16 يناير . 12 دقيقة قراءة . 920
إنه يوم الخميس، كالعادة، انتظار نهاية الدوام، الذي يعلن نهاية الأسبوع. أعتقد أنها الساعة الأجمل لكل موظف مهما كان نوع عمله، وبغض النظر إن كان سعيداً بما يقوم به أم لا. كثيرون لديهم روتين دائم وبرنامج محدد لهذا اليوم. والأغلبية الساحقة من الشباب يقصدون المقهى ليلعبوا الشدة ويحتسون الشاي مع النرجيلة والسيجارة، وكأن لهذا التقليد وكل ما يتبعه طعم آخر في هذا اليوم. فلو أنهم اجتمعوا يوم الثلاثاء مثلا لكان باهتا الأمر بالنسبة لهم. في كل خميس وفي كل اجتماع يبدو كأن للسيجارة التي يدخنوها طعم مختلف وجديد ولورق الشدة أرقام جديدة وللربح نكهة أشهى. وبعد انتهاء الطقس يأتي وقت العشاء فهو إما شاورما أو فول وفتات، لتختتم الليلة بطعم الحلويات كالنابلسية أو المدلوقة.
لكن أيضا يمكننا أن نجد الكثير من الطقوس الأخرى المنوعة لهذا اليوم، فكل طقس يعني الكثير لممارسه، وقد يتحول مع الزمن ليحل مكان العقيدة ويصبح جزء من إيمانه ورتابة حياته، وأساسياً كالنوم والمياه. هذا ما حاول بجدية جميل وماهر ألا يقعا به في صداقتهما ولا في رغبتهما في لقائهما الدوري.
فلكل منهما طقوسه وحياته والتزاماته، ولكنهما يرتبطان بعلاقة محبة أخوية متينة، يسعى كل منهما لتوثيقها بنضج ونمو، وقد اعتادا أن يلتقيا على الأقل مرتين في الشهر، يتبادلان الأخبار العامة عن كل منهما حول العائلة والعمل، ومن ثم ينتقلان للحديث عن محور من القضايا الاجتماعية الظاهرة على الساحة المجتمعية ويأخذ الحوار طابعاً ثقافياً علمياً، يغني كل منهما، وهما مدركان تماماً أنه لن يشكّل فرقاً على أرض الواقع، لكن يكفي أنهما يتجاذبان هذه الأفكار، بمحاولة لتثيبت الموضوعية والحياد في كل منهما من خلال الانفتاح والحوار والهدوء، وكيفية ضبط النفس أمام فكرة غير مقبولة على المستوى الشخصي، وما السبل لتجاوز مثل هذه الفورة.
الخميس الأول من شهر كانون الأول، طالما أحب جميل هذه الفترة من السنة بين الخريف والشتاء، ففي هذه الفترة من كل عام، تتفتح شهيته للكتابة التي يحبها، بعد جفاف الصيف وحرّه، التي تطال قلمه أيضاً وتؤثر على نفسيتّه حزناً وغضباً، متوسلاً جني الكتابة وشياطين الأفكار، أن رفقاً بحبر قصصي.
في حين أن ماهر، أكثر سلاسة ومرونة من صديقه، فهو أستاذ جامعي، ذو شخصية فرحة وهادئة، محبوب ومُحِبٌّ للجميع، طاقته للخدمة لا حد لها، سهل المعشر، ليس لديه أي عادة تأسره، كالتدخين أو النرجيلة أو لعب الشدة أو طاولة الزهر أو الرياضة مشاهدة أو ممارسة.
إنها السابعة مساء، في مقهى الروضة، إنه موعد اللقاء، فهما يفضلان أن يأتيا باكراً قبل أن يزدحم المكان وتعلو الأصوات والدخان، فيجلسان حوالي الساعة أو أكثر بقليل ليذهب كل منهما إلى بيته.
اعتاد ماهر أن يصل ويجد جميل قبله، وقد أخرج دفتراً وقلماً محاولاً كتابة بضعة أسطر مما في خاطره، ومرات يعمل على إفراغها على جواله. إلا اليوم فقد وصل ماهر ولم يجده، فاندهش مستغرباً، أين من الممكن أن يكون وما الذي قد أخرّه؟ ذهب إلى الطاولة المعتادة وآثر أن ينتظر وصول صديقه كي يشرب شايه معه.
ما هي إلا أقل من عشر دقائق، وقد أطل جميل، مستعجلاً، تبدو على ملامحه علامات التوتر والامتعاض، وبادر بقوله: قبل السلام، اعذرني على التأخير، وسأخبرك بعد أن ألتقط أنفاسي ما السبب. شرب كأس ماء بارد فهو يحبه هكذا صيفا شتاء وقال الآن مرحبا يا أخي، مبتسماً له بحماسته المعتادة.
صدقني يا رجل لو أنني قصصت عليك كم القصص التي راقبتها لن تصدق هذا العدد. علماً أن الأمر يحدث مرتين في اليوم فقط وأنا في طريقي إلى العمل، ذهاباً وإياباً. لا أدري كيف يستطيع شخص أن يستهزأ بحياته لهذا الحد؟ أم أنه يعتبرها شطارة؟
أنا أفهم جيداً أنك صاحب رسالة -هكذا تعتبر نفسك- وأن من هم مثلك تثيرهم جداً القضايا الأخلاقية والاجتماعية وغيرها، لكنها مؤخراً باتت تؤثر على شخصيتك، فأنت سريع وشبه دائم الغضب، ولديك نقمة عارمة تجاه الكثير من الأحداث والوقائع. اهدأ يا رجل وعلى رسلك، خذ نفساً عميقاً، وراجع حساباتك وأولوياتك.
في البداية، كان من المفترض أن تنتهي القصة بعد اللقاء وكتابة أسطر عن هذه الفوضى العارمة في داخلي التي تسبب بها عبور الناس للشارع. لكن ردّ ماهر جعلني أفكر كثيراً بالطريقة التي أعبر فيها العام، وبدأت أفرغ جعبتي على الورق، والوقت ما زال مساء في القهوة.
على هذا النحو قررت أن أبدأ العام الجديد، وأن أعبر من الذي مضى إلى الذي سيأتي، فالجديد لهذا العام لن تكون الأيام، بل أنا.
الباب الأول:
الأقفال الداخلية
هي المرة الأولى التي لا أودّع بها العام الراحل، بتقييم شامل.
هي المرة الأولى التي لا أستقبل بها العام الآتي، بخطة ممنهجة، وترتيب أولويات، وتفصيل مكتوب لكل ما سيأتي ومحاسبة عليه.
لن أُخضع شيئاً للقياس هذه المرة. هل حققت أهدافي؟ هل أنجزت ما حددته لنفسي؟ هل أنهيت الكتب التي قررتها؟ هل تخلّصت من الشوائب التي تزعجني؟ هل صرت أقرب إلى الأخلاقيات التي تشدّني؟
عادةً ما أصاب بالتوتر الشديد ريثما أصل إلى القائمة وأشطب أمراً تحقق وأعزز مشاعري بالإنجاز. وبعد التفكير بالأمر وجدت أن النتيجة ذاتها إن عدت أو لم أعد للقائمة. كنت أظن أنني سأشابه المدمنين ريثما انسحب تدريجياً من هذه العادة.
لكن سرعة الاستجابة، بيّنت لي كم أنا متعب حقاً من كل هذا الكم من المهام التي ألقيها على عاتقي، وهي أبسط من أن تحتاج لهذا الحد من المتابعة.
قد يكون هذا هو استفهام العام الجديد! وقد يكون عام للاستراحة من عناء تزاحم القوائم والصعود والهبوط، والتراجع والتقدم. ألا يمكن في بعض الأحيان أن يكون النمو في هنيهات الاستكانة؟ نعم، من الممكن جداً، حسبما رأيت شخصياً بعد التجربة.
فيمكنك وضع قرارات صغيرة، وملاحقتها ومراقبتها بسهولة، وكلما كان عدد ما أطلبه من نفسي أقل، فحكماً انعكاس التأثر بشحنات الغضب بسبب عدم التقدم المحرز سيكون أقل. مما يعني بالتالي استرخاء أكثر، وهدوء داخلي، وشحن إيجابي.
الباب الثاني:
الصادّات الخارجية
بعد لقائي الأخير مع ماهر، فكّرت ملياً، ومراراً، وبالعديد من الأحداث والحوادث والقصص والقضايا. فوجدت أن الأمر رغم أنه منوط إلى حد كبير بنمط الشخصية، إلّا أنه أيضاً يرتبط بشكل كبير ومباشر، بالمستقبلات الخارجية، واما نسبة التأثر بها فهو يتبع لنمط الشخصية.
وقد قررت أن أضع عنواناً بالخط العريض، في قائمة العام الوهمية، "سأكون أقلَّ استفزازاً"، سأستمر في المراقبة من أجل الكتابة ولأستوحي من الواقع قصصاً قد تنفع يوماً للقراءة، لكني سأنتبه إلى مدى تأثري، بعد ان لاحظت كم أنني مشحون بالسلبية، والتي تنعكس سلباً في الكثير من الأوقات على قدرتي على أداء مهامي الاعتيادية، أو اليومية. علاوة على الشدّ الذي يعتريني حينما يطلب مني أية مهمة.
أخيراً، وليس آخراً، بالتفكير العميق تبيّن أن هذه الأعراض، ما هي إلا وليدة للاستهلاك النفسي الداخلي، أو الاستنزاف الكامل للطاقة.
هذا ما دفعني لاستكمال حواري مع ماهر ببعد شخصي، بعد رحيله، وبقائي وحيداً في المقهى، ظنناً مني أنها لم تتجاوز الثامنة. لكني تفاجأت حين أتى المعلم وليد ليستسمح مني فضوله وإزعاجي بالقول أستاذنا العزيز لقد أصبحت الساعة الواحدة ليلاً ويجب أن نغلق المقهى، لم أرد إزعاجك قبل، فقد لاحظت انسجامك بالكتابة والتفكير. وقد أنهينا كل الأعمال المترتبة علينا قبل الإغلاق. فأرجوك اعذرني.
تبسّمت بلطف شديد، وقد بدت على وجهي علامات الخجل والامتنان للمعلم وليد والموظفين، وهممت مسرعاً لارتداء معطفي ولفحتي والقبعة، حملت حقيبة أغراضي المليئة بالأفكار الجديدة والنوايا العتيدة.
سائراً إلى المنزل في برد كانون وليله الحالك، فمعظم الناس نيام، والكهرباء مقطوعة، تمنيّت لو أن سيارة أجرة مرّت بالغلط، لكنني كنت قد قطعت نصف المسافة سيراً مسرعاً طلباً للدفء.
وبعد أن وصلت المنزل، لم يكن بحال أفضل من الشارع، فلا ضوء هناك والبرد صوته عالي، ولا أحد في الانتظار.
إلى الخميس القادم للقاء مع صديق وحيد، يكسر وحدة الأيام.