18 أبريل . 10 دقائق قراءة . 971
" أوثر سماع صوت جميل على رؤية طلعة فتانة. فالوجه الفتان يستثير شهوتي. أما الصوت الجميل فيجعل روحي تصدح"
الشيرازي
منذُ عام 1975م وأنا أبحث بظاهرة فيروز صاحبة الصوت الملائكي الدافئ، والمخملي.كان وراء هذا الدافع في البحث الدين الكبير المتراكم علي لصالح صوت السيدة فيروز، والذي نشأ مع نعمة صوتها الذي منحته لي لفترة تزيد عن خمسين عاماً، ولم تكن في يوم من الأيام بخيلة عليّ، ولا على المواطن العربي، فهي مخلوقة غير عادية، تنتمي إلى عالم الملائكة، وصوتها مضمخ بعطر الحضارات، وعبق التاريخ، و تفوح منه رائحة الطهارة .
فبصوتها زرعت الأمل في كياني بعدما سرقه الزمن، وفجرت ينابيع المحبة في صحرائي، ورسمت آلاف الابتسامات على وجهي المتحجر، لقد نثرت بذور الفرح في حقولي، فكانت أيقونة معلقة على جدار قلبي، وشعاعاً من نور أنار طريقي، كانت رفيقة دربي، ومصغر وطن في غربتي، ومعزية في أحزاني، كانت رشفة ماء وقت الظمأ، وكسرة خبز أيام الجوع ، فبذلك أعادت لنا الصورة الجميلة التي سرقها الهم من وجوهنا، ونقت أرواحنا بعد أن لوثتها سموم الأفاعي التي تعيش معنا.
جاء هذا الكتاب ليسدي لهذه السيدة الشيء القليل مما قدمته لي، آملاً أن تقبله مني. مع الإشارة إلى أنه من الصعب جداً اختزال حياة، و أعمال السيدة فيروز في كتاب واحد. فالحالة الجمالية في صوتها بحاجة إلى متخصصين في علم الأصوات، والبعد الفلسفي في الكتلة الأدبية التي تعاملت معها، يعجز شخصٌ واحدٌ عن تحليلها، أما الألحان التي رافقت صوتها خلال رحلتها الفنية فهي كبيرة جداً قدراً وكماً. والمساحة التي تشغلها السيدة فيروز في ساحة الفن، وفي قلوب الأمة العربية واسعةًٌ جداً. ومن هنا مهما احتوى هذا الكتاب يبقى المجال واسعاً أمام الكثيرين للإبحار في هذا المحيط الواسع .
هذا الكتاب ليس سيرة السيدة فيروز والعائلة الرحبانية، فهذا الشيء هو حق خاص بهم يكتبون سيرتهم بالصورة التي يرونها مناسبة. إنما هو كتاب تحليلي لمجموعة من العوامل التي عملت مع بعضها البعض، والتي نتج عنها حضارة جديدة اسمها حضارة فيروز والرحابنة . ومن حق أي كاتب أو محلل أن يقوم بدراسة أي حضارة نشأت على هذه الأرض . وخاصة إذا كانت هذه الحضارة غنية بالعطاء، تخاطب، وتعطي، وتتفاعل،و تغازل الحضارات الأخرى. فها هي تخاطب الحضارة الفرنسية وتغني لها:" باريس يا ذهب الحرية يا شمس التاريخ يا باريس".وتنتقد وحشية روما "روما يا وحش الحضارة الما بيشبع ". وفي لندن أكثر من عشرة آلاف بريطاني حنوا رؤوسهم احتراماً و إجلالاً لهذه المرأة العربية.لقد بللت أرض أميركا بالعطر، وحدثت شعبها عن لبنان وعن أبنائه الكبار، وذكرتهم بجبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة ,وغيرهم، كانت نسمة ريح ناعمة هبت على البرازيل. وخاطبت إنسانه البسيط بكل حنان، وشرحت لأهالي استراليا نظرية المحبة.وقدمت الدفء لشعب كندا .
خاطبت البشرية من خلال منظمتها الدولية عن عدالة تقسيم الإرث بين أبناء هذه القرية الصغيرة التي تسمى الكرة الأرضية، غنت للطفولة في سويسرا، وللحرمان في الكثير من أغانيها، كانت صرخة بوجه الظلم، و لا يزال صدى صوتها يضرب أبواب القلوب المتحجرة، وجودها التفسير المعاكس لكل ما هو سلبي معمول به، واجهة حضارية، وصرح شامخ في لبنان والوطن العربي.
