08 أبريل . 3 دقائق قراءة . 786
اهتمت طروحات الانطباعيين بدراسة الانعكاسات الضوئية، والبحث عن حرية كبيرة في التوصل إلى تحقيق وهم أكثر مثالية للانطباع البصري، مما جعل نقاد الفن يؤكدون بيقين على أن غزو الطبيعة قد اكتمل مع الانطباعية، وأن كل شيء مرئي أصبح موضوعًا للرسم وأن العالم الحقيقي بجوانبه المختلفة أصبح موضوعا للدراسة والبحث بالنسبة للفنان. ربما كان هذا النجاح الذي حققته أساليبهم هو الذي دفع بعض الفنانين إلى الشك في قدراتهم الإبداعية والتخلي فيما بعد عن اتباع المنهج الانطباعي.
إن الانطباعية لم تهتم فقط باللون والضوء، بل إن مقاربتها الجمالية تحدت هذين العنصرين. ولولا ذلك التحدي ما كانت لتعتبر مؤسسة للفن الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر. فالانطباعيون فتتوا الشكل وكسروا الحاجز الخطي الذي يفصل بين العمق والشكل، le fond et la forme. وكان تفتيت الشكل لحساب اللون الذي أخذ مكانة متميزة لديهم، فركزوا كل اهتماماتهم وملاحظاتهم على التغيرات التي تطرأ على اللون بسبب التبدلات المناخية والتغيرات الضوئية خلا ل النهار، لذلك نجد الفنان كلود مونيه يعطينا لوحات تتناول نفس الموضوع لكن في أوقات مختلفة، انظر مثلا سلسلة كومة القش أو سلسلة الكاتدرائية. فلم يكن الموضوع ابدا شغلهم الشاغل كما هو حال من قبلهم أو من جاء بعدهم، كفناني الواقعية، كوربيه وكوغو وميلي مثلا. بل كان هم الانطباعيين القبض على اللحظي l’instantané، وهذا مهم جدا كعامل استطيقي تنبني عليه فلسفة وجمالية المدرسة الانطباعية.
نجد اللحظي كذلك كعنصر الممارسة التشكيلية لدى سيزان في لوحات جبل سانت فكتوار، إذ قدم لنا عددا من الأعمال تتناول نفس الموضوع كما حضر عليه الفنان في أوقات مختلفة من النهار. فهو لم يصور لنا منظر الجبل ولكن أعطانا صورا تفيد التطورات اللحظية التي عاشها الجبل في أوقات زمنية مختلفة. وكانت النتيجة التي توصل إليها سيزان "المنظور اللوني" الذي اعتمد طريقة le lointain proche في التركيبات التشكيلية للوحاته، وتجب الإشارة إلى أن سيزان اختلف عن باقي الانطباعيين حين أعاد إلى الشكل مكانته وقوته في أبحاثه مما جعل فناني الاتجاه التكعيبي يعتمدون أفكاره ومعالجته التقنية والتعبيرية للأشياء، حتى سميت الفترة التكعيبية الأولى باسمه، الفترة السيزانية.
قد يميل المرء إلى النظر إلى الانطباعيين كأول مجموعة من الفنانين ظهر على أيديهم الفن الحديث، بتحديهم بعض المبادئ الأساسية التي باتت لمدد من الزمن تشكل قيم الدراسات الأكاديمية، ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، إذ أن الانطباعيين استمروا في التعامل مع بعض الأفكار والمبادئ التقليدية التي تجد جذورها في عصر النهضة لتحقق الهدف الأسمى للفن. فهم أيضا عملوا على رسم الطبيعة كما تبدو للعين، إلا أن جدالهم ونزاعهم مع ثلة المحافظين، من رسامين ومسؤولين عن عروض الصالون الرسمي وصالون المرفوضين، كان يدور حول كيفية العلاج التقني للموضوعات المقترحة دون طرح المشاكل الجمالية والتقنية بحدة وبعمق.
فمن بين الانتقادات التي وجهت إلى الفنانين الانطباعيين كونهم عملوا على تمويه الشكل بفقدانه لقيمه الحقيقية، مقابل الاهتمام "الكلي وبشكل أساسي بالمسائل البصرية وحدها وتعلقها بهذه الناحية الحسية المادية". وكان من أشد المنتقدين الفنان بول غوغان Paul Gauguin (1848-1903)، الذي أخذ على الانطباعيين كونهم "يتحرون الأشياء حول العين، وليس في عمق الفكر السحري، ومن هنا فإنهم يقعون في تبريرات علمية".
كان النقاد يرفضون الرسامين الانطباعيين لصالح أنظمة التمثيل الأخرى كالتنقيطية Pointillisme التي طورها الفنانان إدغار دوغا Edgar Degas (1834-1917) وبول سينياك Paul Signac (1863-1935) ورفقاؤهما، والتركيبية Synthétisme، المصطلح الذي استخدمته مجموعة بونت آفن Pont-Aven: بول غوغان Paul Gauguin و إميل برنار Emile Bernard (1868-1941) ولويس أنكويتين Louis Anquetin (1861-1932) وآخرون، عام 1877 للتمييز بين الانطباعية العلمية والانطباعية الطبيعية.
