في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل ميخائيل نعيمه (28 شباط فبراير 1988و الساعة 10 وثلث مساءً):

21 فبراير  .   8 دقائق قراءة  .    856

يفتح المنزل-المتحف في المطيلب أبوابه لاستقبال الأحبّة في الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل ميخائيل نعيمه نهار السبت الواقع في 26 شباط فبراير 2022 من الساعة 11 صباحاً حتى الساعة 6 مساءً - المنزل الذي يوثّق آخر 20 سنة من عمر نعيمه التي قضاها في منزله بالزلقا مع إبنة أخيه ميّ نجيب نعيمه وابنتها سهى

 

ميخائيل نعيمه في أيّامه الأربعة الأخيرة:

 

-25 شباط فبراير 1988الوقت قبل الظهر، أربعة أيّام قبل رحيل نعيمه

 

ميخائيل نعيمه مستلْق على سريره في غرفة نومه بالزلقا، وحوله ميّ، إبنة أخيه و"ملاكه الحارس" كما كان يلقّبها، مع شقيقها نديم وأنا أحمل آلة التسجيل وأسجّل تلك الأحاديث مدركة أهمّيّتها: لعلّ تلك اللحظات تكون الأخيرة لميخائيل نعيمه - جدّو ميشا كما ترعرعت على مناداته - الذي هو أبي الروحيّ والذي نموْت بمحبّته وروحه وفكره ومردود كتبه.  فبهذا التسجيل يتسنّى لي أن أسمع صوت حبيبي جدّو ميشا ساعة أشاء، أكان هذا قبل الرحيل الذي لا بدّ منه يوماً ما أوبعده. ولا تزال تلك التسجيلات للأيّام الأخيرة لميخائيل نعيمه، لحبيبي جدّو ميشا، محفوظة لديّ، من منزلنا بالزلقا الذي هو منزل الميماسونا (ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه = الأقانيم الثلاثة للكلمة الواحدة والنبض الواحد) حيث قطنّا أمّي وأنا معه إلى المنزل-المتحف بالمطيْلب.

  يشهد منزلنا بالزلقا، الذي انتقلَتْ كلّ تفاصيله الى منزلي بالمطيْلب، على آخر عشرين سنة من عمر نعيمه، ويحتوي على مخطوطات ووثائق وصور ورسائل وأغراض شخصيّة وغيرها تعود إلى نعيمه خلال تلك الحقبة من الزمن، ولا بل إلى ما يتخطّى تلك الفترة.

-نديم (يسأل ميّ): أكل عمّي اليوم؟

-ميّ:  أكل شقفتين غريفون وشقفة توست.  شو قلّك د. أمين يوسف؟ 

-نديم: قال لي أنّ عمّي يعاني من نزلة صدريّة وأخْذ الدواء بانتظام سيؤدّي إلى الشفاء.

-ميّ: انشالله، الله يسمع منّك. 

 

-26شباط فبراير1988، الوقت حوالي الظهر، ثلاثة أيّام قبل رحيل نعيمه

ميخائيل نعيمه في سريره وحوله ميّ ونديم وأنا، اسجّل ما يصدر عن جدّو ميشا من أنفاس وأنوار وصمْت وكلام. 

 

سهى أنا (أناديه): جدّو

ميخائيل نعيمه: يا روحي

أنا: بتحبْني؟ 

م.ن.: يا روحي، إيه

أنا: خلّينا نصلّي سوا الصلاة يلّي علّمتني عليها. 

م.ن.: إيه

ونصلّي معاً، جدّو ميشا وأنا، صلاته الذي وعيْت على ذاتي وأنا أصلّيها، المطبوعة في كتابه "من وحي المسيح" (1974) التي علّمني إيّاها وأنا طفلة. أنا أصلّي بصمتي واسجّل صوت جدّو ميشا، المتهدّج، وهو ويتلو صلاته باللغة الإنكليزيّة فيردّد: 

"يا مسيحي، بصليبك أتدرّع، وبمحبّتك ألتحف. وأشهد أنّ أنجيلك هو طريق الحقّ، وأنّ حياتك هي طريق الحياة. فأهّلْني أن أفهم إنجيلك وأن أحيا بحياتك" (ص 263). 

