29 سبتمبر . 7 دقائق قراءة . 600
حاول فريد النّهوض لكنّ ألمه منعه من ذلك، وأحسّ أنّ ذراعه قد كُسرت. لاحظ أنّ رجل الأمن الذي ضربه انصرف عنه، وأنّ الجميع تفرّقوا وابتعدوا، وأضحى وحيدًا، فعاد ليحاول النّهوض من جديد. لم تمضِ لحظاتٌ إلاّ وشعر بيدٍ تمسكه من الخلف. سمع صوتًا أنثويًّا يناديه بخوف. نظر إلى مصدر الصّوت ودُهش عندما اكتشف أنّ صاحبته هي باسمة الحسّان!.. أمسكته بيده وابتعدا بسرعةٍ عن المكان. لاقاهما عنصران من الصّليب الأحمر وبدءا بإسعافه، ثمّ نقلاه إلى سيّارة إسعافٍ موجودة هناك، وانطلقا به إلى المستشفى، فتبعته باسمة بسيّارتها. أُدخل إلى قسم الطّوارىء، وبدأ الأطبّاء بمعالجته. كانت إصابته في جبينه طفيفة، لكنّ ذراعه كُسرت بالفعل، ممّا دفعهم إلى إبقائه في المستشفى.
لم يكن الأستاذ الجامعي يعرف أنّ باسمة الحسّان تشارك في الاعتصام. كانت آخر مرّةٍ رآها فيها برفقة سمير حصرمي في ذكرى مرور أربعين يومًا على مقتل أحمد عامر. رآها قبل ذلك في مأتم صديقه. لم يلتقها في الجامعة ولو مرّة واحدة منذ بداية العام الدّراسي في الأوّل من تشرين الثّاني، فهي أضحت طالبةً في السّنة الثّانية، وهو لا يدرّس طلاّب هذه السّنة الجامعيّة، كما أنّه لم يستطع أن يعطي الوقت الكافي لجامعته بعد مقتل صديقه، فكان يلقي محاضراته ويغادرها على عجل، ولم يكثّف من وجوده فيها إلاّ بعد مرور أربعين يومًا على الحادثة، حيث بدأ حينها يلتقي بزملائه وطلاّبه بانتظام، لكنّه لم يلتقِ باسمة ولا مرّة.
في ذلك اليوم، حضرت تلك الشابّة إلى الجامعة، وعلمت بأمر الاعتصام فقرّرت المشاركة. كان رفاقها قد انطلقوا إلى أمام مقرّ مجلس الوزراء، فلحقت بهم. وصلت في الوقت الذي كان رجال الأمن يقمعون المعتصمين وينهالون عليهم ضربًا. شاهدت فريدًا على الأرض فتوجّهت نحوه وساعدته على النّهوض، وأصرّت على مرافقته إلى المستشفى.
كانت السّاعة قد شارفت على السّادسة مساءً وهي ما زالت هناك. انتظرت ليخرج فريد من غرفة العمليّات للاطمئنان عليه قبل عودتها إلى منزلها. لم تكن قد تحدّثت إلى سمير بعد، لكنّه اتّصل بها في ذلك الوقت. اعتذر منها لأنّه لم يتّصل بها خلال فترة النّهار. أبلغته أنّها في المستشفى وأنّ صديقه "الدكتور" عطا يُعالَج فيها بعد تعرّضه للضّرب على أيدي رجال الأمن. جُنّ جنونه عندما سمعها، فسألها بتوتّرٍ وانفعال:
- كيف عرفت أنّه في المستشفى؟
قالت له:
*كنت أشارك في الاعتصام.
أحسّ بطلقة رصاصٍ أصابت صدره عندما سمعها. قال لها بغضب:
- ما علاقتك أنت بالاعتصام؟!.. أبلغيني على الأقل.. استشيريني..
أجابته بحزنٍ وبعض التوتّر:
*لا أظنّ أنّ التّعبير عن الغضب لمقتل صديقنا المشترك أحمد عامر يلزمه استشارة أيّها العقيد.
نزلت كلماتها على مسمعه كرسالة تحذيرٍ له. شعر أنّ ردّة فعله أثارت حفيظتها وغيظها، وتركت تساؤلاتٍ وشكوكًا لديها، فعاد إلى هدوئه المصطنع، وقال لها:
- صحيح حبيبتي!.. أنا آسف!.. أحمد عامر خسارة لا تعوّض، لكنّ خوفي عليك هو الذي دفعني إلى الانفعال.. في مطلق الأحوال، هل أصابك مكروه؟!..
*لا.. أنا بخير.
