05 أبريل . 10 دقائق قراءة . 720
جاءت فكرة كتابة هذا المقال بعد قراءتي لكتاب "الفن" للناقد كلايف بل، الذي أوضح فيه نظريته الجمالية حول ما أسماه (الشكل الدال).
في هذا الكتاب خصص الناقد فصلا كاملا لما بعد الانطباعية، وداخل الفصل كان يمجد كثيرا الفنان الفرنسي بول سيزان، إذ يرى فيه النموذج الأمثل لنظريته الشكلانية.
راجت بذهني تساؤلات عن دوافع اختيار كلايف بل لحركة ما بعد الانطباعية أو على الأصح فترة ما بعد الانطباعية؟ لأنها فترة تاريخية وليست حركة فنية كما يعتقد. وأين يمكن استجلاء العناصر الجمالية التي قد تفضي بالباحث إلى استكناه "النمذجة الشكلانية" التي تواءم نظرية الناقد "بل"؟
خلال تهيئي للكتابة عشت حالات من التردد والشرود، سببها جملة من التساؤلات ذات الأهمية، حول الدوافع لتناول موضوع من هذا الحجم، موضوع تم استهلاكه وربما أغلقت جميع النوافذ التي قد تفضي إلى الجديد فيه، جماليا وفلسفيا وتقنيا وتاريخيا. ما فائدة الكتابة عن فترة من تاريخ الفن الغربي، وما الجديد الذي قد أقترحه أنا، ككاتب عربي، على القارئ العربي؟ كفنان عربي، مهتم بالكتابة عن الفن والبحث في الجمالية، ماذا سأضيفه لما هو موجود وموثق، صادر عن نقاد ومؤرخين لهم مكانتهم العلمية في مجالات الفن وفلسفة الفن وعلم الجمال؟ فمن السهل العثور على كل ما يمكننا البحث عنه حول هذا الموضوع وأمثاله عن طريق الأنترنيت وما يقدمه من كتب ومقالات إلكترونية متوفرة للتحميل في أي وقت.
لكن الحالات النفسية المقلقة التي باتت تنتابني ما فتئت أن خمد أجيجها حينما تصفحت جل ما يتوفر حول ما بعد الانطباعية على متصفح غوغل، ولم أعثر على أجوبة مقنعة للتساؤلات التي شغلتني وأنا أطالع كتاب "الفن" للناقد الإنجليزي كلايف بل (1881-1964):
لماذا خصص الكاتب فصلا كاملا لما بعد الانطباعية دون غيرها من حركات الفن الحديث التي شهدتها العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر؟ ولماذا ركز اهتمامه على فنان واحد من هذه الفترة: بول سيزان Paul Cézanne (1839-1906)، الذي اعتبره النموذج الأمثل للشكلانية؟
قد نجد بعض الإجابات لدى الكاتب نفسه مبررا اختياراته، فمن جهة يرى أنه: "لا يسع أي واحد من جيلي أن يضع كتابا عن الفن لا يعرض فيه لتلك الحركة التي يطلق عليها في هذا البلد "ما بعد الانطباعية" Postimpressionnisme، وإلا كان فعله محض تصنع. وحيث إني سوف أتناولها بإفاضة كبيرة، فأود ألا أفوت هذه الفرصة السانحة لكي أنظر في مدى انسجام هذه الحركة مع نظريتي في الاستطيقا". (الفن، ص. 83)
ومن جهة ثانية نجده يبرر اختياره لبول سيزان بقوله: "لقد فتنني سيزان وخلب لبي قبل ان يتكشف لي ان اقوى خصائصه هي الحاحه على اعلاء منزلة الشكل الدال فوق كل منزلة"
وأخيرا يرى أن ما بعد الانطباعية "تحتل مكانها كجزء من منحدر من تلك المنحدرات الهائلة التي يمكن أن نقسم إليها تاريخ الفن والتاريخ الروحي للجنس البشري. إنني في لحظات حماستي يغريني الأمل بأن تكون "ما بعد الانطباعية" هي المرحلة الأولى من منحدر جديد تقف فيه هذه الحركة بالنسبة إليه نفس الموقف الذي يقفه الفن البيزنطي في القرن السادس بالنسبة إلى المنحدر القديم"(الفن، ص.90)
الربط هنا بين "منحدر" أواخر القرن التاسع عشر و"منحدر" الفن البيزنطي هذا يذكرني بما جاء على لسان هيغل. ففي كتابه "الجمالية" Esthétique، يطرح الفيلسوف فكرة "نهاية الفن" مع بداية الرومانسية، المتمثلة حسب التصنيف الهيغلي في فنون القرون الوسطى المسيحية، وفنون القرن التاسع عشر التي استمدت روحها من الفن القوطي الوسيطي l’art gothique médiéval، حيث يفقد الشكل، في نظر هيغل، أهميته لينزاح لصالح المضمون.
