30 مايو . 3 دقائق قراءة . 692
- "رباعيّة الأقنعة" هي سلسلة من أربع حلقات ضمن المسلسل السوري الشهير "الفصول الأربعة" الذي كتبت حلقاته أقلام دلع الرحبي وريم حنا وحوّلته رؤية المخرج الكبير الراحل حاتم علي إلى لحم ودم رافق نوستالجيا ملايين السّوريين والعرب. تناقش تلك الحلقات درامياً فكرة أن يكون لنا عدّة وجوه نبدّلها مع تبدل المواقف أو الأشخاص أو كي نخفي بها مشاعرنا الحقيقة لسبب أو لآخر.
لكن..
هل هي ظاهرة نفسية واعية؟
بمعنى آخر، هل تحدث بتوجيه من العقل الواعي أم من العقل الباطن؟!
بعيداً عن الإجابات العلمية .. ما يهمنا هنا أنّ هذه الظّاهرة تحدث وستحدث دائماً لنا جميعاً.
قي سياق مشابه وبينما كنت أشاهد صدفة حلقة من إحدى البرامج التّرفيهية الفضائحية الرمضانية، لفتني عنوان فقرة في البرنامج (وش تاني) تسأل المذيعة الضيوف فيها: "كم وجهاً لكم ومتى تظهرونها؟".. بالتأكيد وجوه المشاهير كثيرة ..!
ليس فقط المشاهير .. جميعنا نمتلك وجوهاً عديدة، على الأقل وفي أحسن الأحوال وجهين، أو لنقل أقنعة نخلعها ونرتديها.. قناع نرتديه مع الأهل وآخر في العمل وواحد مع الأصحاب. وحدها تلك اللحظة التي نجلس فيها ليلاً في غرفتنا ونغلق الباب، وحدها فقط التي نتعرى فيها من كل الأقنعة ونظهر بوجهنا الحقيقي. وإن كنت أظن أحياناً أن البعض يتمسك بأقنعته حتّى في تلك اللحظة!.
لن أبحث في كتب علم النفس أو الدّراسات والأبحاث ولن أستشير صاحب علم، سأبحث في داخلي فقط عن الإجابة مهما بدت تافهة أو طفولية أو.. غير علمية .. لا أريد علماً .. أريد إحساساً حقيقياً بلا "أقنعة".
- في أثناء ترتيب غرفتي أمس، وقع بين يدي دفتر من دفاتر ملاحظاتي القديمة، قلبت صفحاته باستمتاع لتلتقط عيناي في صفحته الأخيرة عبارة مأخوذة _ حسب ما هو مدوّن _ عن الرّاحل السّوري الكبير صاحب القلم الجريء محمد الماغوط:
" خوفكم من تقييم الآخرين لكم هو الذي يضطركم إلى أن تظهروا بكل الوجوه ما عدا وجهكم الحقيقي".
لمست هذا الكلام فعلاً من خلال تجربتي مع الآخرين ثانياً ومع نفسي أولاً . صحيح أنّني الآن وبعد أن أصبحت شاباً "عجوزاً" غزى الشيب جلّ شعره تخليت عن كثير من الأقنعة وبتّ أكثر شجاعة في إظهار وجهي الحقيقي في مناسبات عديدة، بيد أنّي لطالما لبست عشرات الأقنعة في مراهقتي وشبابي المبكر، أداري بها مشاعر أو صفات أو أفكار معينة خشية التعرض لانتقاد أو تنمّر أو تعليق جارح.
إنّها آلية دفاع نفسي بامتياز..
في الغالب فإنّ اسلوب التّربية وطبيعة المجتمع هما المتحكم الرّئيس في ذلك. مجتمع يهتم بالمظاهر والعادات والتقاليد البالية ويتشبث ببعض الأفكار الرجعية المتخلفة على حساب الأنسنة والتطور والانفتاح، وأساليب تربوية (لا تخرج كثيراً عن عباءة العادات والتقاليد) تعمل جاهدة على مسح فطرة الطفل التي خلقه الله بها، وغرس قوالب (الحرام والعيب والصّح والخطأ المطلقين) في عقله دون ترك حيز للتفكير وإعمال العقل أو طرح الأسئلة أو النقاش وقول لا "المعيبة!!".
- ومن الأسباب الأخرى لارتداء الأقنعة أو الوجوه حسب ما أرى، هو " تكبير الدماغ" على حدّ تعبير أهل مصر خفيفي الظّل. فكثيراً ما نجد أنفسنا لا طاقة لنا للمناقشة أو المواجهة أو التبرير، فنظهر للآخر وجهاً يفضّله أو على الأقل وجهاً محايداً، ليس خوفاً منه أو من حكمه وإنما _ كما ذكرت _ تجنّباً لجدال لا طائل منه ولا نملك المزاج المناسب له في الأصل.
- المرات التي نظهر فيها وجهنا الحقيقي أو شخصيتنا الحقيقية قليلة جداً، مهما كنا أشخاص عفويين وتلقائيين، وأعتقد أن العقل اللاواعي وبحكم العادة يلعب دوراً مهماً في هذه النقطة لا سيما أنّنا في زمن المواربة حيث الصّراحة والوضوح "والوجه الواحد" صفات مذمومة، إنه زمن المواربة في مجتمع المحاباة الذي يفضّل شخص "القالب النمطي".
- وقبل أن أضع قلمي جانباً وأغلق دفتري، لا بدّ أن أشير إلى حالة خاصة لا تختلف كثيراً عن موضوع الأقنعة، لكنّ أقنعتها من نوع آخر.
إنّها تلك اللحظة التي نلتقي بها شخصاً جديداً تماماً، شخصاً لا نعرفه ولم نلتق به قبلاً، عندها نصبح (أو نقرر أن نصبح) صفحة بيضاء ناصعة، مما يمنحنا الفرصة لملء تلك الصفحة بالشخص الذي نود أن نكونه.. وبعرضه للآخر ..
والمشكلة هنا أننا وبينما نقوم بعرض ما نودّ أن نكونه، تتسع الفجوة بين ذاتنا الحقيقية وتلك التي نَودّها.. يحدث هذا معنا جميعاً ..
وأسوأ ما في ذلك هو لحظة افتضاح الذّات الحقيقية، والأشد إيلاماً هو أنّه ومع اتساع تلك الفجوة يظهر لنا بداخلها كل ما يعوقنا على أن نصبح الذّات التي نَودّها.
ليس من السوء بشيء أن نحاول أنا وأنت ..
أن نتعاون .. على خلع كل أقنعتنا ورميها وراءنا ..
والاحتفاظ فقط بالنسخة الفطرية التي ولدنا بها .. ﺑ"الذّات" التي أرادها لنا الله..
بالوجه الواحد الذي دخلنا به هذا الدنيا والذي سنغادرها به أيضاً ...
مهما طننت أن ذلك صعب .. فهو أهون من التلوّن وأرحم للنفس من عذابه..
ومهما ظننت أن ثمن ذلك باهظ .. يبقى ثمن الأقنعة باهظاً أكثر ..!
17 يناير . 4 دقائق قراءة
07 سبتمبر . 3 دقائق قراءة