الغرفة السفليّة (الجزء الثاني)

01 يناير  .   6 دقائق قراءة  .    704

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول 

لم تكن تدرك باسمة أنّ ذلك اليوم الذي تعثّر بذاكرتها وقلقها، يحمل إليها رسالة احتوت على كلماتٍ كانت كافيةً لإيقاظ آمالها المبعثرة فوق صفحات حياتها، ولاءاتها المدفونة تحت صخور القهر، ولم تشعر كيف أنّه استحضر عشقه لعنفوانها، ليتلو على مسامع روحها أسرار تحدّي الذّات، ويعزف على وتر قلبها أناشيد الحبّ، وينشر فوق عقلها شذى التحرّر والانعتاق من رتابة التّقليد والتّحفظ. كلّ ما أدركته وشعرت به في ذلك الصّباح، أنّ صخرةً بدأت تتدحرج في رأسها، وتتهيّأ لتستقر جانب أخرى جاثمة فوق صدرها منذ عشر سنوات، فحاولت إزاحتها بتنهيدة مرتجفة، وبالنّظر إلى السّاعة التي في يدها، لاستجداء دقائقها المتجهّمة، علّها تنبّهها، كالعادة، إلى أنّ الوقت قد حان للهرع إلى مكان عملها؛ الفسحة الوحيدة التي تظلّلها بالصّفاء. 

-"أف!.."

أطلقتها دون تردّد، بعد أن أدركت أنّ الوقت مضى بسرعة، وأنّها تأخّرت عن موعد انطلاقها إلى عملها، فحملت حقيبة يدها، وودّعت أمّها الغارقة في صمت مقعدها، وغادرت.

بعد وقتٍ، عانقت الشّمس نافذة تلك الغرفة، ككلّ صباح. تلمّست وجهها النّاعم بلهفة. شـدّتها إلى صدرها بلطف، وطبعت على شفتيها الزجاجيّتين الباردتين قبلةً دافئةً أثارت بعض جسدها المغطـّى بستائر قماشيّة شفـّافة، غير آبهة لنسماتٍ ضالـّة، ولا لضجيج الشّارع المتسلـّل إلى حناياها.

وككلّ صباح، وهبت الشّمس قلبها الدّافىء إلى تلك النّافذة، ونزعت عنها خجلها الدّفين، فارتعشت فوق جنونها، وتراقصت فرحًا وأملاً، مطلقةً أشعّتها خيوطـًا ذهبيّةً راحت تتزاحم في رحم الغرفة، مستسلمةً لنشوة الحياة.

كانت السّاعة قد قاربت التّاسعة عندما تمدّدت الخيوط الذهبيّة في ذلك اليوم، وأغمضت عينيها هناك، في تلك الغرفة الصّغيرة التي تعوّدت عشقها كلّ صباح منذ بداية فصل الرّبيع. وعلى الرّغم من أنّ الرّبيع مضى قبل يومين، فإنّ تلك الخيوط لم تشعر مرّة أنّ أحدًا يتحسّس دفأها في الغرفة. ظنـّت على الدّوام أنـّها وحيدة، ولم تتنبّه يومًا إلى أنّ امرأة ً خمسينيّةً شاركتها على مدى ثلاثة شهور سحر قلبها النّابض بصمتٍ قاتل. لم تدرك أبدًا أنّ تلك السيّدة أسيرة أحزان ٍلا تنضب، وعتمة لا تفارقها، وسكون ألفها؛ فهي معظم النهار تبقى وحيدة في غرفتها، تتمدّد أحيانـًا على سريرها محاولةً استراق غفوة خجلى، وأحيانـًا تجلس دون حراك، وتسعى جاهدةً ألا ّ تغادر غرفتها ما دامت الشّمس ضيفتها الوحيدة خلال تلك الفترة الوجيزة من النّهار.

يومها، بدّلت تلك المرأة عادتها، فغادرت غرفتها إلى صالة الاستقبال، تاركةً الخيوط الذهبيّة في صدمةٍ وحيرة!.. لقد قـُرع الباب مرّتين قبل أن تقرِّر المغادرة. اتّكأت على عصاها وتوجّهت ببطءٍ نحو الصّالة. وقفت عند آخرها، وأمالت برأسها نحو الباب الخارجي، سائلةً بصوت مرتفع:

- مَن الطّارق؟

أتاها الجواب سريعًا:

- أنا ساعي البريد، أليس هذا منزل المدرِّسة "باسمة الحسّان"؟

- صحيح!.. ولكنّ باسمة ليست هنا، إنّها في المدرسة.