يقول مارك جمنيز: " علينا أن نعرف أن العصر الرومانسي بالنسبة إلى هيغل يعني تلك المرحلة الفنية التي جاءت مع بداية الغرب المسيحي والتي عرفت عصرها الذهبي في العصر الوسيط وقد امتدت إلى غاية بداية القرن التاسع عشر".(جيمنيز، ما الجمالية)
وتجسدت هذه المرحلة بالخصوص في المنشآت المعمارية، الدينية وغيرها، التي استمدت أشكالها من هياكل الكنائس القوطية، مما جعل هيغل يرى أن كل مراحل الفن الرومانسي قد "تم اجتيازها" وأن كل الموضوعات والأشكال قد "تم استنفادها"، وفي غياب التجديد "ضرب الفنانون صفحا عن تفكيرهم"، ويعني أن الفنانين المحدثين الذين عاشوا في بداية القرن التاسع عشر تحت طائلة التكرار والاجترار لم يكتفوا بإعادة إنتاج الفن الذي كان سائدا في العصور السابقة.
إن هيغل يتحدث عن الفنانين المحدثين الذين كانوا في بداية القرن 19، فهم محدثون بالنسبة لعصره أولا، وبالنسبة للفنون التي يعتبرها هو ويؤمن بها، أي تلك التي "تستجيب للتطلعات الروحية للأفراد". فهؤلاء كانوا يجترون ويكررون ما سبق دون أي مبادرة للتجديد.
وفي نفس السياق يقول "بل": "إن غالبية الذين نَبَهوا فيما بين ذروة النهضة والحركة المعاصرة يمكن تقسيمهم إلى فصلين: أهل الصنعة، وأهل الغفلة. أما أهل الصنعة، أولئك الأساتذة الصغار الذين كان بوسعهم أن يكونوا فنانين لو لم يستغرق التصوير كل طاقاتهم، فكانوا طيلة هذه الفترة لا يفتؤون ينسجون أحاجي تكنيكية ويجدون في حلها. وأما اهل الغفلة فقد ظلوا يطورون الصور الفوتوغرافية الملونة ولا يزالون".
قبل الخوض في مناقشة هذا الموضوع يجب التأكيد على أن ما بعد الانطباعية هي فترة تاريخية بدأت مع نهاية نشاط مجموعة الفنانين الانطباعيين.
في مواجهة حالات الرفض المتتالية التي عرفتها أعمال رواد الانطباعية عامي 1867 و1872، إبان ترشيحها لأحد معارض صالون المرفوضين Salon des Refusés، قررت مجموعة من الفنانين بما في ذلك مونيه، رينوار، بيسارو، سيسلي، سيزان، بيرث موريسو وإدغار ديغا تشكيل الجمعية المغلقة للرسامين والنحاتين والنقاشين la Société anonyme des artistes peintres, sculpteurs et graveurs تنظيم معرضهم الخاص في 15 أبريل 1874، وهو أول معرض انطباعي شارك فيه حوالي ثلاثون رسامًا. نظم المعرض داخل استوديو صديقهم، المصور فيليكس تورناشون، المعروف بِ Nadar(1820-1910)، والمعرض هو الأول من ثمانية معارض التي ستعقد بين عامي 1874 و1886.
انتهت الحركة الانطباعية في عام 1886 مع آخر تظاهرة رئيسية للمجموعة.