ارتبطت التركيبية Synthétisme بالتقسيمية Cloisonnisme قبل أن تتحول إلى الرمزية Symbolisme، التيار الفني الشامل الذي أخذ تجلياته الناظمة لجمالياته من منجز الفنان بول غوغان. ومن بين الخصائص الإستطيقية التي اعتمدتها مجموعة بونت آفن Pont-Aven للاختلاف عن الانطباعية:
المظهر الخارجي للأشكال الطبيعية، الذي عملت الانطباعية على تذويبه وسط هالة الضوء والبخار واللون.مشاعر ذات الفنان إزاء الموضوع، ذلك أن الانطباعية نقلت ما تراه العين بنوع من الحياد العاطفي.النقاء الجمالي للخط واللون والشكل، الذي انزاح لصالح نوع من الرمادية اللونية.يلخص موريس دوني Maurice Denis ( 1870-1943) أحد فناني مجموعة الأنبياء Les Nabis البارزين، التركيبية على النحو التالي: "إنه لأمر جيد أن نذكر أن صورة قبل أن تكون حصان معركة، أو امرأة عارية، أو حكاية ما، هي في جوهرها سطح مستو مغطى بالألوان في ترتيب معين". وهذا يلخص ما ذهب إليه الفنانون الثلاثة الذين يعدون قامات سامقة ارتكز عليها تأسيس الحداثة الطلائعية مع بداية القرن العشرين: غوغان وفان غوغ وسيزان. فقد نهج كل منهم سبيلا خاصا به وبعض منهم تلاقى أسلوبه مع ما نادى به فيما قبل، الشاعر الفرنسي بودلير: "أريد حقولا ملونة بالأحمر وأشجارا لونت بالأزرق. فليس للطبيعة من مخيلة."
تجسدت أمنية بودلير هاته في أعمال كل من غوغان وفان غوغ خاصة اللذان تخليا عن اللون المحلي La couleur locale وقطعا كل صلة ب "عوائق المشابهة"، لصالح "اللون الاصطلاحي" الذي طالب به بودلير، فتناقضت هذه الرؤية الجمالية بشكل واضح مع ما كان يسعى إليه الفنانون الانطباعيون وخاصة كلود مونيه Claude Monet، الذي لخص مقاربته الفنية بقوله: "أرى هذا البيدر بنفسجيا عند الغسق. إذًا أُصوره بنفسجيا على لوحتي".
لم يكن الفنانون الشباب هم وحدهم من انتقدوا الانطباعية، بل شكل النقد أيضا موضوعات الكتاب والأدباء. فعبر المنابر والمحافل الأدبية سعى المتدخلون إلى إنكار الرسامين الانطباعيين الذين كان شيوخ الأدب، منهم ستيفان ملارمي Stéphane Mallarmé (1842-1898)، يكنون لهم المحبة والتقدير، كما اتهموهم بمواصلتهم العمل بالصيغ القديمة المتجاوزة.
لامس نقاد الأدب العديد من أوجه التشابه بين مفهوم الانطباعية التصويرية وجماليات الاقتراح الذي طورها الشاعر مالارمي وأشاعها تلاميذه من بعده. فقد تأسس مشروعه الأدبي على مثال الوضوح Idéal de clarté، الذي بات يميز الأدب الأكاديمي بميله إلى كتابة الأحاسيس الزائلة بدلاً من فكرة الموضوع.
"من المؤكد أن الأعمال التي تتم إعادة قراءتها دائمًا بمتعة رائعة هي تلك التي، بدلاً من التعبير بصراحة عن أفكار المؤلف وعواطفه، تفضل أن تشير إليه بالكاد وتغلفه في الضباب، تاركة للقارئ مهمة إعادة تكوينه كاملا من جديد". (Vittorio Pica)
في عام 1886 يصرخ الناقد فيليكس فينيون Félix Fénéon : " لقد تقادمت أزمنة الانطباعية الجميلة" وأن فنها أصبح مؤسسا institutionnalisé. وبعد عقدين ونيف، يبرز فنانو الطليعة بنفس الأفكار التي تنتقد بشدة الاتجاه الانطباعي. فهذا الفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky (1866-1944) يصرح في أكتوبر 1912: "لا أعتقد أن هناك ناقدًا واحدًا اليوم لا يعرف أن" الانطباعية قد انتهت. هناك من يعرف أنها كانت الخاتمة الطبيعية لمن يريد أن يكون طبيعيا في الفن ".
(رغم ذلك كله، نجد اليوم العديد من الكتاب العرب يهللون لمن اتبع الرسم الانطباعي من الرسامين المحليين؟).
لعل ما أدركه التطور الفني اللاحق مع التكعيبية والتجريدية والمستقبلية والعديد من فنون فترة ما بين الحربين العالميتين، هو قصور "وسائل الإدراك البصري المباشر وحدوده الضيقة"، فجوهر الأشياء لا يتلخص وجوده فيما يتم استكناه حقيقته عبر منافذ الرؤية البصرية وحدها، "النافذة الضيقة التي ليس بوسعها سوى التقاط جزء يسير من الحقل المتموج". وامام "هذا العجز في التقاط تعقيدات الطبيعة، وجد الفنان أن بإمكانه قلب العالم الخارجي باتجاه العالم الداخلي وطرح الحلول المبنية على جمع ألوان باتت منفصلة عن أي تمثيل صوري". سيتولد عن هذا القلب، اتجاهات جديدة وأصيلة عرفت بالتبسيط على مستوى الأشكال وبنائها، والألوان وتناسق مساحاتها الكروماتية، والتخلي نهائيا عن التكوينات المرتكزة على المنظور الأوقليدي المنتمي إلى عصر النهضة، إنها اتجاهات ركزت اهتمامها على "اللون اللاصوري المستقل" الذي سيشكل أساسيات البحث التشكيلي وجماليات الفن الحديث لدى فناني القرن العشرين.
هوامش:
Vittorio Pica, « Les Modernes Byzantins : Stéphane Mallarmé », La Revue indépendante, no 52, février 1891, p. 194-195.Félix Fénéon, « L’impressionnisme » (L’émancipation sociale, 3 et 16 avril 1887)Jean Clay, De l’impressionnisme, Editions Hachette, Paris, 1971De l'impressionnisme à l'art moderne - Jean Clay)