-وأكمل دردشتي مع جدّو ميشا: جدّو، مش حابب تروح على غرفة القعدة؟ 

-م. ن.: لا، خلّيني هون.

-أنا: جدّو، بتتذكّر شي من قصيدة "صنّين"؟ 

وقصيدة "صنّين" هي ضمن القصائد الغير منشورة لنعيمه. نظمها نعيمه لتلاميذ المدرسة الرسميّة في بسكنتا، التي كان مديرها لسنتين تقريباً أبّان عودته من هجرته الأميركيّة التي دامتْ عقدين ونيّف، ووضَع للقصيدة لحناً لكي ينشدها الطلبة أثناء رحلتهم إلى بعلبك.  

-أنا: بتقولْها؟ 

-م.ن.: إيه. 

وأقرّب آلة التسجيل أكثر ويسرد جدّو ميشا قصيدته عن صنّين، الجبل الذي تسلّقه ثلاثة مرّات، والذي منه ومن ربوعه استقى الكثير من أفكاره واستوحى الكثير من كتبه، على رأسها "كتاب مرداد".  إنّه الجبل الذي ترك من أجله نعيمه ناطحات سحاب نيويورك و‘دردورها‘ ليتعبّد لخالقه وللطبيعة الساحرة الطيّبة المعلّمة في سفوحه. وبصوت جدّو ميشا البعيد المتعب أعود حيث أنا، قرب سريره، أضغط على آلة التسجيل وكأنّها طفلتي، ويردّد جدّو ميشا قصيدته: 

م.ن.: "صنّين يا زين الجبال      يا بكْر آيات الخيال

         يا حادياً ظعن الجمال      من فوق أشلاء السنين

                         صنّين  صنّين 

        صنّين يا وكر الفصول       يا كاسياً عرْي الحقول

        من روحك الأرض البتول   ترضع ربوات البنين 

                      صنّين   صنّين "

ويقف عند هذا البيت جدّو ميشا، من أصل خمسة بيوت، تقاطعه القحّة والسعال. 

وهذه القصيدة محفوظة كاملة في المنزل-المتحف بالمطيْلب بخطّ ميخائيل نعيمه وبخطّ والدتي ميّ. 

 

-28 شباط فبراير 1988، الساعة 11 ق.ظ. تقريباً، يوم رحيل جدّو ميشا

نديم مع شقيقته وعمّه في المنزل بالزلقا وأنا معهم.

-ميّ: شورأيك عمّي تْروح ع غرفة القعدة؟ 

-م.ن.: إيه.

تتعاون ميّ وعمّها للذهاب من غرفة نومه إلى زاويته من غرفة الجلوس.  يتمدّد هناك في زاويته ويصمت لبرهة قصيرة ثمّ يتوجّه إلى ميّ: 

-م.ن.: ميّ ولْعيلي سيجارة. 

-ميّ: عمّي، مش لازم تتروّق قبل؟ 

-م.ن.: ولْعيلي سيجارة. 

تولّع ميّ لأنْكولتها (من كلمة ‘أنْكل‘ الإنكليزيّة التي تعني العمّ، وذلك زيادة في التحبّب) سيجارة وتعطيه إيّاها. يأخذ من السيجارة بضعة مجّات ثمّ يردّها لميّ.  تطفئها بالمنفضة التي بقربها والتي ما زالت محفوظة من بيت الزلقا إلى بيت المطيْلب. تمرّ دقيقتان ويكرّر نعيمه طلبه:

-م.ن.: ميّ، ولْعيلي سيجارة. 

