21 مايو . 6 دقائق قراءة . 626
أنهى المذيع الخبر وانتقلت أصداؤه بين المشاهدين كانتقال النّار في الهشيم؛ تلك عائلةٌ تتحدّث عن الموضوع، وأولئك جيرانٌ يتناقشون فيه ويمتعضون، وذلك نائبٌ يتّصل برئيس حزبه، وآخرٌ يحادث زميلاً.. ضجّت البلاد خلال دقائق بما أُذيع عبر المحطّة التلفزيونيّة. فرح كثيرون لما سمعوه، وشكّك آخرون بالخبر. بعضهم لا يثقون بالمحطّة ويعرفون ارتباطاتها المشبوهة. أحد أولئك كان الدكتور فريد عطا، فما أن سمع الخبر، حتى اتّصل هاتفيًّا بصديقه، لكنّ خطّه كان مقفلاً، فاتّصل بزوجته. كان خطّها مقفلاً أيضًا. غادر شقّته مسرعًا وتوجّه نحو منزلهما. كانت دهشته كبيرة عندما وصل وشاهد قوى أمنيّة عند مدخل المبنى الذي يقطنان فيه!.. أدرك حينها أنّ صديقه اعتُقل بالفعل. خاف من التوقّف والسّؤال عنه، فعاود الاتّصال به هاتفيًّا، ولكن من دون جدوى. اتّصل مجدّدًا بزوجته. كان خطّها لا يزال مقفلاً. قلق كثيرًا واعتراه الخوف الشّديد؛ فهو كان قد ناقش الأمر مع أحمد قبل يوم، عندما تسرّبت أخبارٌ في الصّحف الثّلاث عن الشّخص غير المعروف المرتبط بجهاز الموساد الإسرائيلي. قال له صديقه حينها:
- هذه الأخبار تخيفني وأخشى ما أخشاه أن تكون الأجهزة الأمنيّة تلفّق لي تهمةً لاعتقالي والقضاء عليّ نهائيًّا.
وفي اليوم التّالي، عاد وقال له:
- اليوم وبعد قراءتي الحلقة الجديدة من مسلسل التّسريبات في بعض الصّحف، تأكّد لي أنّني أنا المقصود من هذه الحملة.
اقترح عليه الأستاذ الجامعي الاتّصال بأصدقائه من نوّابٍ وسياسيّين لاستدراك الأمر، لكنّه رفض، قائلاً:
- لا.. كلّ الأخبار حتّى الآن تلميحات، وربّما المطلوب أن أثير هذا الأمر كي أكون فعلاً في قفص الاتّهام.
حاول إقناعه من دون جدوى، فاعتراه القلق والخوف عليه، خاصّةً بعد أن علم أنّه تلقّى منذ مدّةٍ وعلى مدى أيّام، تهديداتٍ عبر الهاتف بأنّه سيُرمى تحت الأرض إذا لم يرتدع ويوقف نشاطاته. كانت التّهديدات مباشرة له، ومحاولةً لردعه عن المضيّ بنشاطه الذي بدأ يؤثّر على توجّهات النّظام وبعض أجهزته الأمنيّة.
وقع الأستاذ الجامعي في حيرة في تلك اللّيلة المشؤومة. خاف من سؤال رجال الأمن عن صديقه؛ فهو يدرك جيّدًا أنّ مثل هذا السّؤال عن متّهمٍ بالتّعامل مع جهاز الموساد الإسرائيلي، عبثيٌّ ومن دون جدوى، ولن يلقى أيّ جوابٍ من أحد. عاد إلى شقّته، وبدأ الاتّصال ببعض السياسيّين الذين تعرّف إليهم بواسطة صديقه؛ كان العديد منهم غاضبًا، وبعضهم كان قد بدأ اتّصالاته للوقوف على حقيقة الخبر. لم يجد ما يشفي غليله. راح يتابع محطّات التّلفزة والحوارات التي دارت في برامجها السياسيّة حول كشف شبكة التجسّس. تابع في الوقت ذاته سماع بعض المحطّات الإذاعيّة. ارتاح قليلاً عندما بدأت بعضها تبثّ في نشراتها بيانات الاستنكار لتوقيف صديقه. أحزابٌ وتنظيماتٌ اتّهمت السّلطة بتلفيق الخبر كي تسكته. نقاباتٌ استنكرت أيضًا. شخصيّاتٌ علّقت على ما حدث ووصفته بالفضيحة. كلّ ذلك أراحه قليلاً، لكنّه أراد الاطمئنان عن أحمد ليس أكثر. كان يسمع الكثير عن أولئك الذين يُعتقلون بتهمة التّعامل مع إسرائيل. أدرك أنّه سيتعرّض للتّعذيب والضّرب الوحشي. دمعت عيناه عندما دقّت هذه الفكرة أبواب رأسه، ولم يجد سبيلاً أمامه إلاّ الانتظار وسماع آخر الأخبار من وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة، واتّصاله بين الحين والآخر بأحد الأصدقاء للاستفسار عن أيّ جديد.
