18 مايو . 7 دقائق قراءة . 1491
ماذا يخسر الشخص الذي لا يطوّر ذاته؟ إنّه يخسر حياته. تلك هي الإجابة لا غير. خذ برتقالة وغلّفها بعدّة ورقات، ثمّ قدّمها كهديّة لأحدهم. لن يعرف ما بداخل الهدية الكرويّة الشكل إلّا إذا ما نزع عنها ورقات الغلاف، ولن يذوق طعم البرتقالة إلّا إذا ما وصل إلى الفاكهة ونزع عنها قشورها. كذلك هي النفس. إذا لم تعرفها، لم تتمتّع بها وعشت حياتك ترمق الغلاف دون أن تتذوّق طعمها. أمّا الطريق لمعرفة النفس، فهو تطوير الذّات.
على عكس ما يُروّجُ له، ليس الهدف من تطوير الذات تحقيق وفرة ماليّة أو ماديّة، أو تحسين الثقة بالنفس. إنّما هو يرمي إلى معرفة النفس، ومن خلالها، تأتي الثقة بالنفس وقد تأتي أيضا أحيانا الوفرة الماليّة والماديّة حسب ما ترتئيه ذاتك.
التطوير هو التّحوّل من طور إلى طور، أي من حال إلى آخر. أمّا الذات الإنسانيّة، فهي النفس، أو الروح التي إذا ما غادرت الجسد، انتهت الحياة.
يتطلّب تطوير الذّات الارتقاء بها، ومن أجل هذه الغاية، يجب على صاحب الذات أن يفهمها ويفهم آليّاتها. إنّ الإنسان الحديث يتبجّح بعقلانيّته التي استقاها من عقلانيّة العلم وصار يقدّمها على أنّها رمز الحداثة والتطوّر. لكنّه يبقى كائنا لا عقلانيّا بالأساس، غرائزيّا، تصدر عنه تصرّفات ميكانيكيّة يفرزها لاوعيه بجميع تراكماته، وقد تؤثّر فيه بعض الكلمات بطريقة بالغة تخرج عن حدود العقل وتكون صدى لجروح نفسيّة عانى منها في طفولته.
لذلك فإنّ من يريد أن يرتقي بنفسه وجب عليه بادئ ذي بدء أن يفهم هذه النفس التي يريد تطويرها، ويفهم آليّاتها وأنماطها: متى ولأيّ سبب تنفعل أو تتفاعل؟ متى تنتكس ومتى تنفتح؟
سيجد الأجوبة عن هذه التساؤلات بطول الملاحظة لما يجري بداخله، ولتصرّفاته في مختلف امتحانات الحياة. وهذا يتطلّب منه من ناحية أن يراقب نفسه في تعاملاته، ومن ناحية أخرى أن يصغي إلى صوته الدّاخليّ.
وبمرور الوقت ومع التدرّب، سوف يتعلّم أن يحترم ذلك الصوت الدّاخليّ، وأن يُحبّ نفسه، ويقدّرها، وأن يشعر بالأمان الدّاخليّ، وكلّ ذلك سيفضي إلى تطوير ثقته بنفسه.
إنّ الإصغاء إلى ذلك الصوت الدّاخليّ الذي عادة ما يهمس لك بالقرار الصحيح أو بالكلمة المناسبة، يمكّنك من معرفة نفسك ومن العيش دون انفصام بين حياتك الدّاخليّة وحياتك الخارجيّة. عندها تتناغم أفعالك مع كيانك الدّاخليّ، ويصبح بإمكانك أن تثق بما يقوله صوتك الدّاخليّ. وهنا يكمن سرّ الثقة بالنفس.
فالثقة بالنفس، تعني الاطمئنان الداخليّ، الاطمئنان بأنّ الشاكلة التي أتت عليها نفسك إلى هذا العالم كافية لكي تحيا، وأنّك لست بحاجة إلى أن تكون شخصا آخر لكي تعرف السّعادة، لا شخصا آخر حقيقيّا ولا أيّ شخصيّة أخرى قد تصنعها لك مخيّلتك.
