الغرفة السفليّة (الجزء الثّاني والعشرون)

02 أبريل  .   5 دقائق قراءة  .    508

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

مرّت ثلاثة شهور وباسمة وسمير يلتقيان. تعمّقت علاقتهما أكثر، وأنسى ذلك الرّجل تلك الشابّة تجربتها المرّة مع رامز. كان لطيفًا معها إلى حدٍّ لا يتصوّره إنسان، فأظهر لها كلّ مودّةٍ واحترام، وبدأت تُعجب به. لم يستعجل خطواته، فابن التّاسعة والأربعون يفهم النّساء جيّدا، ويعرف مكامن قوّتهنّ وضعفهنّ، ويدرك أنّ امرأةً خارجةً من تجربةٍ عاطفيّة قاسية، لن تكون على استعدادٍ للدّخول في أُخرى لمجرّد إعجابها برجل. لذلك، صمّم على ترسيخ علاقته بها أكثر، فبات يلتقيها في فتراتٍ متقاربة، وبات من النّادر ألا يتحادثا يوميًّا من خلال الهاتف. لكن، ما لم يكن في الحسبان، أنّه وفي خضمّ هذه العلاقة المتنامية بينهما، انقطعت اتصالاتهما فجأة!..

كان شهر آذار من العام 1999 يشرف على نهايته، وكانت البلاد منذ بداية ذلك العام، تتقاذفها تطوّراتٌ سياسيّة متعدّدة، إذ إنّه، مع تسلّم رئيس الجمهوريّة الجديد مهامه، حدثت تغيّرات عدّة في مواقع السّلطة، ترافقت مع حملةٍ منظّمة ضدّ الفساد، فبدأت حملات الاتّهام لوزراءٍ سابقين ونوّابٍ ومديرين عامّين في الإدارات الرسميّة، ونشطت بعض الأجهزة الأمنيّة في تأليب الرّأي العامّ ضدّ هؤلاء، بمساعدة وسائل إعلامٍ موالية للحكم، وبعض الوسائل الإعلاميّة الأُخرى التي رضخت للتّهديدات والإغراءات المتعدّدة الأشكال، ونتج عن هذه الحملات توقيفات واعتقالات بتهم الرّشاوى والفساد المالي والإداري.

الثّلاثة شهور التي انقضت، تراكمت خلالها المهمّات على عاتق العقيد سمير حصرمي، لكنّه كان قادرًا على الالتقاء بباسمة والاتّصال بها كيفما شاء، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تلقّى فيه اتّصالاً من مكتب "رئيسه"، حمل إليه دعوةً إلى لقاء هذا الرّئيس على الفور في مكتبه. كان قد أنهى لتوّه مكالمةً هاتفيّة معها عندما تلقّى الاتّصال. توجّه للقائه. كانت دهشته كبيرة عندما استقبله وإلى جانبه والد زوجته السّابقة!..

كان هذا الضّابط الأمني على تواصلٍ دائم مع "شاهد أبو تاج"، وهو يدرك مدى سطوة وسلطة هذا الرّجل، ويعرف عنه قدرته على التدخّل في الحياة السياسيّة والأمنيّة اللبنانيّة، لكنّه لم يستطع أن يجد تفسيرًا لوجوده هناك حينها.

لم تطل تساؤلاته، فقد سمع "رئيسه" يقول له:

- الأخ "شاهد" أخبرني الكثير عنك، وأنا فخورٌ بأن يكون إلى جانبي ضبّاط كأمثالك.

*يشرّفني ذلك "سيدنا".

- نحن يا عقيد نمرّ في مرحلةٍ دقيقة كما تلاحظ، والبلاد بحاجةٍ إلى جهودنا وإخلاصنا كي ننقذها من الذين يحاولون العبث بأمنها السّياسي والاجتماعي.

*طبعًا "سيدنا"..

- الأوضاع تتطلّب منّا بالتّحديد، نحن في هذا الجهاز الأمني، تحرّكاتٍ سريعة ومدروسة، وتنتظرنا مهمّات متعدّدة. والحقيقة بعد اطّلاعي على ملفّك، وبعد أن تشاورت مع الأخ "شاهد" في الأمر، ارتأيت أن أوكل إليك إحدى هذه المهمّات لما تتطلّبه من دقّةٍ وشجاعةٍ وإخلاص.

*أنا على استعدادٍ كامل لهذه المهمّة مهما كانت.

نظر "رئيسه" إلى "شاهد" الذي ابتسم له، وبادره بالقول:

- ألم أقل لك إنّه يمكنك الاعتماد على صهري؟!..

أجابه ضاحكًا:

- وهل أنا مجنونٌ كي لا آخذ بنصيحتك؟!..

ضحك الجميع، ثمّ قال "الرّئيس" لسمير:

- هل قرأت صحفًا اليوم؟

*بعض العناوين.

- هل لفت انتباهك ما كُتب عن الملفّات البيئيّة؟

- بالطّبع!.. فهذه الملفّات تشغل وسائل الإعلام كافّة منذ أيّام.