ما أقلقه أيضًا، وضع "آنا"!.. سأل نفسه مرّات عدّة: هل اعتُقلت هي الأُخرى؟!.. لم يستطع أن يجد جوابًا، فازداد خوفًا. كانت السّاعة قد شارفت على الحادية عشرة، عندما تذكّر فجأةً العقيد سمير حصرمي!.. لم يتردّد في الاتّصال به، فرقم هاتفه ما زال في حوزته. ردّ عليه. قال له:
- أنا آسف أيّها العقيد لأنّني أتّصل بك في هذا الوقت، لكن ثمّة أمرًا طارئًا دفعني إلى ذلك.
*خير دكتور!..
- لعلّك سمعت نشرات الأخبار هذا المساء، أليس كذلك؟!..
*الحقيقة لا.. لم أسمع أيّة أخبار، فأنا مريضٌ وأرقد في سريري منذ الصّباح. ما الأمر؟!.. خير؟!..
- أنا آسف!.. سلامتك.
*ما الأمر؟!..
- بالطّبع تذكر أيّها العقيد صديقي الدكتور أحمد عامر الذي رافقني إلى منزلك لتقديم واجب التّعزية بالمرحومة زوجتك؟
*بالطّبع أذكر. ما به؟!..
- أظنّ أنّه اعتُقل هذا المساء مع زوجته.
*ماذا؟!..
- إنّه متّهمٌ بالتّعامل مع جهاز الموساد الإسرائيلي.
*ماذا ؟!.. ماذا تقول؟!.. الدكتور أحمد عامر؟!..
- هذا ما سمعته في نشرة الأخبار، والحقيقة أنا مشوّشٌ ولا أعرف شيئًا عنه وعن زوجته، ولم أجد سواك لطلب المساعدة منه. فهل يمكنك أن تساعدني في الأمر، على الأقل التأكّد من الخبر؟..
*"له له له"!.. لقد أحزنني الخبر!.. الدكتور أحمد عامر لا يستحقّ إلاّ الخير. في كلّ الأحوال أنت تعرف أنّه في مثل هذه الحالات، لا أحد يستطيع تقديم أيّة معلوماتٍ عن المعتقل، ولكن، أعدك بإجراء اتّصالٍ مع عقيدٍ صديقٍ لي قد يفيدني بشيء. سأعاود محادثتك بعد قليل.
أقفل الرّجلان خطّي هاتفيهما، ولاذ فريد بالانتظار القاتل، آملاً بأن يساعده سمير حصرمي، لكنّه لم يكن يعلم أنّ هذا الضّابط هو الذي حاك الشّباك التي وقع صديقه فيها.
لم يكن العقيد مريضًا ولا طريح الفراش؛ فقد تحدّث إلى الأستاذ الجامعي من مكتبه. كان قد عاد لتوّه من اجتماعٍ جمعه مع "رئيسه" و "سيادته". اتّفق الثّلاثة على عدم التعرّض للباحث الأكاديمي بأذى، بانتظار ردود الفعل التي ستصدر بشأن اعتقاله، فاكتفوا برميه خلف قضبان زنزانةٍ ضيّقةٍ في مركز وجود "سيادته"، بعد أن نُقل إليه مباشرة فور اعتقاله مع بداية المساء. اتّفق الثّلاثة أيضًا على الإفراج عن زوجته التي اعتُقلت ونُقلت إلى مركز الجهاز الأمني الذي يعمل فيه سمير في بيروت.
كانت "آنا" قد أُودعت في غرفةٍ صغيرةٍ في المركز. لم يُطرح عليها أيّ سؤال، ولم يتحدّث إليها أحدٌ بناءً على الأوامر. لكن، في الوقت الذي عاد فيه إلى مركزه في بيروت، وقبل أن يصدر أمرًا بالإفراج عنها، تلقّى ضابط الأمن الاتّصال من فريد عطا، فرأى أنّ فرصةً أتته على طبقٍ من فضّة. فكّر في استغلال الأمر كي يبني مدماكًا من الثّقة معه. كان يدرك جيّدًا أنّ الاحتمالات كبيرة للإفراج عن أحمد بعد صدور بياناتٍ مستنكرة من قبل سياسيّين وأحزاب، وأنّ المرحلة المقبلة في حال تمّ هذا الأمر، تقضي باتّباع سياسة التّرغيب بدل التّرهيب للجم نشاطات الباحث العائد من كندا، وأنّ بناء علاقةٍ جيّدة مع الأستاذ الجامعي، ستسمح له بتنفيذ خطّته المقبلة؛ فمثل هذا الضّابط الآتي من أقبية الوصوليّة والانتهازيّة، لا يعرف معنى لحريّة الفرد وحقوقه بالتّعبير عن آرائه ومعتقداته بالطّرق السلميّة والديمقراطيّة، ولا يؤمن بالدّور الذي يقوم به المجتمع المدني في سبيل تطوير الإنسان والوطن؛ بل يؤمن فقط بالتسلّط والقمع وكمّ الأفواه ومنع التّعبير عن الآراء الحرّة، ويعمل بشتّى الوسائل لتكريس ثقافة الشموليّة في وجه التنوّع، والأحاديّة في وجه التعدّديّة، ويستغلّ كلّ شيءٍ في سبيل تحقيق غاياته. لذلك، لم يتردّد في تحويل القرار الذي اتُّخذ للإفراج عن "آنا"، إلى عملٍ بطوليٍّ من قبله، وخدمة منه للدكتور فريد عطا.
(يتبع)