06 مايو . 7 دقائق قراءة . 1537
عبر منصه مرداد بقلم بديع صنيج
بعد سنوات من عزلة الدراما السورية، استطاعت في هذا العام أن تكسر جزءاً من الحصار المفروض عليها، وأن تحقق حضوراً لا بأس به على بعض الفضائيات، حتى أن إعلانات بعض الأعمال الدرامية انتشرت على اللوحات الطرقية في بعض المدن العربية. وما كان في الأعوام السابقة للحرب بضاعة درامية رائجة عربياً ومطلوبة بكثرة، تحوَّل بفعل الحرب إلى منتجات مرذولة مع مقاطعة كاملة لها، ما جعل الإنتاج الدرامي السوري برمَّته مغامرة تَحسب لها شركات الإنتاج ألف حساب وحساب، لاسيما أن سوق التصريف لن يتجاوز المحطات المحلية الخمسة، وتالياً فإن المرابح إما تكون ضيئلة، إن لم تكن معدومة. أما في هذا الموسم فتغيَّر الوضع قليلاً، بالتوازي مع بعض الانفراجات على الساحة السياسية، ولعل ما ساهم في "حلحلة" مسألة التسويق بعض الشيء، هو الابتعاد عما أُشيع تصنيفه في السنوات الأخيرة تحت مسمى "دراما الحرب"، التي تصنع تراجيديات سورية تلفزيونية معاصرة، وتُمعِن في تصوير الخراب النفسي والاجتماعي والاقتصادي كنوع من الموضة، وتحت ذريعة صياغة وثيقة درامية عن الحرب، مما زاد في نفور المحطات العربية التي لا يعنيها كل ذلك بـ"قشرة بصلة"، خاصّة مع الخلافات السياسية، لذا بدأت الدراما السورية الخروج -نوعاً ما- من عنق الزجاجة، بأن ركَّزت على رغبات السوق، وتخلَّت عن كل ما يُعيق انتشارها من التزامات يضعها البعض تحت خانة "وطنية"، بينما يراها آخرون بأنها ممالأة مفضوحة لمالكي القرار في الداخل.
انطلاقاً من هذا الخيار شاهدنا اتكاءً على دراما البيئة الشامية بعدة أعمال منها "حارة القبة"، "الكندوش"، و"باب الحارة" بجزئه الحادي عشر، و"سوق الحرير" بجزئه الثاني، المرغوبة في المحطات العربية ولاسيما الخليجية، مثلها مثل الدراما البدوية في مسلسل "صقار"، مع الاعتماد على بضعة مسلسلات اجتماعية تفاوتت كثيراً في جاذبية موضوعاتها، إلى جانب عدد قليل جداً من الدراما العربية المشتركة من مثل "350 غرام"، وغياب كامل للأعمال الكوميدية في هذا الموسم.
تصفح ايضا:
وإن كانت الدراما السورية بدأت بالخروج من عنق الزجاجة تسويقياً، لكنها ما زالت محشورة فيه على صعيد النوعية المُقدَّمة، بسبب عدم الاشتغال على مواضيع مهمة بسوية فنية لائقة، قادرة على إنعاش أمجادها السابقة، إذ إن النمطية ما زالت سيدة الموقف في المسلسلات الشامية، وجميعها يُكرِّس صورة اجتماعية سياسية ثقافية مغلوطة عن الشام، على اختلاف الحقب الزمنية التي يتم تناولها، فلا مرجعيات تاريخية صحيحة، بل مجرد تهويمات تأخذ من جَمَل الحقيقة أذنه فقط، إذ حافظت تلك الأعمال على زعيم الحارة، والقبضايات، والباكوات، والنساء الخانعات، وأحاديثهن الفارغة، و"البوجقة"، والكراكون، وعلى الحارات المعزولة عما حولها، والأبواب المغلقة، من دون حتى حكاية مشوّقة، أو تصعيد مدروس، ولا حبكة متقنة، بحيث أن حشد النجوم لن يضيء شيئاً سوى الخيبة، والتَّحسُّر على تلك الإنتاجات الضخمة مادياً، والضئيلة فكرياً، فهل من المعقول أن نحصر دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، ببضعة مكائد نسائية، أو أمانة ضائعة وستبقى ضائعة لخمسة أجزاء أخرى، أو بسارق ظل ستة حلقات مختبئاً خلف شجرة ولم يره أحد، أو أن نبني صراعاً من أجل رجل رأى امرأة سافرة، أو آخر لا تكتمل رجولته إلا مع أربعة زوجات، وغير ذلك من التسخيف الذي لا ينتهي ولو بدزينة من الأجزاء، مع ما يمليه ذلك من شطط ومطط وملل ليس من جنس الدراما أساساً؟
الدراما البدوية بعملها اليتيم هذا العام، لم تخرج من نمطية الصنف أيضاً، حيث الثارات، والحب الموؤود، وغنائم الغزوات، وحروب السيادة، وتكسير الرؤوس، و"الكِنيص"، إلى آخره مما تفرضه حياة الصحراء ورمالها المتحركة، ليبقى الأمل معقوداً على الدراما الاجتماعية، التي استطاعت في بعض أعمالها أن تُحقِّق فتوحات رقابية واضحة، واقتحامات لعوالم درامية جديدة، لاسيما أنها لجأت لتقول ما تُريده، عبر العودة حيناً إلى تاريخ سابق كما في "خريف العشاق" لكاتبته "ديانا جبور"، والذي تمكَّن من تصوير القبضة الأمنية المستشرية في سبيعينيات القرن الماضي، والدخول في دهاليز الحُكم وسجونه، وكيفية إدارته لشؤون البلد، وصفقات الفساد التي حققت إثراءً غير مشروع لبعض الشخصيات النافذة، وما إلى هنالك، من قضايا تعززت مكانتها في نفوس الجمهور النخبوي الذي يقرأ ما بين السطور، ويتلمَّس الإسقاطات الغاية في الإتقان على الزمن الحاضر، لاسيما ما يتعلق باختيار مدن اللاذقية ودمشق وحماه وبيروت كأمكنة تدور فيها الأحداث، ورسم شخصيات من لحم ودم، تعكس النسيج المجتمعي السوري، والتحالفات التي بَناها المُتنفِّذون من أجل تحقيق مصالحهم وضمان استمرارها، واكتملت حيوية الموضوع بكاميرا المخرج "جود سعيد" السينمائية، وكوادره اللمّاحة، ودوزنته لانفعالات الممثلين وفق المواقف المختلفة.
الإمعان في الواقعية، تم في مسلسل "على صفيح ساخن" لكاتبيه "علي وجيه" و"يامن الحجلي" من خلال اللجوء إلى عدسة مكبرة، تخوض في عوالم جديدة من مثل مكبات النفايات، وزعامات القذارة على البشر المسحوقين، في موازاة عالم "حلويات المجرة" واستخدامه كواجهة لتمرير صفقات توزيع المخدرات، والاختباء وراء جمعيات دينية متزمّتة في رفضها للآخر المختلف عن توجهاتها مهما كان، وبين العالمين تتشابك الخطوط الدرامية وتندغم في حبكة مشغولة بعناية، لدرجة أن التشويق يبقى سيد الموقف، ولا يخبو الحدث بل يتجدد ويتصاعد وقعه باستمرار، خاصة مع كاميرا حساسة للمخرج "سيف الدين سبيعي" تُقارب العالمين المختلفين بجماليات تصويرية واحدة، وتقتنص انفعالات الشخصيات، وتنامي خطوط فعلها، بميزان الذهب، فلا رغبة بتقبيح الواقع ولا تجميله، وإنما الغوص فيه كما هو، بقاذوراته ووساخته، بكذبه ومواربته، بوفائه وخياناته، إذ ليس من المهم محاكمة الواقع من خلال هذا المسلسل، بقدر إعادة قراءته من منظور جديد، وإعطاء المشاهدين مفاتيح لتحقيق ذلك.
ما تحقق في "خريف العشاق" و"على صفيح ساخن"، على اختلاف زاوية رؤيتهما للواقع، لم تُقاربه أعمال المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي (شركة حكومية سورية)، رغم لطافة النصين على صعيد الحكاية، سواء في "بعد عدة سنوات" الذي كتبه "بسام جنيد" أو "ضيوف على الحب" لـ"سامر إسماعيل"، لكن اللطافة هنا لا تكفي وحدها، إن لم تستطع صياغة واقع فني متميز على صعيد جماليات الصورة وأداء الممثل والفضاء المكاني وتفعيل الدلالات والجماليات المختلفة في كل ذلك، وهو ما فشل فيه العملان فشلاً ذريعاً، ومن يتابعهما سيتوقع للوهلة الأولى أنهما من أعمال الثمانينات على أبعد حد. برود مُدقِع على صعيد اللون وتفعيل الأداء التمثيلي وحركة الكاميرا، وكوادر مغلوطة بلا أي حساسية جمالية، وغير ذلك من الكوارث التي تُضاف إلى برود الحكاية في كثير من مفاصلها، كل هذا يضع المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني أمام سؤال وجودي، عن كيفية الانتقال من تقليدية الفكر الإنتاجي إلى مواكبة الحداثة الإنتاجية، ليس على صعيد النصوص المختارة والمخرجين الكفوئين فقط، وإنما من الناحية التسويقية، بحيث لا تبقى إنتاجاتها من المسلسلات تُقدَّم من دون توخِّي الربح اللازم لها للاستمرار في الإنتاج، أي ينبغي على المؤسسة التوقف عن التفكير بذهنية القطاع العام، والتمرُّد على قوانينها التي تأسرها بإطارها الساذج كجهة إنتاج خاسرة، رغم أن تاريخها يحفل ببعض الأعمال الناجحة والمتكاملة من مثل مسلسل "المفتاح" لمخرجه "هشام شربتجي"، لكن على ما يبدو أن الحرب خرَّبت كل شيء في تفكير المؤسسة، خاصة مع تعاقب عدة إدارات لم تكن تمتلك رؤية واضحة لمسؤولياتها الملقاة على عاتقها.
ولا يخرج عن ذلك فشل الدراما العربية المشتركة هذا العام، لاسيما منها من عَوَّمَ الهوية الزمانية والمكانية مثل "350 جرام" الذي حيَّرنا وجعلنا غير قادرين على التعاطف معه، مما تجلى تحديداً في الفرضية غير المنطقية، بأن عملية تبديل قلب الشخصية الرئيسية سيجعلها تُغيِّر جلدها، وطباعها وسلوكياتها،... ليبقى "2020" أخف ظلاً، لاسيما في ظل اشتغاله الجميل على الواقع اللبناني ببيئاته الفقيرة، وليس جعل الدراما كمجلة لاستعراض الديكورات والأزياء والأبطال الوهميين.
تصفح ايضا:
خطوات أربع لقراءة أي عمل فنّي وشرحه لأصدقائك
لنعود إلى القول بأن الدراما السورية لن تخرج من عنق الزجاجة، لا تسويقياً ولا فكرياً، إن لم تُفعِّل أسباب أمجادها السابقة، من ناحية النصوص الجميلة والإخراج الواعي وأيضاً بتكامل ذلك مع جهات إنتاج مثقفة تستطيع أن تجمع بين الدراما الجميلة والقدرة على تحقيق الأرباح من خلالها.