05 سبتمبر . 7 دقائق قراءة . 636
عودة بعد هجران لجنيّ القلم
رجل تبدو على ملامحه سنوات أصغر من عمره الحقيقي، الذي يكبر تلك الملامح بحوالي العشر سنوات. حين تنظر إليه تشعر أنه مفعم بالحياة والشباب رغم الهدوء والاتزان العام، لكن عيناه الذابلة توحي بالبرود والأمان، مع بشرة حنطية وحليَةٍ سوداء ولحية طويلة مَشّحتها بضع شيبات. في صوته عنفوان الأرض بأكملها شغوف بالشرح المفصل فكلُّ قصة مهما كانت بسيطة أو قصيرة تحتاج إلى وقت وتركيز حين يرويها ويصف لك المشهد وكأنك في قصة روسية. كلما اقتربت من المشهد أكثر تراودك أفكار عن الجدّية والالتزام، مع قليل من الابتسامات المدروسة بعناية كما يبدو. شخصية غريبة -كما يحب أن يسمّي نفسه- متضاربة بشدة، فغالبا ما يقول أموراً تراه يفعل عكسها وتفاجئ بأنه يفعل أشياء قد لا توقعها من ذاك النمط. هنالك دوماً جديد وغير متوقع معه ومنه.
وفي مرة ليست قديمة، أثار سؤال مقصود، إنما في حديث عابر قبيل أيام من عيد مولده، عاصفة في فكره جعله لا ينام على مدار أيام. وكأنك أفلتَّ جنيّاً في رأسه. هذا السؤال أتى من حبيبته التي تبصمه عن ظهر قلب ككف يدها وربما أكثر.
أتت نحوه في لحظة عادية وباغتته قائلةً: "أودّ أن أجعلك تفرح، ما الذي يفرحك؟"
سؤال برئ، بنيّة كالبلور الصافي، وهي إلى جانبه واقفة بعفوية طفل، وهو مستلقي على أريكته مقابل التلفاز، بدا وكأنه لم يسمع لوهلة، لكن السؤال أشعل ناراً في المسامات، صَغُرَت فجأة عيناه وبدأت تشوح يمنة وشمال كعادته حين يريد الهرب ويفقد التركيز، واحمّر جبينه وتخضبت وجنتاه، أذناه الطويلتان شابهتا لون الغروب في الخريف، جفَّ ريقه، ونبتت الأشواك في حنجرته، وبدأ يسعل بكحّات ناشفة قصيرة متتالية، وأخذت أنامله تحكُّ قماش الأريكة وتصدر صوتاً أجش، أما الرد فكان حاضراً ولكنه بحيرة المتألم من حقيقة الجواب، وحيرة إن بالحقيقة أجاب. فالرد صادم ولا يريده أن يطرق باب أذنيها التي لا تستحق إلا الجمال، ذاك الجمال الذي تسعى إلى نشره حولها والساطع من روحها لكلّنا.
وأخذ يداعب الكلمات ويمازحها ريثما يجد حلّا ديبلوماسيا لا يزعجها ولا يجعل منه كذّاب. وإنما ماذا بعد التمّهل، فهي ذكية جداً وهو يعلم أنها تعرف الجواب وتريده أن يبوح بهذه الكلمات كي تحمل معه ثقل المعاناة.
بدأ الوقت يمرّ والـجيل يفقد معناه وكل المحاولات تتجه نحو الفشل وهو يعلم، لكنه يبحث عن ثوب يجمّل العبارات، وفي هذه الأثناء أخذ يخبرها أن الفرح هو أن يكون معها، وأن الحياة سويّة هي ما يعنيه ويستفيض بالشرح حول التغيرات التي طالته مذ عرفها، فهو بارع ومبدع في التكلم عن علاقتهما للعوام ولها، وتحديداً عن حبّها له وما قدمته لأجل علاقتهما.
ويحمل دوما أخباراً كيف في ليلة دون سابق علم وإنذار تركت كل حياتها وراءها، ولملمت بضع أغراض وقررت الرحيل إليه بجرأة لا يعرفها أعتى محاربي الاسكندر، وكيف استقبلها حين وصلت إلى الشام في الليل والمطر غير المتوقع استقبلها معه.
ما تزال تلك اللحظة وكأنها الآن.......
قاطعته بابتسامة تشبه عيون الأطفال، لكنك لم تجب حتى الآن، لقد اقترب عيد مولدك، وأنا مصرّة جداً أن أراك فرحاً، كما تودّ أن تفرح.
عاد الصمت ليستل لحظاته من غمدها، والملامح السابقة تطفو على المحيا كموجة على رمال متململة.
وكعادته حين تصبح الأمور جديّة، يستحضر شخصية يحبها ويستكين حين يقلدها، ويبدأ بالتلعثم باللغة الفصحى وكأنه يختار الكلمات الراقية، وتشارك بالحديث يداه للتعبير عن الفحوى، كما قائد الأوركسترا لكن الذي يخرج للمسرح أول مرة، بين ثقة ورهبة.