مع فيروز تتلاشى الحدود، وتذوب الفوارق، وينام الحزن، ويسافر الهم، ويرحل الحقد، ويدخل النور إلى القلوب المعتمة، وتتسلل السعادة إلى الكيانات المنهكة من ظلم الكثيرين، و تبدأ أبجدية الحياة بكتابة إصحاح جديد في سفر تكويننا، سفر خالي من خيانة "يهوذا"، وسذاجة "بيلاطس البنطي"، ومن كذب "مسيلمة". و إذا كان "أبولويجسم"قد جمع في الحضارة الإغريقية جميع القيم الحضارية عند اليونان، فإن فيروز فعلت الشيء ذاته في حضارتنا العربية.
فيروز كيان أفرطت العناية الإلهية بالعطاء له فأنعمت عليه بصوت مميز، فجماله أعلى من صوت البشر مكانة، وأدنى من صوت الملائكة درجة. ولهذا جاء اسم الكتاب " فيروز سفيرة المحبة " ولهذا فقد نقلت لنا المحبة من منابعها الأصلية، مرة أحيتها في قلوبنا، ومرات كثيرة زرعتها على بيادر نفوسنا.
إنني أُقرُ بالعدد الهائل من المفكرين، والكتاب، والملحنين الذين ساعدوا على إبراز هذا الصوت بهذا الشكل الرائع، وهناك أيضاً جيش من الجنود المجهولين الذين عملوا على إبراز فيروز ككيان من خلود، ومع ذلك تبقى هي وحدها حاملة مشعل النور.
إن صوت السيدة فيروز نعمة ربانية، الشكر لله على هذه النعمة، فيروز في الآونة الأخيرة تحولت إلى رمز يحمل معاني كبيرة على مستوى لبنان، والوطن العربي، فخلال الأزمة اللبنانية من عام 1975ميلادي، وحتى عام 1985ميلادي انقسمت بيروت إلى قسمين شرقية وغربية، ولقد وصل في ذلك الوقت عدد التنظيمات السياسية على الساحة السياسية اللبنانية إلى أكثر من مئة تنظيم عجزت هذه التنظيمات بأفكارها، وأشخاصها عن تحقيق وحدة بيروت . ولكن بصوت وبشخص فيروز بقيت بيروت موحدة، وكان صوتها مثل الأكسجين الذي يزود الرئتين بيروت الشرقية والغربية، فاستمرت الحياة بشخص واحد. فيروز وحدها كانت تتنقل بين فوهات بنادق الطرفين على الخط الفاصل، ولا تجد هذه البنادق إلا الانحناء إجلالاً واحتراماً لهذه السيدة العظيمة، لقد استطاعت السيدة فيروز بصوتها ،وخطواتها أن تحقق وحدة بيروت، بل وحدة لبنان كله خلال الأزمة التي عصفت بلبنان، فهي أيقونة المحبة وعطر الشرق.
كان التركيز عليها بحزمة كبيرة من الضوء، آملاً أن لا يتحول هذا الكتاب فيما بعد إلى عتاد يستخدم في المعركة بين الفيروزيين وخصومهم، لأن كل ما جاء فيه هو انسياب ذاتي من ضميري كما أُحس به. كنت أحس به كلما استمعت لصوتها، أو تذكرت كلمات أغانيها، أو أثناء مرور شريط مواقفها، و أقوالها . تستحق أكثر من ذلك، فهي وطن في امرأة، ورسالة في صوتها، ورمز في كيانها.فهي رقم نادر قبل القسمة على الغني، والفقير بنفس الوقت، وهي طريق سارت عليه كل الأرجل المتعبة والفرحة، وهي نبع شرب منه العطاش، والمتخمون بلحوم الفقراء. وهي ترتيلة قرأها المؤمن، والملحد، والمفكر، والساذج، والبسيط … هي حلم جميل أفاق عليه أغلبية بني أمتي.
الكتابة عنها عمل ليس بالأمر السهل، فهي امرأة غير عادية، تحضر إلينا كل صباح، تجلس معنا مع فنجان القهوة، تشد من عزمنا قبل الخروج من البيت، تعطينا الأمان والراحة النفسية مع كل مواجهة تعترضنا، تشعرنا بنشوة جميلة وبسعادة غامرة، تعقم جروحنا من عنف الغدر، وتمسح الدمع من عيوننا المتعبة بصور الدمار المحيط بنا.وفي قسوة معاناتنا من الغربة تنتشلنا من نارها وتلقى بنا في أحضان الوطن، توقف لعبة الشطرنج التي تكون أجسادنا بها بيادق، وأحصنة يقتل الكثير منا بحركة بسيطة.