- لها رسالة من مدرسة "الأبناء" في منطقة  "رأس بيروت".

لم تستوعب ما قاله ساعي البريد، فسألته بتعجّب:

- مِنَ المدرسة؟!.. لماذا لم يسلـّموها إيّاها هناك؟!..

- لا أدري. أرجوك!.. يجب عليّ تسليم الرّسالة.

صمتت لبعض الوقت، ثمّ قالت:

- يمكنك إدخالها من تحت الباب.

- لا أستطيع، يجب التّوقيع على استلامها. مَن حضرتك؟ 

- أنا "أمّ خليل" والدة باسمة.

- يمكنكِ استلام الرّسالة، فأرجوكِ أن تفتحي الباب!..

عاد الصّمت ليلفّ المرأة الخمسينيّة. فكـّرت قليلاً، ثمّ تقدّمت نحو الباب بتثاقل بمساعدة عصاها، ففتحته نصف فتحة، وشدّت على قبضته، وسألت:

- أين الرّسالة؟

لم يأتها جواب. أعادت السّؤال ذاته، لكنّ ساعي البريد لم يجبها أيضًا. صُدم وهو يحدِّق إليها!.. رأى أمامه سيّدة شوّهت وجهها حروق متعدّدة، فلم يستطع الكلام؛ بل غاص في حيرة وحزن، وأدرك سريعًا أنّ المرأة التي تقف أمامه، عمياء، حيث كانت توجّه كلامها إلى الأمام مباشرة، وهو واقف بمحاذاة الباب.

مرّت لحظات دون أن يتفوّه بكلمة. هاله منظرها والحروق قد أكلت وجهها. لاحظ أيضًا آثار ندبات ناتجة عن عمليّات جراحيّة أجريت في الوجه والجبهة. استطاع أخيرًا أن يتحدّث إليها، فقال بصوت مرتجف:

- هاكِ الرّسالة يا خالة.

ساعدها على الإمساك بها، وعلى التّوقيع له على استلامها، ثمّ غادر وهو متأثّر بما شاهده.

رجعت السيّدة إلى غرفتها. وضعت الرّسالة قربها على المقعد، وعادت إلى التنعّم بدفء الشّمس وصمتها، ولكن، مع شرود هذه المرّة.

لقد أدهشها الأمر!.. سألت نفسها مرّات متعدّدة: لماذا يرسلون الرّسالة إلى هنا وباسمة بينهم الآن؟!.. لم تجد تفسيرًا لذلك، فغاصت في بعض ٍ من حزنٍ وهَمّ.

هناك في المدرسة، كانت ابنتها جالسة في غرفة المدرّسين تتحدَّث مع زميلها رامز وهو يدقّق في أوراق امتحانات طلاّبه قبل تسليمها إلى الإدارة. قالت له:

- أتدري أنـّك آخر المدرّسين الذين لم يسلـّموا نتائج امتحانات الطلاّب بعد؟

- نعم!.. أعرف ذلك، واليوم سأنهي الموضوع.

- لكنـّك تأخرت، أليس كذلك؟

قال بحنان وهو ينظر إلى عينيها:

- ثمّة أمر يشغلني.

لم تجبه، بل أشاحت عنه عينيها وصمتت، وتابع هو عمله. لم يطل الأمر. عادت وسألته:

- أنت يا أستاذ من المقرّبين جدًّا من الإدارة، فهل تملك معلومات عن الذين سيستغنون عن خدماتهم هذا العام؟

- كلّ ما أعرفه أنّ الإدارة قرّرت صرف ثلاثة مدرّسين وأربع مدرّسات.

- أف أف أف!... هل أنت متأكـّد من ذلك؟

- كلّ التأكيد، وسيبلـّغونهم بواسطة البريد!..

 

     (يتبع)

  4
  2
 2
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
28 يناير
شدني هذا الجزء كثيرا غدا أكمل الجزء الثالث لابد أن الرسالة هي رسالة فصل إذا
  0
  0
 
يوسف البعيني
07 فبراير
نعم!.. تكون قد لاحظت ذلك في الجزء الثّالث..
  1
  1