وقال: غلبني سؤالك كالعادة، فحقيقة أنا لا أعرف ما الذي يفرحني، اعتدت أن أفرح لفرح الآخرين وأن أشاركهم إياه معتبراً إياه فرحي. لكنني بعد كلماتك رأيت في داخلي أن الفرح طالما ارتبط بالنسبة لي بالإنجاز وليس بمتعة مرحلة الإنجاز. أنا أخاف أن أفرح، كي لا أفقد اللحظة كي لا أخسر ما أفرحني، لأنني لا أحب اللحظات التي تلي رحيل الفرح. أود أن احافظ على سوية حالتي بشكل مستقيم، واضبط عقارب انفعالاتي الداخلية والخارجية على وقع الزوال.
وأكمل، حبيبتي إن هذا اليوم لا يعنيني، وبالتالي لا يهمني أن أفرح به، فالفرح بالنسبة لي كفكرة هو أهم بكثير من حدوثه، كيف؟ أولا امتداد الفكرة الزمني يجعل من عيش الحالة أطول، فالأفكار حين تطبّق تصبح أقصر وتعود لتتحول إلى ذكريات ومع مرور الوقت تنسى، ثانياً والأهم هو حماسك من أجلي يجعل الأمر أعمق هذا ما يسمى بالاهتمام والذي يليه السعي والخروج من الذات من أجل الآخر. هذا بحد ذاته يجعلني أفرح أكثر من الاحتفال الذي سيصبح ذكريات نتغنى به من حين لآخر.
لم يتوقف الأمر هنا بل امتد ليشغلني أيام، فصرت مهتمّ على المستوى الخصي أن عمّا يفرحني بالحقيقة، ماهي تلك الأشياء أو الأمور.
عموما بطل هذه القصة لديه اضطرابات بالنوم، فينام قليلا ليلا، وطاقاته النهارية عالية جداً. نادراً ما ينعس ومحاولاته للتخلص منها كانت ليست علاجية من اجل الشفاء، بل عبارة عن إعلاء للتعامل معها بأفضل حال من اجل رفع سوية الإنجاز كمّاً ونوعاً.
هذا ما جعل من الليل الطويل فرصة للتفكّر ملياً بقضايا وجودية، فازدادت ساعات القلق بسبب الانهماك بالغوص بين الأفكار وتمحيصها واحدة تلو الأخرى وإعادة ترتيبها على رفوف الذهن وتصنيفها بحسب تبعيّتها، بحيث أصبحت تلافيف دماغه تشبه رفوف المكتبة المركزية في جامعة عريقة ولكنها مازلت على حالتها القديمة العريقة.
ومرت تلك الأيام كجميعها، وجاء ذاك اليوم، وهو يعلم أنها قد حضرّت كل شيء، وكي يهرب من تلك الأفكار وحين كان يعطي استراحة لها، كان يخمّن ما هي المفاجآت والهدايا ويعلم أن معظم توقعاته ستكون صحيحة، وكلما أخبرها عن واحدة تتهرب وتقول عيناها كيف عرف وأنا أحاول ألا أكون اعتيادية، لكن الحقيقة أنها كانت تحضّر لما لا يتوقع.
تمت جميع الترتيبات على شكل الرجل ذو القبعة الخفية، لكنه كان يشعر بكل لحظة ان هناك ما يحاك ولكنه لا يتمكن من الإمساك بذاك الخيط الشفاف. وبدأت تنهال السعادة تباعاً وذلك تدريجياً من الأشياء المتوقعة وصولا إلى ما لم يكن ليخطر بباله.
وقالت: في هذا العام جلبت لكَ ما لم تستطع الذهاب إليه، وفي العام القادم ستأخذنا أنت إليه. وسننتظر بشوق كتابك وقهوة صنع يديك بنكهة قلم الحبر بخرطوشة زرقاء وبقع التصحيحات ورائحة الهال.
أما هو فقال: لأول مرة أؤمن أن الفرح أمر جميل، وأن عيش الأفكار أجمل منها في رأسي.
وفي الختام وبعد هذا اليوم، اخذت أفكاره تتعالج وتتماثل للشفاء، فأصبح يعي دون تعب كم هو محاط بأفراح، وكم هو كمُّ الأفراح التي يعيشها يومياً أكبر من أن تقاس، وأن الفرح موقف ومذهب في الحياة. صار يراقب السعادة ويترقبها وأعاد ترتيب رفوف ذهنه لتكون قادراً على استشعاره وتلقيه وفي كثير من الأحيان الذهاب إليه وفرضه كسنّة حياة.
29 أبريل . 2 دقيقة قراءة
01 يناير . 1 دقيقة قراءة