صوتها بحد ذاته يعدُ منبراً فكرياً تشع منه أجمل الكلمات،وأمتن الأفكار، ومع الزمن كبرت لتصبح صالوناً فكرياً، وحلقةً أدبيةً، أغدق عليها أُدباءُ العرب، ومفكروهم دُررهم النفيسة لتقدمه لنا كهدية جميلة مع إشراقة كل صباح، ومع رحيل كل يوم، بهذه الدُرر فعلت بنا فيروز أكثر مما فعله أزميل "ما يكل أنجلو" بصخور فلورنسا، ورسمت على جدار قلوبنا لوحات تفوق جمال لوحات "ليونارد دافنشي"، و رفائيل"، و" كلود مونيه" ، ومع زياد جعلت جزءاً من كياننا سريالياً تضاهي سريالية "سلفا دور سالي" ، علاوة على ذلك كانت دَمِثة الخُلق، وفيّة في صداقتها، وسمحة النفس، ونقية القلب، وعريضة الثقافة، وتاج كل ذلك كانت طاهرة الجسد، كل ذلك جعل من مجمل أعمالها معبداً للذوق السليم.
نحن نعيش في عالم متقلب، مكبوت، مهزوز الأركان، فراغه أكبر من وجوده، جعلنا ندور حول أنفسنا، وطلي أبواب حياتنا بلون الحزن، صوت فيروز كان الدواء الوحيد الذي أخرجنا من عزلة المكان، وهجرة النفس، تصنع فينا أكثر بكثير مما نتوقع منها، فكان صوتها خصماً عنيداً لهمجية هذا العالم المضطرب، عالم الأنانية، والحسد، والحقد والغدر.
مع بداية العقد الثاني من حياتي، وبالذات في العام 1975ميلادي، تسلل صوت السيدة فيروز إلى أعماقي واستقر في ذاتي، وبدأ كياني وشخصيتي يتكونان بوجود عنصر جديد هو فن السيدة فيروز وصوتها، وما أجمل السير في هذه الحياة مع فن هذه الملاك . ومنذ ذلك الوقت تولدت لدي الرغبة في إنجاز هذا الكتاب.
الكتاب بعنوان فيروز سفيرة المحبة، لقد نقلت لنا فلسفة المحبة بكل ما تحتوية الكلمة من معنى. يتكون هذا الكتاب من ثمانية فصول، سفر التكوين الذي بمثابة سيرة ذاتية بقلم ثاني، وفصل عن عاصي ومنصور بحكم الطريق المشترك، والفصل الثالث مخصص عن زياد الرحباني بحكم الأمومة، اما الفصل الرابع فجاء عن الذين منحوا فيروز الكلمة واللحن خارج امبراطورية الرحبانة، الفصل الخامس تحدثت به عن المحبة وهو جوهر الكتاب، ثم جاء الفصل السادس الذي خصصته عن صديق فيروز العزيز الا وهو القمر، وجاء الفصل السابع لكي أسرد فيه قصة الزمن، الذي نمر برحلتنا الوجودية عبر فراغه، والفصل الثامن كان بعنوان الأغنية الدينية التي تميزت بها فيروز.
هناك جوانب كثيرة تتعلق بفيروز يمكن دراستها، مثل الوطن، القضية الفلسطينية، الباب، وهذا ما سيكون محاور الجزء الثاني من هذا الكتاب.
أشخاص كثيرون قدموا لي المساعدة، أولهم الخال الحبيب رحمه الله البرفسور الدكتور حنا جميل حداد العميد السابق لكلية الآداب في جامعة اليرموك-الاردن، والأخ الحبيب الدكتور محمد أبو عيد، والأخت رانيا القصاص.والفاضلة ابتسام نجيب حداد،والفنان الاستاذ خلدون غرايبة الذي صمم الغلاف، حيث عمل اسقاطاً رائعاً لفرح فيروز على صرخة فانش، أقدم لهم جزيل شكري على الجهد الذي قدموه لي في سبيل اخراج هذا الكتاب .
مقدمة كتاب (فيروز سفيرة المحبة)
د. زياد حداد