23 مايو . 5 دقائق قراءة . 189
ما أقبح ذاك النهار، يوم اضطررنا للدخول إلى قسم التاريخ في تلك المكتبة.
جذبتني أصواتُ تأوهات موجعة... لاحقتها... أوصلتني إلى بابٍ، فتحته وجِلة ودخلت! بكاءٌ وعويل، وأسراب غراب البين تنوح فوق آلاف الجثث المتحللة!
فظيعٌ ما رأيت! صادم!
فقدتُ صوتي لهول المشهد! جذبني أستاذي وقادني إلى الخارج لعلّي أستعيد أنفاسي.
كان قلقاً وهو يناولني زجاجة الماء قائلاً: ما الذي أدخلكِ إلى هناك!؟
قلتُ وأنا بالكاد ألتقط أنفاسي: لفتتني الأصوات... سمعتُ... سمعت...
أجاب: حسناً... اهدئي لا داعي للذعر... أنا معك فلا تخافي.
طلب من النادل فنجانيّ قهوة لنا، وأنا ما زلتُ أحاول أن ألملم شتات نفسي وأستعيد توازني، بينما نجلس في مقهى مقابل المكتبة العامة، حيث كنا قد قصدناها، بهدف البحث عن وثائق وكتب في قسم التاريخ. فأنا طالبة في مرحلة تحضير رسالة دكتوراه في التاريخ الاجتماعي لدول الشرق الأوسط، التي عانت من ويلات الحروب.
استعدتُ توازني النفسي والعقلي، بفضل قهوتي- كما أحبها- سادة... سوداء ومن دون هيل.
سألتُ أستاذي: ماذا يوجد في ذلك المكان؟
ابتسم بودٍ وقال: لم أكن أود أن تعرفي بوجود ذاك القسم، بهذه الطريقة الصادمة.
أجبت بتصميم: أرجوك دكتور، أخبرني ولا تخف عليَّ، لقد استوعبت الصدمة وأنا جاهزة لأسمع.
أجاب وهو يحرك يديه بأن حسناً كما تشائين: وراء الباب الذي فتَحتِه، يوجد كهف الأسرار التاريخية.
نظرتُ إليه بتساؤل، فتابع: هناك يوجد ضحايا الحروب كافة ووقودها، من أناسٍ لم يذكرهم التاريخ إلا كأرقام.
أثار فضولي بكلامه، فسألت: هل يمكنكَ أن توضح أكثر لو سمحت دكتور؟
طلب لنا فنجاني قهوة من جديد وأشعل لفافة تبغ وقال: دعيني أولاً أطرح عليكِ سؤالاً... ماذا تعرفين عن ضحايا مجزرة دير ياسين التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين عام 1948؟
حرتُ جواباً ففتحتُ هاتفي على الشبكة العنكبوتية... ثم قلت: حسب موقع ويكيبيديا فإن عدد الضحايا قُدِّر بـ 250 و360 شخصاً حسب المصادر العربية! كان معظمهم من الأطفال والنساء والعجزة!
هز رأسه وقال: وماذا تعرفين عن مجزرة صبرا وشاتيلا؟
أيضاً استعنتُ بهاتفي وأجبت: حسب ويكيبيديا أيضاً، فإن عدد الضحايا لم يُعرف بالتحديد، لكن التقديرات تشير إلى أنهم بين 750 و3500 من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين!
ابتسم وقال: ألم تلاحظي شيئاً في ورود الأرقام؟
ازدادت حيرتي وقلت: لعله ذكر الضحايا تحت مسمى ضحايا أو قتلى، لكنهم بالتأكيد شهداء.
نظر إلى وجهي بتمعن وهز رأسه وقال: وهو كذلك... حروب متنقلة- مجازر- احتلالات- اعتقال- ظلم- قتل- مجاعات- عبودية- استرقاق... كل ذلكَ في نظر التاريخ مجرد أرقام!... لكن ماذا عن إنسانيتهم؟ عن معاناتهم؟... مخاوفهم؟... أوجاعهم؟... معاناتهم في الأسر؟... معاناتهم بعد الأسر؟... معاناة عائلاتهم؟... ماذا عن المعوقين؟... ماذا عن المعاناة النفسية "للناجين" من الحرب والأسر والاعتقال؟... ماذا عن الناجين من المجازر؟... هل هم حقاً ناجون!! ...ماذا عن فَقد الأبناء والأحبة؟... وماذا عن... وماذا عن؟... التاريخ لا يذكر معاناة الناس كأناسٍ لها أرواح، لا يذكر آلامهم- ثكل الأمهات- يُتمَ الأبناء- الإعاقات- الجوع- العطش- البرد- التهجير... إليكِ آخر الشواهد وأفظعها، ما يجري اليوم في فلسطين! لعل أصدق ما يُقال عن حالهم وحالنا معهم، قول محمود درويش "كل الذين ماتوا نجوا من الحياة بأعجوبة"...
حضرت في ذهني صور المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، خاصة محرقة مستشفى الشفاء...
فشرقتُ بدموعي.
تابع كلامه مستاءً: للأسف أن معاناة المدنيين تزايدت مع تطور الأسلحة، فالطائرات الحربية أصبحت تنشر الموت والرعب في أنحاء البلاد... بدقائق معدودة!
مسحتُ دموعي وأنا أقول: دائماً أسأل إلى متى ستعاني النساء والأطفال بسبب الحروب؟ لماذا تخاض الحروب على أجساد وأرواح المدنيين خاصة من النساء والأطفال؟ ودائماً أصل إلى حائط مسدود!
أجاب أستاذي: لأنه قدر الشعوب... فلا حرية من دون نضال، ولا أمان من دون تضحيات.
بعد صمت برهةٍ قلت: إذن التاريخ الحقيقي هو في القصص التي لا تُذكر!
أجاب موافقاً: بالتأكيد هو هذا، فارق كبير بين التأريخ والتاريخ. التاريخ الحقيقي هو حكايات الشعوب المضحية- المتألمة- الرازحة تحت نير القهر والمواجع.
عمَّ الصمت حولنا، كما لو أن العالم قرر الوقوف دقيقة صمتٍ على أرواح الشهداء، وعلى معاناة البشرية منذ أن وجِدت.
قطعتُ الصمت وقلت: أتسمح لي دكتور أن أضيف إلى رسالتي بحثٌ في هذا الموضوع؟
أجاب مبتسماً: بالتأكيد أوافق، فهذا سيُغني رسالة الدكتوراه.
أجبت: سيكون بإذن الله تحت عنوان "زوايا التاريخ المنسية"، والعنوان الفرعي "حكايات عن الحرب، لا يرويها التاريخ".
19 مارس . 5 دقائق قراءة
29 يناير . 0 دقيقة قراءة