع التّحقيق في جريمة مقتل الباحث والأكاديمي أحمد عامر. كان ذلك في الأسبوع الثّالث من شهر كانون الأوّل. نُفّذ الاعتصام عصرًا أمام مقرّ مجلس الوزراء، حيث كان مقرّرًا عقد جلسة عاديّة للمجلس. تجمّع العشرات من المعتصمين حاملين يافطات التّنديد ومطالبين الحكومة بالتّسريع في التّحقيق لكشف ملابسات الجريمة. لكنّ الاعتصام قُمع. كانت البداية طلبًا تقدّم به الضّابط المسؤول عن القوّة الأمنيّة الموجودة في المكان، لحثّ المعتصمين على التفرّق. كان الضّابط واضحًا في طلبه. قال للمعتصمين:
- تجمّعكم غير قانوني، لذا عليكم التفرّق.
لكنّ المعتصمين رفضوا هذا الطّلب، فما كان من القوّة الأمنيّة إلاّ أن بدأت باستخدام خراطيم المياه من مركبتين مخصّصتين لإطفاء الحرائق أُحضرتا إلى المكان، فاستطاعت تفريق المعتصمين، لكنّ هؤلاء عادوا ورصّوا صفوفهم، وعلت أصواتهم الغاضبة تتحدّى دقّات القلوب، وتبحر في الحناجر، غير آبهةٍ لأمواج الظّلم ولا لعواصف القهر؛ فلجأت القوّة الأمنيّة إلى استخدام الهراوات وأعقاب البنادق لتفريقهم. بدت المواجهة معهم كساحة معركة. هجم رجال الأمن على المعتصمين وانهالوا عليهم ضربًا، فعلا الصّراخ. تلقّى فريد عطا خلال هذه المواجهة ضربةً على ذراعه اليسرى وأخرى على جبينه، فوقع أرضًا، وبدأ ينزف، وغطّى الدّم جانبًا من وجهه.
(يتبع)