30 أبريل . 2 دقيقة قراءة . 808
جولييت امرأة عجوز تعيش في إحدى أحياء مدينتي، وهي جارة صديقة والدتي المقربة. تراها تتنقل بقوامها النحيف الذي أحنته السنون وجلدها الذي خط عليه الزمن تجاعيداً تروي قصصاً وروايات، تتردد على منازل الجيران ومنزل ابنتها الوحيدة التي تزوجت وغادرتها إلى بيت زوجها في حي آخر.
مع اقتراب العيد كان لا بد من تجهيز اللحم لإعداد الأطعمة الشهية وهذا يتطلب بالضرورة مفرمة اللحم الأثرية التي تمتلكها جولييت من أيام زواجها الأولى وتعتز وتفاخر بها بين "نساء الحارة". ولا يجوز لابنتها أن تعد اللحم بدونها وإلا كانت جريمة لا تغتفر بحق اللحم والعيد وجولييت نفسها.
وهكذا قررت جولييت في اليوم الذي يسبق العيد أن تحمل المفرمة بنفسها إلى منزل ابنتها. وما كادت تغادر البيت حتى تذكرت شيئاً هاماً، فرأت في حديقة الجيران الجد العجوز يسقي الأزهار. ألقت عليه التحية وطلبت منه أن تترك المفرمة في حديقته ريثما تذهب وتجلب حاجة ضرورية قبل أن تكمل طريقها نحو منزل ابنتها، مؤكدة أنها لن تغيب سوى دقائق.
مرت أكثر من ساعة، ولم تعد جولييت، واحتار الجد العجوز فيما عليه فعله، خاصة أنه مضطر لشراء حاجيات البيت في غياب ابنه وزوجة ابنه في عملهما، وحفيديه في مدرستهما.
وما كان منه إلا أن أدخل المفرمة إلى مطبخ منزله وأقفل الباب وغادر لشأنه.
بعد ساعة أخرى عادت جولييت العجوز السبعينية الشمطاء وشرعت تبحث في الحديقة حيث تركت المفرمة، ثم قلبت الحديقة شبراً شبراً دون جدوى، عكفت بعدها على باب البيت طرقاً ثم صراخاً تستجدي إجابة أحدهم من الداخل، ولكن عبثاً حاولت.
راحت بعدها تذرع طرقات الحي تستوقف المارة من الجيران والغرباء وتسرد لهم قصة المفرمة العزيزة التي سرقها الجار الخائن. ولم تكتف بذلك بل ذهبت إلى منزل والدي كنة جارها تسأل عنها وتحكي من جديد قصة السرقة، دون أن تفلح محاولاتهم في تهدئتها أو إقناعها بأنهم لا يخفون ابنتهم وإنما هي لا تزال في عملها.
حتى الأحفاد الصغار لم يسلموا منها، لربما كانوا يخفون المفرمة تحت مقاعد الدراسة، فإذ بها تقتحم مدرستهم وتقابل المديرة والمعلمات وتحكي لهن _ وهن لا حول ولا قوة لهن مع لسانها السليط _ تحكي من جديد تفاصيل السرقة النكراء، وتستجوب الطفلين البريئين اللذين كانا واقفين فاغري الفم حائري النظرات، فعدا أنهما لم يكونا في البيت وقتها، فإن كبيرهم لم يكن قد تجاوز السبعة أعوام.
عادت بعدها إلى المنزل وهي تكلم نفسها طوال الطريق، وتقف كل برهة لتضرب على جنبيها بأسى وتصرخ بحرقة: "راحت المفرمة، يا حسرتي!".
على المقلب الآخر كان الجد العجوز قد عاد من السوق، وقصد جارته فلم يجدها، فظنها لم تعد بعد. وبكل بساطة سحب كرسياً وجلس في الحديقة حتى يتمكن من رؤيتها حين تعود ويعطيها المفرمة.
ولما وصلت ورأته أسرعت بعنفوان وطاقة جبارة لا تتناسب مع عمرها تقطع طرقات الحديقة وتمسك بتلابيب العجوز المسكين وتنعته بأشنع الألفاظ دون أن يفهم شيئاً، ولم تجدي توسلاته واستفساراته أمام بركان غضبها، وما عرف كيف يتعامل معها خاصة أن بعض الأعين الفضولية بدأت ترقب المشهد عن كثب. وبدون وعي أو إدراك منه لما يحدث، مد يده تحت الكرسي وسحب العلبة التي تحوي المفرمة وأعطاها إياها.
في ثوان هدأت ثورتها وصمتت تماماً ثم أخذت العلبة وغادرت بعد أن رمقته بنظرة نارية.
حينها فقط دخل بعض الجيران وأخبروه حكاية السرقة التي أشاعتها، ونقل إليهم بدوره ما حدث وأنها تأخرت جداً، وكيف كان مضطراً للخروج لشراء الخبز والخضروات وحاجيات المنزل، ومن جهتهم أكدوا له أنه فوق كل الشبهات وأن سمعته طيبة ولا حاجة لأي تبرير، وأنهم ما استطاعوا فعل شيء أمام ثورة العجوز الخرفة ولسانها الذي لا يتعب ولا يهادن.
بعد سويعات قليلة تبرعت إحدى النسوة بالذهاب إليها لتجلي لها الحقيقة، وتطلب منها أن تعتذر للجار العجوز.
ويقال أنها لم تغادر منزلها بعد ذلك لعدة أيام، ولا أحد يعرف السبب، هل هو الخجل أم الخوف أم كي لا تضطر للاعتذار؟! ولكن الأكيد أن ذلك العيد مر حتماً من دون لحم!.
29 يناير . 0 دقيقة قراءة