01 يناير . 9 دقائق قراءة . 745
في شهر حزيران عام ١٩٣٦ ، تمرد العسكريون على الحكومة الديمقراطية المنتخبة من الشعب في أسبانيا، والحكومة المنتخبة مشكلة من تحالف أحزاب يسارية ليبراليين وإشتراكيين وشيوعيين بدعم واسع من النقابات العمالية والفلاحين. ترأس التمرد الجنرال فرانكو، الذي يخفي بمظهره التافه الضئيل طبعه الإنتقامي والوحشي، كان حلمه القضاء النهائي على ما اعتبره فوضى الديمقراطية، والحكم المباشر بيد من حديد بدعم من القوات المسلحة والكنيسة الكاثوليكية.
استمرت الحرب الأهلية الإسبانية بين كر وفر، آخر المعارك كانت على ضفاف نهر الإبيرو، لم يكن هناك بين المقاتلين من يفهم إستراتيجية الموت، فالمعركة كانت خاسرة ولاجدوى من التقدم في أراض فرانكو، ولكن المقاتلين كانوا مؤمنين بانتصار الاشتراكية، وأن المساواة بين المواطنين حتمية مهما بلغت التضحيات.
كان فرانكوا يدعوهم للاستسلام بمكبرات الصوت والمناشير التي تلقى من الطائرات عارضة عليهم الخبز والعدالة، لكن الجميع يعرفون خدعة فرانكو، وأن مصيرهم إما التعفن في السجون أو القبور الجماعية، وأخبار إعدامات عشرات المقاتلين والعمال والفلاحين كانت تصل إلى مسامعهم، بل كان فرانكو يجبر أهالي المقاتلين على دفع ثمن الرصاصات التي يقتل بها أبناؤهم.
أعضاء الحكومة الشرعية إختاروا المنفى مع فكرة أنهم سيواصلون الحكم من باريس، وأدى هذا إلى خلخلة معنويات الأهالي المتبقين وكانت الهزيمة. استولى الذعر على الأهالي وكان الخروج من برشلونة أشبه بجحيم دانتي، آلاف من المقاتلين والجرحى والنساء مع أطفالهم والمسنين انطلقوا في هجرة جماعية، في أحد أشد الشتاءات قسوة في الذاكرة الجماعية. مسيرة من الآلاف المؤلفة الذين سقط منهم من البرد والمرض المئات موتى، والذين كانوا يتركون في مكانهم، قست القلوب وانعدمت الرحمة، وأغلقت فرنسا حدودها أمام نصف مليون مهاجر، ومن استطاع منهم اجتياز الحدود وضعوا في معسكرات تفتقد الحد الأدنى لمتطلبات الحياة البشرية، فمات كبار السن وأغلب الأطفال بسبب البرد والجوع.
احتفل فرانكو بالنصر، وبدأ بتصفية خصومه ومعارضيه، وكانت نهاية لحرب الأهلية أزهقت أرواح مليون إسباني.
أسرة مارسيل دالماو الإسبانية وهي المؤلفة من الأب مارسيل وهو موسيقي فذ ومؤسس أوركسترا برشلونة، والأم كارمي وقد أخذت على عاتقها تعليم الأطفال والفتية ، والأبناء; فيكتور الذي كان يدرس الطب والتحق في بداية الحرب الأهلية بالجيش الجمهوري الموالي للحكومة الشرعية الأسبانية عام ١٩٣٦ ، ,وليام الابن الأصغر كان من المقاتلين الأشداء، أصر بتصميم انتحاري على مواصلة القتال إلى جانب الرفاق حتى الموت، وكانت نهايته أشلاء بمعركة نهر إيبرو ولم ينج منه إلا محفظة مهترئة تتضمن صورته مع حبيبته روزر.
أما روزر فقد عرفها الأب مارسيل طفلة بعمر الثمان سنوات راعية ماعز من أسرة شديدة الفقر ولكن توسم فيها قوة الروح والفطنة فأخذ على عاتقه تعليمها العزف على البيان، وأرسلها لتعلم الموسيقى، وأسكنها بيته وأصبحت جزءاً من العائلة. ارتبطت روزر بعلاقة حب مع ويليام وعندما مات وحيداً كانت حامل بابنه الذي لم يره قط.
كانت روزر وكارمي الأم في مسيرة اللجوء مع آلاف من الهاربين من بطش فرانكو بعد هزيمة الحكومة الشرعية يرافقهم صديق مؤتمن، ولكن كارمي ضاعت في فوضى الهروب والحقيقة أنها هربت لأنها لا تريد أن تترك وطنها.
أما فيكتور فبعد أن حمل الجرحى والمرضى في حافلات، وبعد أن بقيت في ذاكرته وروحه رائحة اللحم المحروق والأطراف المبتورة، والأشلاء غير القابلة للجمع، والحزن في قلبه لموت أخيه، فقد قرر أن يرافق الجرحى في رحلة اللجوء المضنية.
بعد رحلة من العذاب لروزر وصديقها، ومشي مضن في الجبال المتجمدة وصلت روزر إلى فرنسا. وكانت من سكان معسكر اللاجئين الذي يفتقر إلى أدنى الشروط الصحية.
وصل أيضاً فيكتور إلى المعسكر بعد أن مات أغلب الجرحى على الطريق بسبب النقص بالأدوية والجوع والبرد.
لأتمكن متابعة الحياة في هذا المعسكر ولا أمل له في حياة كالحياة. ولكن بريق أمل لاح في الأفق عندما علم أن الشاعر بابلو نيرودا يهيئ سفينة لنقل مجموعة من اللاجئين، وقبول إقامتهم في بلده تشيلي الواقعة في نهاية العالم.
بابلو نيرودا، صار وهو في الرابعة والثلاثين من عمره أفضل شعراء جيله. ونيرودا رجلٌ من جنوب تشيلي، من أراضي الأمطار والأخشاب، ابن عامل في سكة الحديد، بسبب شهرته وتعاطفه مع اليسار عين قنصلاً لبلاده في العديد من الدول، قبيل الحرب الأهلية الإسبانية كان في إسبانيا، وكان صديقاً للشاعر لوركا الذي اغتيل غدراً من أنصار فرانكو، كان يحب إسبانيا ويكره الفاشية، واستطاع إقناع دولته بقبول ألفي لاجئ إسباني وجهز لهم سفينة أسماها وينيبيغ، أبحرت من فرنسا.
فيكتور وروزر والمولود ابن وليام كانوا على متن هذه السفينة، كان على فيكتور أن يتزوج روزر حبيبة أخيه ليتمكنوا من الصعود للسفينة وعاهد فيكتور روزر أن يرعاهاوابنها، وأن يكون صديقاً وليس زوجاً حفاظاً على ذكرى وليام.
وصلت السفينة إلى. تشيلي في خريف عام 1939 مع بداية الحرب العالمية الثانية، وجد فيكتورعملاً كنادل في حانة ليلاً، وكان يتابع دراسة الطب في الصباح، وعملت روزر عازفة بيانو ومدرّسة موسيقى.
استطاعا تحقيق حياة جيدة بكثير من التعب والجهد، ولكن القدر يلاحق الشرفاء أينما وجودوا قدر أحمق أوقع فيكتور مرة أخرى بين براثن قوى فاشية.
كان فيكتور صديقاً لسيناتور سلفادور ألليندي تعرف عليه عند وصوله لتشيلي، جمعت بينهما الأفكار الإشتراكية وهواية الشطرنج، لم يتدخل فيكتور أبداً في السياسة وكان هذا شرط من شروط قبول اللاجئين.
واستمرت هذه الصداقة فترة طويلة، بعد خمس وعشرون عاماً انتخب سلفادور الإشتراكي رئيساً لتشيلي، ولكن أمريكا كانت له بالمرصاد ونيكسون وكيسنجر أقسما أن لايدعا التجربة الاشتراكية تنجح. وكان من المحال الإفلات من الإمبريالية الأمريكية وعملائها من الداخل، فرتبت الإنقلاب العسكري بقيادة بينوشيه، وأنهت حكم سلفادور ألليندي وقتلته وأعلنت أنه انتحر.
كان انقلاباً دموياً قضى على خيرة الشباب المؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعية، وآلاف الشباب اعتقلوا وعُذبوا لمجرد الشبهة بأن لهم أفكار اشتراكية، طرد كل من ناصر ألليندي من عمله.
بوشاية من جارته اعتقل فيكتور بسبب صداقته مع الرئيس سلفادور ألليندي، خلال الأحد عشر شهراً التي قضاها في مخيم الاعتقال، لم يمت من الإنهاك والتعذيب، بل تعززت متانته جسدياً وذهنياً، كان ينحني أمام العاصفة دون انكسار، يفكر بحب وحنين بروزر وبحبه الكبير لها الذي تأسس بعد فترة طويلة من وصولهم إلى تشيلي، وبسبب كل مامرا به وعاشاه معاً، كان ابن ويليام مارسيل قد درس الهندسة وتخرج ودرس الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية، في المعتقل كانوا يأخذون رجالاً ويعدمونهم، ينسفون أجسادهم بالديناميت، إجرام وقمع قام به بينوشيه لإسكات المعارضين وتمكين حكمه، استطاع فيكتور أن يعمل في مشفى السجن كطبيب، ومن ثم هرب إلى ڤنزويلا بلد جديد ومنفى جديد عليه أن يبدأ من الصفر مرةً أخرى . كانت ڤنزويلا بلد تعوم على بحر من النفط وآخر الديمقراطيات المتبقية في القارة المحكومة بأنظمة شرسة، بلد غنية وسمعة فيكتور كطبيب مرموق خولته لإيجاد عمل مهم، وروزر كانت تأسس أوركسترا في ڤنزويلا، ومارسيل يعمل في شركة نفط. عاشوا حياة سعيدة في المنفى الجديد ولكن فيكتور كان يشعر بأنه أجنبي وغريب وانتماؤه إلى تشيلي.
في عام ١٩٧٥ مات فرانكو دكتاتور إسبانيا، بعد أربعين سنة من الحكم، عادت إلى ڤيكتور غواية الرجوع إلى الوطن إسبانيا، وبالفعل عاد ڤكتور وروزر ، إلى إسبانيا.
جالا في الوطن، وذهبا إلى بيتهم في برشلونه مرتع طفولتهم، كان البيت أطلالاً مهلله، احتلته مجموعة من الشباب تفوح منهم رائحة المارجوانا.
وعرفا أن الناس عند هجرتهم من بلادهم يضيعون، المشاعر تخفت وتصبح باهتة، والنسيان ينسل إلى الحيوات كغمامة وأنهم أصبحوا غرباء في وطنهم.
عادوا إلى تشيلي بعد أن رفع عنهم الحظر والمنفى هذا البلد الذي احتضنهم في فقرهم وحاجتهم وأنقذ حياتهم، البلد الذي رغم فقره احتضنهم وكانت لهم فيه صداقات وحياة، وهو بلد ابنهم الذي لا يعرف غيره.
بعد تسع سنوات، وفي استفتاء شعبي سقط بينوشيه، وتعززت الديمقراطية وكانت فترة سعيدة عاشاها الزوجان بكل حب
ولأن الحياة غير عادلة، اكتشفت روزر أنها مصابة بالسرطان وفي مرحلته الأخيرة.
كانت صدمة لڤيكتور، وترك عمله ليكون بجانب حبه الكبير ولكن الموت أسرع إليها لينهي حياة راعية ماعز وصلت إلى أن تقود أوركسترا.
سفينة نيرودا رواية عن التاريخ والمنفى، عن الاستبداد والقمع، عن الانتماء، عن الأمل والحب في المنافي طويلة الأمد.
#سفينة_نيرودا #إسبانيا # الجنرال_فرانكو #الحرب_الأهلية_الإسبانية
بقلم عفت بغجاتي