- وصديقنا، ما الذي أصابه؟
*أُصيب بكسرٍ في الذّراع، وبجرحٍ بسيطٍ في الجبين. هو الآن في غرفة العمليّات.
- حسنًا!.. لا أستطيع أن أغادر مكتبي الآن وأنضمّ إليك. سأتّصل بك لاحقًا للاطمئنان عنه.
أنهى مكالمته وغاص في الشّرود. لم تعجبه الخطوة التي أقدمت عليها حبيبته. رأى فيها حلقة إضافيّة من حلقات البرودة التي تلفّ علاقتهما منذ شهور، وبوادر جفاء قد يفترش الطّريق بين قلبيهما. أقلقه الأمر!.. لكنّ معظم قلقه كان نابعًا من القرار الذي اتّخذته بمشاركتها في الاعتصام، حيث اعتبره قرارًا ينقض بالكامل أفكاره وانتماءاته. أدرك أنّ زوجته الواعدة لن تنسجم مع رؤيته وأسلوبه وموقعه، فصمّم على إبعادها عن تلك القرارات والأفكار والخطوات المعارضة للحكم الذي يستميت في الدّفاع عنه، مع رفض فكرة خسارتها، خاصّة أنّ علاقته بها بدأت منذ عام، وهو رسم وخطّط للظّفر بها وجعلها زوجته وأمّ أولاده الذي يحلم بإطلالتهم على الحياة. قرّر أن يلتقيها في أقرب وقت، فاتّصل بها قرابة السّابعة والنّصف مساءً. كانت في طريقها إلى منزلها. سألها بلطفٍ عن الأستاذ الجامعي، فأبلغته أنّه بخير، وقد أُدخل إلى إحدى غرف المستشفى بعد إجراء العمليّة الجراحيّة في ذراعه. كما أبلغته أنّها تركته وحيدًا بعد أن اطمأنّت عليه. حادثها لبعض الوقت وأعلمها أنّه سيزوره غدًا صباحًا، وطلب إليها أن تكون جاهزةً بعد ساعتين لتناول العشاء سويًّا في أحد المطاعم. قبلت على مضضٍ لأنّها لم تكن في مزاجٍ جيّد نتيجة ما حدث. لكن، وقبل الموعد بقليل، خابرها معتذرًا وأبلغها بإلغائه بسبب انشغاله. أجّله مجبرًا إلى اليوم التّالي على الرّغم من تصميمه على استعجال خطواته باتّجاه علاقته بها قبل أن يخرج الموضوع عن يده؛ فما حدث أمام مقرّ مجلس الوزراء، أشعل البلاد احتجاجًا واعتراضًا. قمع الأساتذة والطلاّب الجامعيّين وإصابة العديد منهم بجراح، أثار حفيظة المعارضين للحكم، فتوالت بيانات الاستنكار من نوّابٍ وأحزابٍ ونقاباتٍ وشخصيّات، مطالبةً الحكومة بفتح تحقيقٍ فوري، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الحادثة، الأمر الذي دفع ببعض الأجهزة الأمنيّة إلى تكثيف العمل للالتفاف على تحرّكات المعارضة.
كان الجهاز الأمني الذي يعمل فيه سمير السبّاق في اتّخاذ الخطوات ضدّ المعارضة، فتكثّفت الاجتماعات بين قادته في تلك اللّيلة، وعمد هؤلاء إلى تزويد بعض وسائل الإعلام بالمعلومات المناقضة لحقيقة ما حدث، في وقتٍ صدر بيانٌ عن القوى الأمنيّة جاء فيه: "إنّ رجال الأمن دافعوا عن أنفسهم بعد تعرّضهم للشّتائم ورمي الحجارة من قبل المعتصمين".
لم تستكن البلاد في تلك اللّيلة، وقدم نهارٌ آخر حاملاً معه تبعات اليوم الذي مضى، فصعّدت الأحزاب والقوى المعارضة من مواقفها، داعيةً إلى التّظاهر احتجاجًا، لكنّ السّلطة لم تمنحها ترخيصًا بذلك، فاشتدّت المواقف وتفاعلت، واستمرّت الأزمة لأيّامٍ وأيّام، ولم تهدأ إلاّ مع بروز أزمةٍ جديدةٍ أتت ملامحها هذه المرّة من منطقة الشّمال، بعد اشتباك جماعاتٍ إسلاميّةٍ متشدّدة مع عناصر أمنيّة، أوقعت قتلى ودفعت بالقوى الأمنيّة إلى محاصرة المتشدّدين الإسلاميّين الذين لجأوا إلى الجرود والجبال، ثمّ القبض على معظمهم بعد مدّة.
(يتبع)