ما كاد ينهي العقيد كلامه، حتى ناوله مجلّة، وسأله:

- أنت تعرف من صاحب هذه المجلّة البيئيّة ورئيس تحريرها، أليس كذلك؟

*بالتّأكيد "سيدنا". إنّه سيّء الذّكر أحمد عامر.

- افتح الصّفحة الخامسة واقرأ العنوان.

فتّش بسرعةٍ عن الصّفحة الخامسة، وقرأ بصوتٍ مسموع: 

"فتح الملفّات البيئيّة في لبنان يواكبه فتح السّجون للأحرار"..

وما أن أنهى قراءة العنوان حتى أظهر انزعاجه، وقال:

*أف أف أف!.. هذا كلامٌ خطير!..

قال له "رئيسه":

- "تخّنها" أحمد عامر.. ستتفاجأ أكثر عندما تقرأ ما كتبه!..

تدخّل "شاهد"، وقال لصهره السّابق:

- أحمد عامر يتحدّث عن انقلابٍ في البلاد على المؤسّسات الدستوريّة والمدنيّة.

*ألهذه الدّرجة؟!..

- بل أكثر، فهو يحرّض النّاس على الوقوف في وجه بعض الأجهزة الأمنيّة، وبالتّحديد الجهاز الذي تعمل فيه.

*يجب وضع حدٍّ لهذا الرّجل.

أجابه "رئيسه":

- هذا ما سنفعله، وهذه مهمّتك أيّها العقيد.

*أنا جاهز "سيدنا".

- اسمع!.. سنحرّك ملفًّا قضائيًّا ضدّه بتهمة الإساءة إلى الدّولة والتّحريض على مؤسّساتٍ أمنيّة، لكنّنا نعرف جميعنا أنّ هذا الموضوع يتطلّب وقتًا، ولا نضمن النّتائج. لذلك، علينا العمل بموازاة الملفّ القضائي ووضع خطّة تهدف إلى أمرين: أوّلهما، إظهار صورته على حقيقتها كي يفقد مصداقيّته ويسهل بالتّالي إضعافه. وثانيهما، الانقضاض عليه لتوجيه ضربةٍ قاضية إليه ويكون عبرةً لغيره، خاصّةً أنّ هذا الرّجل تؤيّد طروحاته مجموعة كبيرة من المثقّفين والشّباب والطلاّب المعارضين للدّولة، كما أنّه استطاع منذ عودته إلى لبنان، أن يبني علاقاتٍ جيّدة مع أحزابٍ ونقاباتٍ وشخصيّاتٍ سياسيّة معارضة للحكم وهذا خطرٌ كبير.

*أنا جاهزٌ "سيدنا". ما المطلوب منّي بالتّحديد؟

- أنت ستتولّى الأمر برمّته. طبعًا سنكون إلى جانبك وننسّق سويًّا كلّ الخطوات الواجب اتّخاذها، وأُولى مهمّاتك الآن، السّفر إلى كندا.

*إلى كندا؟!..

- نعم!.. أنت تذكر طبعًا الزّيارة التي قام بها مسؤولٌ كندي رفيع المستوى إلى لبنان منذ شهرين. فخلال تلك الزّيارة، تمّ الإتّفاق على أن يقوم وفدٌ من ضبّاطنا بزيارةٍ إلى كندا للاطّلاع على تقنيّات العمل الأمني فيها، لذلك، تمّ ترتيب الموضوع لتكون أنت رئيس هذا الوفد وسيرافقك ضابطان آخران.

*ولكن ما دخل سفري هذا بأحمد عامر؟

- ستبقى هناك ثلاثة أيّام، ومن ضمن برنامج زيارتكم، جولة سياحيّة قصيرة، وطبعًا ستتّصلون بالسّفارة اللبنانيّة. لذلك، أنت عمليًّا مسافرٌ تنفيذًا لاتّفاقٍ بين الحكومتين اللبنانيّة والكنديّة، ولكن، لديك مهمّة أُخرى تتعلّق بأحمد عامر من خلال السّفارة اللبنانيّة.

*لم أفهم!..

- من ضمن التّشكيلات الدبلوماسيّة الأخيرة، عُيّن موظّفٌ كبيرٌ في السّفارة هناك، وهو الذي سيساعدك في المهمّة. وبصراحة، الأخ "شاهد" يثق به، وكان يعتمد عليه كثيرًا هنا في لبنان.

استرسل في الشّرح؛ فلم يترك تفصيلاً إلاّ وذكره. أوضح له أنّ الموظّف الكبير في السّفارة اللبنانيّة في كندا واسمه "كمال الباطح"، كُلّف بجمع أكبر قدرٍ من المعلومات عن أحمد عامر في الفترة التي كان فيها هناك، خاصّةً تلك المتعلّقة بعددٍ من الباحثين المتعاطفين مع إسرائيل، والذين كانوا زملاء له في العمل.

 

                                                                                       (يتبع)

 
  2
  1
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال