01 فبراير . 4 دقائق قراءة . 1048
في كل المرات التي أسمع فيها انتقاداً من أطفالي على طعام لا يستسيغونه ولكنني أحتفل فرحاً لحصولي عليه، أو مسلسل تلفزيوني قديم أُكثر من إعادة مشاهدته، أو أغنية لايفهمون سبب حبي لها أو طريق أصرّ على المرور منه؛ أفرح! نعم أفرح! أشعر بغبطة وسعادة داخلية لا توصف وترتسم على وجهي ابتسامة تملؤه فرحاً.
أعود بذاكرتي ضمنياً إلى ذلك الزمان القديم الذي عشنا فيه كأطفال مغتربين مع والدينا أطال الله بعمريهما، لحظات كثيرة لم نكن نفهم أسبابها ولكنها بقيت داخلنا لندركها لاحقاً. كنا نستغرب من اقتناع والديّ بأن اللبن الذي نأكله في قطر، والذي يأتي معلباً ومغلفاً وذا طعم حلو، لايشبه البتة بالطعم اللبن السوري، والذي كنا نشتريه من دكان البقالة الموجود تحت منزلنا في دمشق. كان ذلك اللبن الحامض ذا (قشطة) على سطحه لها ملمس ناشف، والتي تشاجر والدايّ دوماً على من سيحصل عليها! هذا اللبن كان يأتي بدلو بلاستيكي يُعاد استخدامه بإعادته للمحل الذي اشتريته منه، ليعيد ملأه باللبن ويُعيد بيعه مرة بعد مرة، ويُغطى سطحه بورقة نايلون لتحافظ على نظافته، وقد يحمل أحياناً آثار أوراق خضار قد تقع على ذلك الدلو أثناء توصيل الطلبات من دكان البقالة الذي أرسله. كنا نرفض أنا وإخوتي تذوق هذا اللبن وكنا نصرّ على شراء اللبن المعلب من الشركة السعودية السورية، والذي يشبه إلى حد بعيد طعم اللبن الذي كنا نأكله في قطر خلال فترة إقامتنا هناك.
أمضينا ساعات طويلة في الدوحة مع أبي في سوق الهال (سوق الخضار)، الذي كان يصرّ على الذهاب إليه رغم بعده لاختيار الفاكهة التي قد تأتي أحياناً من سورية ضمن برادات كبيرة. كان يُمضي الوقت يبحث ويسأل عن أنواع معينة من التفاح السكري، الدراق، المشمش، الخوخ، الإجاص والكرز! كنا نظن أن لوالديّ الكثير من الأمور الغريبة، فالفاكهة هي فاكهة سواء أتت من سورية أو من المغرب أو حتى من كينيا. لا فرق، أو هكذا ظننا!
حتى الشاي الذي كنا نستخدمه خلال فترة إقامتنا في الدوحة كان مختلفاً. لم يقبل أبي يوماً أن نستخدم أكياس الشاي المغلّفة وأحياناً يقوم برميها إن اكتشف وجودها. أبي لا يمزح بخصوص الشاي أبداً. كان يبدو وكأنه يحضر وليمة فاخرة ليتناولها كل يوم، وله طقوس محددة لشرب الشاي، حيث أنه وفي كل زيارة لسورية كان يحضر معه نوعاً محدداً من أوراق الشاي المجففة، ليقوم بخلطه مع نوع آخر من أوراق الشاي السيلاني الفاخر الذي كان يشتريه من الدوحة، ليعدّ كل يوم عند الساعة الرابعة بعد الظهر إبريقاً من الشاي الفاخر أو ما يطلق عليه (خمير وفطير*)، مستخدماً كؤوس الشاي الشفافة التي تشبه تماماً الكؤوس التي كان يستخدمها في بيت والديه.
* وهو إبريق مكون من طبقتين نقوم بوضع ماء في الجزء السفلي من الإبريق ونرفعه على النار حتى يغلي الماء بداخله، ومن ثم نضع ملعقة كبيرة من الشاي في القسم العلوي من إبريق الشاي ونضيف إليه الماء المغلي ونتركهم على نار هادئة لمدة ربع ساعة ليغلي القسم العلوي الذي يحوي الشاي بفعل البخار المتصاعد من الماء الذي يغلي من القسم السفلي.
الشوارع التي كان يسلكها والدي في الدوحة كانت مختلفة أيضاً. لم يكن يسلك الطرقات الكبيرة والمعبدة في أغلب الأوقات. كان يتخذ الطرقات الجانبية الضيقة والمهترئة الجوانب وغير سلسة العبور، والمليئة بمحلات صغيرة متراصّة ومزدحمة بالمارة الذين يقضون حوائجهم من التجمع التجاري غير المنظم في تلك المنطقة. لم يكن يسلك طريقاً مستقيماً دوماً رغم توفره أحياناً. كان ذلك يثير غضبنا وتذمرنا تجاه هذا التصرف، وكان يعلل هو ذلك بأن الطرقات الرئيسية تكون دوماً مزدحمة ومخنوقة بإشارات ضوئية تربك السائقين.
كانت أمي في كل تلك السنوات (وما زالت حتى الآن) التي قضيناها في الدوحة تصرّ على تزيين شجرة ميلاد تحمل شيئاً من أفكارها. كانت تبتكر طرقاً مختلفة لتزيينها وذلك لندرة المحلات التي تقوم ببيع مواد التزيين في ذلك الزمان، ولغلو أسعارها إن وُجدت، حيث أن الدوحة في ذلك الوقت لم تكن منفتحة تجارياً كما هي الآن، ولم تكن الصين قد غزت أسواقنا العربية بعد. كنا من المسلمين القلائل على نطاق الأصدقاء من يضع شجرة ميلاد في وقت احتفالات الميلاد كل عام، وفي كل عام كانت تحمل طابعاً جديداً ومختلفاً.
لم نُحرم خلال إقامتنا في الدوحة من المواد الغذائية السورية الأصلية، حيث حرص والدايّ على تأمين احتياجاتنا من سورية نفسها. حيث كنا نتسلم في البريد صفائح الجبنة السورية البلدية، وزيت الزيتون السوري نخب أول، والمكدوس السوري الشهي والمعدّ في مطبخ جدتي لأمي أو عمتي ودبس الرمان الحامض. كانت تصلنا هذه الصفائح المعدنية المختومة والمغلفة بمعمل الكونسروة التابع للدولة، والذي كان يتواجد في شارع موازٍ يقع ما بين شارع بغداد وشارع مرشد خاطر. كان أبي يأخذنا معه إلى مكتب البريد في الدوحة لنستلم المعلبات الكبيرة والمختومة. وكنت أرى على وجه والدي ابتسامة سعادة حقيقية لم أعرف سببها تحديداً في ذلك الوقت. وتلك النظرة الجدية على وجهه عندما نصل إلى المنزل، وهو يقوم بفتح العلب باستخدام المطرقة والإزميل ويبدأ بتذوق ماتحمله له هذه العلب من طعم يأخذه لمكان بعيد، لم نكن أنا وإخوتي ندركه حينها.
كانت أمي من أفضل الطباخات التي تعد الأطباق الشامية بالرغم من أصول والدتي اللبنانية. كانت أمي تقضي ساعات فراغها بلف أوراق العنب وبصنع أشهى أنواع الكبة المختلفة. كانت تتقن الكثير من الطبخات السورية العريقة والتي عرفتنا عليها كلها في الدوحة قبل أن نتعرف عليها في دمشق. كنت أخشى عليها من التعب عندما تقوم بتجهيز كل تلك الأكلات الكثيرة التعقيد والغير سهلة التنفيذ. ولكنها كانت تعدها بسعادة بالغة وتعتني بتقديمها كما تعلمتها من جدتي لأبي، التي أتقنت أصول الطبخ الشامي والتي أصرّت أن تنقل هذا الإرث لأمي زوجة ابنها الوحيد.
العيد في الدوحة لم يكن يشبه العيد في دمشق سوى بحلوى العيد، التي كانت أمي تقوم بتجهيزها بمفردها قبل موعد العيد بأيام، معمول الفستق والجوز المغطى بالسكر الناعم الأبيض وبجانبهم الناطف اللذيذ وعجوة التمر الطرية. كنت أكره الإزعاج الناتج عن طرق قالب المعمول بالطاولة ليفكّ التصاق العجينة بالقالب، لتقدم أمي هذه الحلوى للضيوف عند مجيئهم لمنزلنا خلال أيام العيد. وكانت السعادة القصوى تكتمل إذا استلمنا علب حلوى البرازق والغريبة القادمة خصيصاً لنا من دمشق، إما بالبريد أو عن طريق مسافر قادم إلى الدوحة.
كانت لنا تحفظات كثيرة أنا وإخوتي على تصرفات أهلي وتحيزهم الكبير لمنتجاتنا السورية، لم ندرك الفرق رغم إصرار أهلنا على تعريفنا به. كبرنا وانتقلنا عائدين من الدوحة إلى دمشق وبدأنا نكبر أكثر وتكبر معنا دائرة تساؤلاتنا وتنقلاتنا داخل وخارج سورية، واكتسبنا خلال هذا الوقت الكثير من العادات والتقاليد المختلفة أيضاً. أصبحت لدينا عادات اكتسبناها بطفولتنا المغتربة في قطر ونحن نحاول رسم ملامح لسوريتنا أثناءها، وأخرى اكتسبناها بعد عودتنا إلى سورية، تحمل أفكارنا المحملة بآثار التقاليد القطرية التي اكتسبناها خلال فترة إقامتنا هناك، لنعيد صياغتها من جديد على أرض الواقع في سوريا، وأخرى ستتشكل لاحقاً بعد انتقالنا من جديد للخارج لنرى الأمور بمنظار مختلف عما كنا نراه ونحن بداخله.
في طفولتنا كنا قد بدأنا بالتساؤل عن سبب إصرار والديّ على القيام بأمور معينة بحد ذاتها خلال فترة اغترابنا عن سوريا، لنفهم بعد مرور سنوات طويلة على عودتنا، أن ما قام به والدايّ كان له الدور الأكبر بأن نكبر كسوريين منتميين لوطننا رغم نشأتنا خارجه.
أصبحتُ الآن أماً سورية أشبه أمي التي أنفقت أوقاتاً طويلة تعدّ حلوى العيد لأطفالها، وتلفّ أوراق العنب لتعدّ لهم ولائم سورية لا تشبه الطعام الهولندي بشيء. أصبح من المتعارف عليه في مدرسة أولادي بأن كرات البرغل المحشوة باللحمة (الكبة) هي من الأكلات السورية اللذيذة والمشهورة. أصبحتُ أمضي أوقات عيد الميلاد وأنا أجهز شجرة عيد ميلاد مختلفة كل عام، بها شيء مميز ينتمي لثقافتنا ليشعر أطفالي دوماً باختلافهم. وأصرّ على أن يكون المكدوس المنزلي كل عام ضيفاً على مائدتنا. وبالرغم من أننا نسكن الآن في مدينة الجبنة الهولندية، إلا أن الجبنة البلدية السورية هي المفضلة لدى أطفالي. وأحرص على استخدام زيت الزيتون ذي النخب الأول الإسباني أو المغربي حسب توفره، حتى لا يختلف الطعم عليهم عندما نعود يوماً إلى سورية.
أشبه أبي بحبه للشاي الخمير والفطير والذي انتقل حبه لأطفالي، والذي يعتبرونه نوعاً من الدلال المفرط عندما أقدم لهم هذا النوع من الشاي المميز الفاخر. لا أرمي أكياس الشاي المغلفة كما فعل أبي، ولكنني أصبحت لا أحبه ولا أعتبره شاياً حقيقياً وانما أستخدمه لاختصار الوقت بالتحضير. أدركت بعد انتقالي لعدة بلدان أن والدي كان يسلك تلك الطرقات الصغيرة المنهكة والمزدحمة بالمحلات المتراصة وبالمارة، ليتذكر طرقات الشام التي كان يشتاق لها طوال فترات غيابه عنها. كان يمنح ذاكرته بعضاً من الوقت ليطفئ ذاك الحنين الذي يعنّ عليه ليعود إلى دياره حيث يقيم حالياً بعد سنوات اغترابه الطويلة، هذا ما أفعله تحديداً في كل تلك البلاد التي أسكن فيها. وأصبحتُ أعرف الفرق بين طعم الفاكهة البلاستيكية، وتلك التي أكلتُها في دمشق والقادمة من البساتين السورية. أصبحتُ أقدّر معنى أن يرسل لك أحدهم علبة برازق وغرَيْبة سورية الصنع، فهذه الهدية لاتقدر بثمن! أختي التي ترسل لنا دوماً هذه العلب سألتني يوماً عن سبب فرحنا بهذه الهدية؟! فأخبرتها بأن كل قطعة حلوى تختزل سورية بأكملها، بأشكالها المصنوعة يدوياً ولكن بتناسق، وبرائحتها الفواحة والمغرية، وبطعمها الذي لا يمكن توقعه والذي سيفاجئ كل من سيتذوقها حتى لو لم يكن من محبي الحلوى أصلاً.
أدرك الآن وأنا على مشارف الأربعين بأن الوطن الذي لايحمل تلك الصفات الذهبية الكاملة والمثالية، سيبقى هو المكان المثالي في ذاكرتنا الإنسانية البسيطة التي تسعد وتنتشي فقط بطعم اللبن الحامض! والذي يأتي داخل دلو بلاستيكي يحمل على وجهه (قشطة) يتشاجر والداك من سيتناولها هذه المرة، ومغطى بورقة نايلون شفافة قد تحمل آثار أوراق خضراء وقعت عليه أثناء عملية التوصيل لمنزلك.
لذلك أنا أفرح عندما أسمع انتقاداً من أطفالي على طعام لا يستسيغونه ولكنني أحتفل فرحاً لحصولي عليه، أو مسلسل تلفزيوني قديم أكثر من إعادة مشاهدته، أو أغنية لايفهمون سبب حبي لها أو طريق أصرّ على المرور منه، وأشعر بغبطة وسعادة داخلية لا توصف وترتسم على وجهي ابتسامة. فأنا أعلم عندها أنهم على الطريق الصحيح ليصبحوا سوريين منتمين لوطنهم الذي تربوا خارج حدوده.
23 مارس . 3 دقائق قراءة