ما بعد الانطباعية Postimpressionnisme، هي حقبة من تاريخ الفن الحديث، تقع بين نهاية 1880 و1910. هي حقبة محدودة في الزمان وفي المكان. عادة ما نجد أن "ما بعد" لا يعني نهاية الما قبل بالتمام، كما هو الحال بالنسبة للحداثة وما بعد الحداثة، بل الموجتان تتعايشان. بينما فترة ما بعد الانطباعية أنهت جذريا مرحلة الانطباعية، حيث تفرقت المجموعة وبعض افرادها غير أسلوبه ومنهجية اشتغاله وتفكيره، ومنهم من هاجر محترفه وأصدقاءه، والذين بقوا يمارسون التقنية الانطباعية يعدون نقلة مقلدون للأسلوب دون أي محاولة منهم لتجديده. فهم من "أهل الصنعة، أولئك الأساتذة الصغار الذين كان بوسعهم أن يكونوا فنانين لو لم يستغرق التصوير كل طاقاتهم، فكانوا طيلة هذه الفترة لا يفتؤون ينسجون أحاجي تكنيكية ويجدون في حلها".( الفن، ص.84/85)
ما بعد الانطباعية ليست حركة فنية كما وصفها كلايف بل نفسه. فهو طيلة الفصل، يتحدث عنها بوصفها حركة "لا تنطوي على قطيعة عنيفة مع الماضي" (ص. 86). لكنه لا يلبث يؤكد أن "مجرد الحديث عن "ما بعد الانطباعية" بوصفها حركة من شأنه أن يؤدي إلى ضروب من سوء الفهم" (ص. 86). فعلا أنها لا تنطوي على قطيعة عنيفة مع الماضي كتلك التي جاءت بها الحركات الشكلية الطلائعية كالتكعيبية والددائية والتجريدية مثلا.
إن مرحلة ما بعد الانطباعية تعبيرعن عقلية شاعت في أوروبا خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. لذلك لا يمكن اقتصارها على الفنانين الفرنسيين فقط أو الذين عاشوا في فرنسا آنذاك. فجميع الدول الأوروبية اخترقتها نسبيا الهزات الجمالية، والبحوث الشكلية ما بعد الانطباعية.
وبالتالي فإن مصطلح ما بعد الانطباعية هو اسم غامض ومتعدد، يتضمن عشرات التيارات والأساليب الفنية، وهو مصطلح سيطبقه النقاد بعد ذلك على سيزان أولا-الذي يعتبر أول ممثل لهذه القطيعة الجديدة – ثم فانغوغ Van Gogh وغوغان Gauguin وتولوز لوتريك Toulouse-Lautrec وجورج سورا Seurat، وبول سينياك Siniac من تم راج الاعتقاد أن ما بعد الانطباعية هي حركة فنية ظهرت لتجديد أفكار ورؤى الانطباعيين، الذين كانوا يبحثون عن واقعية أكثر واقعية مما عرف فيما قبل، متناسين تأثير وأهمية ذاتية الفنان التي أرسى أسسها الاتجاه الرومانسي، فظهرت حركات ما بعد الانطباعية كرد فعل ضد هذا النسيان.
إن ما بعد الانطباعية ليس تيارا موحد الرؤى الجمالية والبحوث التشكيلية، بل مجموعة من الأساليب والحركات الفنية الجديدة مثل الانطباعية الجديدة Néo Impressionnisme، المعروفة بتقنيتي التنقيطية Pointillisme والتجزيئية Divisionnisme. والتركيبية Synthétisme، والرمزية وأبحاث مجموعة الأنبياء Les Nabis.
فحسب وجهات نظر النقاد أن الانطباعية وصلت إلى حدودها وحان الوقت لتفسح المجال لظهور مجموعات تشكلت كثمرة صداقات أو معارك شديدة بين الرسامين، والتبادل بينهم وبين النقاد، وصالات العرض، ورعاة الفن، مما ساعد على خلق طاقات جديدة أيعنت خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
انتهت ما بعد الانطباعية مع ظهور الحركات الطلائعية في بداية القرن العشرون.
يتبع
15 أغسطس . 2 دقيقة قراءة