لهذا السبب، فإنّ طرق تطوير الذات التي تركّز اهتمامها فقط على الوفرة الماديّة لا تأخذ بعين الاعتبار اختلاف النفوس. كتب الكاتب اللبنانيّ الأصل "فرح أنطون" في بداية القرن العشرين رواية بعنوان "الدين والعلم والمال"، تروي قصّة ثلاث مجموعات بشريّة، تهتمّ كلّ واحدة منها إمّا بالدّين أو بالعلم أو بالمال، وتظنّ كلّ مجموعة أنّها صاحبة الفضل في تسيير شؤون المدينة التي تجمعهم، وأنّها قوّامة على المجموعتين الأخريين. لكنّ ذلك من عمى البصيرة، إذ أنّ لكلّ نفس طبائعها. وهو كذلك من عمى البصيرة أن ينحصر تطوير الذّات، في تحقيق الرفّاه الماديّ، وألّا ينصبّ على تعليم معرفة النفس فحسب، بينما يبقى للمرء أن يقرّر إن كانت نفسه تتوق أوّلا وقبل كلّ شيء إلى المال أم إلى غير ذلك.
بقي أن نضيف في هذا السّياق أنّ الثقة بالنفس لا تساوي التّعالي أو التواضع المزيّف. فكلاهما يدلّان على أنّ الشخص غير راضٍ عن نفسه وأنّه يحاول إمّا أن يثبتها من خلال تحقير الغير فيشعر أنّه يعلو عليه، وإمّا أن يحقّر من شأنها فلا يعطيها ما تستحقّه من احترام.
أقرا أيضاً:
لتقوية شخصيّتك، لا تغيّر تصرّفاتك مع غيرك
يتطلّب إصغاء الفرد إلى صوته الدّاخليّ أن يعتمد ملاحظة نفسه ومراقبتها في جميع الأوقات حتّى تصير منهجا في الحياة. والمراقبة ليست تقييما، بل هي يقظة تجاه ما يجري بداخله. هل يخطر ببالك أن تقود سيّارتك مغمض العينين ولو للحظة؟ كلّا. بنفس الطريقة، لا تستطيع أن توجّه حياتك بينما تغضّ البصر عمّا يجري بدواخلك.
قد تتساءل إن كان صوتك الداخليّ على حقّ، وإن كان من الوجيه أن تصغي إليه. إنّ حقيقة الفرد تكمن في صوته الداخليّ النابع من قلبه، لكنّه قد لا يتوصلّ إليه في البداية، وقد يسمع أصواتا عديدة أخرى. لذلك، فكلّ من يسلك طريق تطوير الذات، يحتاج إلى أن يتعلّم التمييز بين مختلف الأصوات التي يسمعها بداخله. وسيساعده على ذلك، التعرّف على الإحساس الذي يولّده لديه كلّ صوت. هل هو إحساس بالرّاحة؟ أم إحساس بالقوّة؟ قوّة الأنا المتجبّر؟ ماذا ينجرّ عن كلّ قرار يتخذه على أساس إحساس معيّن وصوت معيّن؟ يحتاج المرء إلى تجارب عديدة يراقب خلالها نفسه، ويستخلص منها ما هو نافع وما هو ضارّ.
إنّ تطوير الذات يساعدك على أن تعيش الحياة بالكامل، فتحسّ أنّك حيّ وأنّك أمّ وأب نفسك معا. لا تعيش في الغبن أو مثل آلة، بعيدا عن حقيقتك.
الثقة بالنفس التي يسعى إليها تطوير الذات هي نتيجة لاعتبار الحياة والتعامل معها انطلاقا من الداخل لا من الخارج. عندما تعيش انطلاقا من كيانك الداخليّ، لن تتردّد، لن تخجل، لأنّك سوف تفعل ما عليك أن تفعله في حالة من الراحة النفسيّة.
وهذه الثقة بالنفس والرضا عنها يجعلان الفرد يكبر في محبّته لنفسه واحترامه لذاته. وليس ذلك إعجابا بالنفس أو غرورا لكنّه محبّة حقيقيّة للنفس، شبيهة بشعور المحبّة الذّي تكنّه أمّ لصغيرها. هذا هو نوع المحبّة التي تجعل الفرد يحسّ بالاطمئنان: أن يكون في نفس الوقت المُحِبَّ والمحبوبَ، الأمّ والطفل في الآن ذاته، و الفرد الذي يصل إلى هذه المحبّة إنّما هو الذي وصل إلى طعم البرتقالة.
بقلم اسمهان الشعبوني