27 مايو . 2 دقيقة قراءة . 901
من منظور وجوديّ يمكن النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو التفريق بين الإنسان كمفهوم والإنسان كشخص. أو بكلمات أخرى، بين الإنسان- المفهوم والإنسان- الشخص.
الإنسان- المفهوم هو كينونة اعتبارية مجرّدة يدّعي الجميع الصلة بها، ابتداءً من أية فرقة دينية صغيرة وانتهاءً بالنازية والفاشيات. كل من هذه الحركات والمنظومات يقول إنه "يخدم الإنسان"، الكل "يحارب من أجله"، الكل "يضحي من أجله"، الكل "يعدّ له مستقبلاً مزدهراً"، ويتساءلون بطريقة دفاعية حين تحاصرهم التساؤلات: ألا نهدر دماءنا ونسفك دماء الآخرين "من اجل الإنسان"؟
الإنسان هنا لفظ، مفهوم، إطار كبير يمكن أن يُملأ بأي شيء. هذا "الإنسان" مستقبليّ دائماً، لا حاضر له، ولا يمكن أن يكون حاضراً، لأن وجوده الآنيّ غاية في الخطورة على جميع القضايا. وجوده الآنيّ سينفي مفهوميته ويحيي شخصانيته. إنه كينونة بعد التسويف، ولا يمكن أن تكون في زمن المضارع. الإنسان-المفهوم ليس المثال الأعلى للإنسان - الشخص. فلننتبه جيداً إلى هذا! إنه مفهوم أو مصطلح يُستدعى بعجالة كبيرة في وقت المآزق الخَطابية والخِطابية.
أما الإنسان- الشخص فهو إنسانُ الآن، إنّه ليس إنساناً فحسب، بل "هذا الإنسان" و"هذه" الإنسان. إنه كينونة ذات قصة. وكل قصة مختلفة عن الأخرى. إنه كينونة لها اسم ولها بصمتها الخاصة. الإنسان- الشخص هو عدو الإنسان- المفهوم والمدافعين عنه، والإنسان- المفهوم لا يطيق حضور الإنسان-الشخص، لأن حضور هذا الأخير فضيحة له. حضوره يكشف زيف هذا الإنسان- المفهوم، أما ألم هذا الشخص ومعاناته ومرضه وموته فيفضحون المفهوم ويجرّدونه من مهابته المؤقتة التي ينالها بفعل قوة الخطابة والحبكة المتينة للإيديولوجيات.
الإنسان- الشخص هو ابن الحياة وليس ابن الفلسفة، إلا ما ندر. وهو بالتأكيد ليس ابن الأنظمة الاستبدادية والظلاميات الجماهيرية والفلسفات الشمولية. الإنسان- الشخص في ضعفه يجرّد الإنسان- المفهوم من قوّته، لأنّه يفضح وهميّته ووقوفه على أساسٍ من المفردات الفضفاضة التي لا ترتبط بالإنسان في الحقيقة، بل بالمشاريع الأنانية الكبرى ومخططات القوة وشهوات السيطرة؛ أما في قوّته فهو يثير غضب الإنسان- المفهوم لأنه يعرّض تجريديته لنور النهار ويكشف خواء محتواه ولا إنسانيته/ لا بشريته.
أنا أقف إلى جانب الإنسان- الشخص ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. أقف مع الإنسان كحلم ورغبة وإرادة للحياة، ولا أقف مع الإنسان- المفهوم الذي لا يشكّل في الواقع إلا أداة لكلّ منظومة تقوم على القهر والقمع واختزال ماهية الإنسان وحقيقته، ليس إلّا وسيلة لغاية نبيلة في صيغتها المكتوبة فقط وفي زركشاتها السطحية المُغوِية.