وتنْصاع ميّ لطلب عمّها، ويعاود العمّ الحبيب، الذي هوعامود البيت، طلبه، وتتوالى السجائر لتصبح ثلاثة. تطفىء ميّ السيجارة الثالثة، يغمض ميخائيل نعيمه عينيه ويغطّ في سبات عميق.  في أوّل الغفوة، يتساقط بعض الريق من جوانب فم ميخائيل، فتمسحه ميّ بمحارم ورقيّة لا زالت محفوظة مع السجائر الثلاثة الأخيرة الذي دخّنها ميخائيل نعيمه، من الزلقا إلى المطيْلب. 

 

- 28 شباط فبراير، 1988، بعد الظهر: 

تبدأ أفراد عائلة ميخائيل نعيمه الأوسع بالتوافد: فها هي زوجة نديم، بشرى، مع أولادهما الإثنين ميشا ونسيب تدخل بيت الزلقا، ويصل يوسف مع زوجته سهام وأولادهما الثلاثة زكيّة ونجيب وفيفيان. وتأتي وفود أُخرى من الأحبّة والأصدقاء والأقارب والجيران، أذكر منهم حليم نعيمه، الدكتور متري بولس وزوجته نجاة، المصوّر والفنّان ستافرو جبرا، جيران نعيمه بالبناية التي يسكنها: سامية أبو خاطر قربان وزجها رفيق، تيريز قرطباوي ضاهر وزوجها سامي، أوديت غصن وابنتها جاكلين، السمّان جوزيف بشعلاني ووالدته شولا، وليعذرني القارىء والأحبّة إذا سقط أحد أسماء أحدهم سهواً. 

 

أذكر بأنني ركعت قرب جدّو ميشا، وكنت على يقين بأنّه سيشعر بي وسيسمع كلماتي الباطنيّة رغم غفوته. فتخاطبت معه في صمتي، وإذا به يضغط على يدي وهو مغمض العينين، فتنهمر دموعي بخشوع تامّ وهي ممزوجة بالحزن والفرح: الحزن لأنّني مدركة بأنّني لن أسمع صوت حبيبي ثانية ولن أراه ولن أغمره ولن أخبره عن تفاصيل يومي، والفرح لأنّني لمسْت في تلك اللحظة بأنّ جدّو ميشا معي ولن يتركني،  وانّنا سنظلّ نتواصل بأبعد من الأذنين والعينين البليدتين والكلام المعلّب بأحرف. فلنا الأبديّة والأزليّة لما لتلك من تحليق وحرّيّة ومعنى أبعد من أيّ حدود. 

 

-الساعة 10 وتلت مساءً: 

محاطاً بأفراد عائلته وبأحبابه، لفظ ميخائيل نعيمه نفَسَه الأخير وكأن ذاك النفَس زفير سيجارته. 

وأذكر أمّي في تلك اللحظة تقول: "يا روحي أنتَ." فكأنّ نعيمه بنفَسه الأخير قد لفظ روح ميّ أيضاً... 

رحلَتْ ميّ، الملاك الحارس، عن دنيانا في 15 كانون الثاني يناير، 2014، عند الرابعة فجراً، وبقيت أنا وحدي هنا على الأرض، الوحيدة من ثلاثيّة الميماسونا واتحادها وتفانيها وتماسكها، أنتظر وصول دوْري في بضع دورات للأرض لكي أتّحد للأبد مع ثُلْثَيْ روحي جدّو ميشا وماما ميّا. 

إلى اللقاء "يا حبّيَ الباقي إلى الأبد"... 

سهى حدّاد نعيمه 

 

الصالون في المنزل-المتحف بالمطيْلب - من منزل الميماسونا (ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه)  بالزلقا إلى منزل سهى بالمطيْلب - المنزل الذي يوثّق آخر عشرين سنة من عمر نعيمه الذي قضاه بالزلقا مع إبنة أخيه ميّ وابنتها سهى - شباط 2022 - جميع الحقوق محفوظة 

 

 

  2
  3
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال