أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي

03 فبراير  .   8 دقائق قراءة  .    6513

 

أقام العرب في ربوع الأندلس نحوًا من ثمانية قرون؛ فقد دخلوها سنة 710 م، وأسسوا حكم الوُلاة فيها؛ ثم تتابعت دولهم حتى سقوط آخرها، دولة بَني الأحمر سنة 1492م. 

لقد انطلق العرب من الشرق نحو الأندلس، حاملين خصائصهم وإرثهم؛ فعرفوا أرضًا جديدة ومجتمعًا جديدًا وحياة جديدة تختلف تمام الاختلاف عن الظروف التي كانت للمشارقة؛ فنتج عن ذلك أن تأثّروا بهذه الحياة الجديدة وبيئتها وأثّروا فيها؛ فتكونت للأدب الأندلسي خصائص مستمَدّة منها، ساعدت ظروفُ العصر على تبلوُرها واستتبابها.

ولعل هذا التأثر والتأثير لم يحدث دفعة واحدة، بل جاء بعد عدة مراحل من الترقّب والمُحاكاة، من الطرفين المشرقي والأندلسي؛ وانطلاقًا من هذه البيئة الجغرافية والبشرية، نشأ الأدب العربي الأندلسي، بعد أن مرَّ بثلاث مراحل: مرحلة تقليد المشارقة، مرحلة التجديد مع سيطرة التقليد، ومرحلة التجديد التي تحرر فيها أدباء الأندلس من أهل الشرق تحررًا تامًّا ليبدعوا فيها أدبًا خاصًّا بهم ونابعًا من حياتهم وبيئتهم.

ولعلّنا في هذا المقال سنركّز على المرحلة الأولى من مراحل الأدب العربي الأندلسي، ألا وهي مرحلة التقليد التي ظهر جليًّا فيها أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي.

 

مظاهر أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي

انتقل المشرقيون إلى الأندلس حاملين معهم ثقافتهم وبيئتهم ولغتهم ومعانيهم، والتقوا هناك ببيئة جديدة وطبيعة خلّابة؛ فكان لا بُدّ من حدوث ذلك التلاقُح بين الأدبَين، ومن ظهور الأدب الأندلسي بخصائص مشرقية؛ ذلك أن الأندلسي اكتسب شخصية مميزة جمعت بين الملامح المشرقية بعروبتها الأصيلة، إلى جانب ملامحها الأندلسية التي ارتسمت من الموطن الجديد... وكما كانت الشخصية الأندلسية مزيجًا من النمطين: المشرقي والأندلسي، كذلك نشأ الأدب الأندلسي هجينًا بين الاثنين؛ فجاء الشعر تعبيرًا عن جمال البيئة الأندلسية وروعة طبيعتها، مطعَّمًا بتأثيرات جمالية وفنية مشرقية؛ فقد تتبّع الأندلسيون آثار المَشارقة، واقتفَوا أثرهم في الإتقان والتفنُّن والبلاغة.

وبرز أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي في فنون الشعر بشكل خاص؛ فقد نظم الأندلسيون شعرهم في الأغراض التقليدية، كالغزل والزهد والتصوّف والمدح.

 

في الغزل:

من المعروف أن الغزل هو من أقدم الفنون التقليدية، كان الشعراء يستهلّون قصائدهم 

به، أو يأتون به مستقلًّا... لقد برز هذا النوع عند العرب، وكثيرًا ما كان غزلًا عفيفًا وموجّهًا إلى محبوبة واحدة.

وقد ظهر أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي؛ فكثُر التغزّل والتشبيب عند الأندلسيين، ولكن مع بعض الاختلافات التي فرضها حكم البيئة، وهو أمر بديهي؛ فقد شاع عندهم التغزل بالنصرانيات وذكْر الصلبان والرهبان والنُّسّاك...

فنحن نرى الشاعر ابن الحدّاد الواشي، الذي اقترن اسمه باسم معيّن أجرى عليه غزله، وقد اختصَّ به فتاة نصرانية اسمها "جميلة"، ولكنه كنى عنها باسم "نُوَيرة"، يقول واصفًا إياها وصُويحباتها بالظباء، موجّهًا كلامه إليها:

والشمس شمس الحسْن من بينهم                          تحت غمامات اللثاماتِ

وناظري مُختلِسٌ لَمْحَها                                     ولَمْحُها يُضرِم لَوعاتي

وفي الحشا نارٌ نويريَّةٌ                                     علَّقْتُها منذ سُنِيّاتِ

 

وبدلًا من التغزّل بالشعر الأسود الفاحم الذي كان محبَّبًا عند المشارقة، شاع التغزّل بالشعر الأشقر والملامح الغربية... هذا وقد استعانوا بالطبيعة على نحو آخَر في غزلهم؛ فجعلوا المرأة مرآة تعكس صورة الطبيعة ومحاسنها.

فها هو الشاعر محمّد بن البَين يقول:

غصَبوا الصَّباح فقسَّموه خدودًا                           واستَوهَبوا قُضُب الأراك قُدودا

ورأوا حَصى الياقوت دون محلّهم                         فاستبدلوا منه النجوم عقودا

واستودَعوا حدق المَها أجفانهم                           فَسبَوا بهنَّ ضَراغمًا وأُسودا

 

في الزهد:

في الزهد دعوة صريحة إلى الانصراف عن ترَف الحياة ومُتَعها، وقد نَحا الأندلسيّون نحْو الأدب المشرقي في الزهد، ولكنهم جنحوا فيه نحو الصوفية، التي فيها انعتاق وخشونة وانعزال عن الناس، وخلوة مع الذات والتفرّغ للعبادة.

هذا أبو القاسم السُّمَيْسر يدعو الناس إلى القناعة والرضا والبعد عن الإسراف، فيقول:

دَعْ عنكَ جاهًا ومالًا                                   لا عيشَ إلّا الكفافُ

قوتٌ حلالٌ وأمنٌ                                      من الردى وعفافُ

 

وممَّن كان زاهدًا عازفًا عن الدنيا، الشاعر أحمد الإقليشي، الذي توجَّه إلى مخاطبة نفسه، وهو يلومها بطريقة مختلفة فيها تضخيم للذنوب ومُبالَغة فيها؛ فيقول:

ثلاثون عامًا قد تولَّت كأنها                             حلومٌ تقضَّتْ أو بُروقٌ خَواطِفُ   

وجاء المَشيب المُنذِر المرءَ أنه                          إذا رحلَت عنه الشبيبة تالِفُ

ومن الشعراء مَن وظَّف ألفاظ شعر الحب والغزل ومعانيه التقليدية في معاني الحب الإلٰهي، كالشاعر ابن عربي؛ إذ نراه يقول:

كل ما أذكره من طللٍ                                  أو رُبوع أو مغانٍ كلّ ما

أو نساءٍ كاعِباتٍ نُهْدٍ                                 طالِعاتٍ كشُموسٍ أو دُمى

صفة عُلويّة قُدسيّة                                    أعلمت أن لصدقي قَدَما

فهو يصف كل ذلك الظاهر، ويردّه إلى حقيقة واحدة، مفادها ذلك الحب الربّاني الذي ينشأ في قلبه فيظهر على لسانه وفي شِعره.

 

في المديح:

المديح من الأنواع التي ظهر فيها أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي؛ إذ حافظ الأندلسيون على أسلوب المَشارقة في المدح، من حيث طريقة الاستهلال، ووصف الطبيعة قبل كل شيء. وقد كانوا يتوسّلونه لكسْب الرزق.

ومن شعراء المديح آنذاك الرصافي البلنسي الذي تنقّل في بلاد الأندلس والمغرب مادحًا، وله قصيدة في مدْح الوزير الوَقشي، جاء في مطلعها:

ألِأجْرَعٍ تحتلُّه هندُ                                 يَندى النسيم ويأرج الرندُ

ويتابع فيها ليأتي على القسم المدحيّ فيها: 

ذُكِرَ الوزير الوَقشيّ لهم                            فأثارهم للقائه الودُّ

 

وتأتي المدائح النبوية ضمن غرض المديح، وقد بدا أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي جليًّا في هذه المواضيع؛ فقد كانت مواسم الاحتفال بالمولد النبوي منتشرة في بلاد الشام ومصر والعراق، وانتقلت إلى المغرب والأندلس؛ فنُظِمَت الموالِد والمدائح النبوية لتُنشَد في المناسبات الدينية بشكل عام، وفي المولد النبوي بشكل خاص...

وفي هذا المقام، نعرض من الأشعار النبوية بيتًا لابن العريف، يقول فيه:

وحقّكَ يا محمَّد إن قلبي                                   يحبّكَ قربةً نحو الإلٰهِ

 

بعض أعلام شعراء الأندلس

حفلَ العصر الأندلسي بعدد لا يُستَهان به من الشعراء الذين لمعت أسماؤهم، وبرزوا في أكثر من غرض شعري. وأبرز هؤلاء الشعراء وأشهرهم:

 

ابن زيدون:

هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن غالب بن زيدون المخزومي، القرشي، القرطبي. كان أبوه وهو أول أساتذته، من فقهاء مدينة قرطبة المعدودين في زمانه.

في بيئة ملائمة وفي ظلّ أسرة علمية ذات مكانة اجتماعية، نشأ ابن زيدون وتعلّم وتدرّج وظهرت شخصيته التي اشتهرت بعدد من المواهب؛ فلفت إليه الانتباه بذكائه وفطنته...

عالج ابن زيدون عددًا من الأغراض الشعرية، أبرزها في الغزل والنسيب، وفي المديح.

يُعَدّ الغزل والنسيب أجمل شعره وأصدَقه، وهو يشكّل نحو ثلث شعره. ومن أبرز قصائده في هذا الغرض وأشهرها، قصيدة (أضحى التنائي) التي شاعت في المشرق والمغرب، وهي من القصائد الطويلة في ديوانه، وقد جاء في مطْلعها:

أضحى التنائي بَديلًا من تَدانينا                        ونابَ عن طيب لُقيانا تَجافينا 

أما المدح فيُعَدّ الغرض الثاني لابن زيدون، والمميَّز فيه أنه لم يتّجه إليه بهدف التكسُّب المادي، بل غالبًا ما كان ممزوجًا باعتِذار أو عِتاب، على نحو ما قاله لابن حزْم مُعاتِبًا إياه:

عُتباكَ - بعد العتب – أمنيةٌ                          ما لي – على الدهر – سِواها اقتِراحُ!

 

لِسان الدين بن الخطيب:

هو أبو عبد الله محمّد بن عبد الله السلماني، وُلِدَ في (لوشَة) إحدى المدُن التابعة لغرناطة. تنوّعت ثقافته وكثُرت علومه؛ فكان شاعرًا وشّاحًا مترسّلًا وكاتبًا.

سيطر على شعره جانبان: الأول متمثّل بالوجدانيات الخاصة، كالتأمل والغزل ووصْف الطببعة الأندلسية. والثاني متمثّل باتّخاذ الشعر وسيلة للاتصال بالعالَم الخارجي، كالمديح.

ففي غرَض الغزل، يقول لسان الدين:

يا غزالًا وِرْدُهُ في أدمُعي                                كلما شاء ومَرعاه الحَشا

قد فَشا فيكَ هُيامي في الورى                          وهو لولا دمْعُ عيني ما فَشا

 

وللسان الدين الموشَّحة المشهورة (جادَكَ الغيثُ)؛ إذ يقول في مطلعها:

جادَكَ الغيثُ إذا الغيث هَمى                             يا زمانَ الوصْل بالأندلسِ

وهنا نرى لِسان الدين يحنّ إلى زمن الوصل والحب في الأندلس، ويدعو له بالسّقيا. ويبدو الأثر المشرقي واضحًا في هذا البيت؛ فالشاعر بأثرٍ من البيئة الصحراوية المشرقية، يدعو لزمن الوصل بالأندلس بالماء والغيث، في حين أن في الأندلس ماءً وثلوجًا وفيرة.

 

خِتامًا،

لا يمكن إنكار المكانة الخاصة والمميزة التي تحتلّها الأندلس في نفوس العرب؛ فهي في كل ما فيها من مدُن وتواريخ وأحداث، وفي كل ما تحويه من وجوه الإبداع وشخصيّاته، شكّلت جزءًا لا يتجزّأ من وجدان الأمة العربية منذ الفتح.

ولا شك في أن الأدب العربي نشأ في الأقطار العربية، وامتدّ إلى الأقطار الأندلسية؛ فالنبع واحد واللغة واحدة والملامح الأدبية متشابهة؛ فتداخَل بعضها بالبعض الآخَر، وتكوّن الأدب العربي في الأندلس مكتسبًا سمات مشرقية فيها محاولات بسيطة من الإبداع والتجديد.

الخُلاصة 

شكّل انتقال العرب إلى الأندلس مرحلة مهمة في تاريخ كل من الأدب المشرقي والأندلسي، ظهر فيها عامل التأثير والتأثّر في نتاج الشعراء العرب والأندلسيين.

ولعل أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي بدا واضحًا في فنون الشعر التقليدية وأغراضه، كالغزل والتصوّف والمديح.

أما عن أعلام شعراء الأندلس؛ فقد لمعت أسماء كثيرة منهم، في العديد من الأغراض والفنون الشعرية. وأيرز هؤلاء الشعراء: ابن زيدون صاحب قصيدة (أضحى التنائي) الشهيرة، ولسان الدين بن الخطيب صاحب موشّحة (جادكَ الغيثُ) المشهورة أيضًا. 

هذا المقال بقلم: صفاء محمود الشيخ لفريق "مِرْداد".

  4
  4
 0
مواضيع مشابهة

23 ديسمبر  .  10 دقائق قراءة

  6
  5
 0

15 يناير  .  1 دقيقة قراءة

  0
  5
 0

31 يناير  .  2 دقيقة قراءة

  5
  3
 0

01 يناير  .  3 دقائق قراءة

  2
  8
 2
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال