17 مارس . 2 دقيقة قراءة . 859
أماني أحمد*
كانَ الإعلانُ مغريًا. أيّ عاقل سيفوّت على نفسِه فرصةَ المشاركةِ في رحلةٍ نحوَ السَّعادة؟
ربَّت أبي على كتفي قبلَ صعودي إلى الباخرة، ثمَّ دسَّ في يدي ورقةً بيضاء صغيرة مطوية، مؤكدًا أن لا أفتحها قبل الوصول. عانقتُه مودّعًا فانحدرَت على خدّي دمعةٌ خفيفة، وانطلقتُ نحو سعادةٍ مجهولة لا أعرف عنها شيئًا. كانَت مدَّةُ الرحلةِ ستة أشهر متتالية، وعدد المشاركين فيها قرابة الالف شخص. جهّز كلّ منهم أمتعته ووضعها في الغرفة المخصَّصة له قبل الانطلاق.
كانت الباخرة مميَّزة وجميلة وفيها كل ما يمكن أن يحتاجه مسافرٌ في رحلة مماثلة، فضلاً عن اتساع غرفها الأنيقة، وخدمات الطعام والانترنت والموسيقى الراقية التي تنبعثُ من مكبرات صوت خفيّة فتنساب بلطف بين المسافرين، ووسائل التبريد والزهور المحيطة بالمكان من كل جانب. كل شيء في هذه الباخرة يبعث على السرور والبهجة والمتعة والاسترخاء. أمّا على متنها فحين نتوجّه نحو الخارج نرى البحر بجماله وجلاله وزرقته الدافئة وضوء الشمس البرّاق والسماء الصافية، وكأنّ الطبيعة تُسامرنا وتؤنسنا في هذا المشوار الجميل.
مضى اليوم الأول على ما يُرام. كنا نستمتعُ باللحظة أيَّما استمتاع، فنطلق الزغاريد والأغاني الصاخبة والحماسيَّة موقَّعةً بتصفيقٍ جماعي. وفي الليل أضيئت الشموع لتعلن عن بدء مراسم رقصة التانغو الجميلة.
لم يمضِ يومان حتى بدأ عدد من المسافرين يعبّرون صراحة عن مللهم، مطلقين عبارات من قبيل "ثم ماذا بعد؟ كل شيء متوفّر هنا. لقد مللنا. نودّ العودة إلى صراعات الحياة".
وبدت موجات التذمر كما لو كانت تنتقلُ عبر الأثير فتصيب الجميع بالعدوى. كنتُ أراقبُ كل شيء بتركيز تام، ولا أفكّر إلا في الوصول، يجتاحني فضولٌ لقراءة رسالة والدي. مرَّ بجانبي شخصان يتسامران عن الماضي وذكرياته والحنين إليها، وأمٌّ تتحسّر على تركها طفلها وحيدًا والذهاب نحو السعادة بدونه مؤنبًة نفسها بشدّة. لا أنكر أن كل هذه التفاصيل الصغيرة كانت تؤرقني وتبعث فيّ شيئًا من الاحباط، وتشوش افكاري وتركيزي في الوصول نحو هدفي، ولكنني كنتُ قد عزمتُ على الاستمتاع بكل لحظة من هذه الرحلة، وطرد المنغّصات والمعوّقات التي تحولُ دونَ شعوري بالبهجة والاسترخاء. وهذا ما كنتُ أفعله إذ أمارسُ الشهيق والزفير بعمق موجّهًا تركيزي نحو المدى الأزرق المنبسط أمامي. مضَت الأشهرُ الثلاثةُ الأولى وأغلب المسافرين يمضونَ أوقاتَهم في غرفهم متصفحين صفحات الانترنت، والبعضُ الآخرُ يقضي وقتَه في النوم، ومجموعةٌ أخرى صغيرة لا تني تتذمَّر وتشكو وتندب حظها! حتّى حصل في ليلةٍ ما فاجأ الجميع.
كان ارتفاع الموج ينبئ عن أمر خطير سوف يحدث، وهذا ما حصل بالفعل. فقد تحولت الموسيقى الهادئة فجأةً إلى إنذارات وتحذيرات تدعو إلى الأخذ بالاحتياطات وملازمة الغرف لأنَّ ثمّة خطر وشيك محدق بالباخرة. وضاع الناس بين متذمّرٍ وشاكٍ وباكٍ. واحدٌ يلعن الحظَّ وآخر يلعن السعادة. وقلّة منهم بدأت بالابتهالات والصلوات إلى السماء لعلّها تُرسلُ معجزةً تنقذنا من الغرق. أمَّا أنا فكنتُ بين نوبات الغضب أصلّي بصمت راسمًا نقطةَ الوصولِ أمام عينيّ، مؤمنًا بسعادةٍ خفيَّة تلوحُ في الأفق، مراقبًا كلّ ما يجري حولي بسكونٍ تام.
كانَ أفرادُ طاقمِ الباخرةِ يتحرَّكونَ بسرعةٍ ونشاطٍ كخليَّة نحلٍ لا تهدأ، ويتبادلون التوجيهات والتعليمات بصوتٍ عالٍ أشبه بالصراخ، ولكنّ الباخرةَ لم تنفكّ تتلقى صفعات الأمواج القاسية فتهتزّ بشدَّةٍ كطير ذبيح وتميلُ على جانبيها حتى نخالُ أنَّها غرقَت وانتهى الأمر، ليتساقط بعضُ ركابها ممن تأخروا في الدخول إلى غرفهم ولم يجدوا ما يحتمون به في الخارج، في الماء، فلا يُرى لهم أثرٌ في الظلام.
لم تنتهِ العاصفةُ إلا وقد غرقَ نصفُ المسافرين، ونجونا بأعجوبةٍ، فقضينا شهرًا كاملاً في الابتهال والصلوات. بقَي شهرٌ واحدٌ على موعد الوصول، وبقي الركودُ واليأسُ مخيّمًا على الجميعِ باستثناءِ شخص واحد كانَت التباشيرُ المرسومةُ على وجهِه تبعث الأملَ في النفوس، وتزرع الخير في القلوب.
فتحتُ عينيّ في صباحِ اليومِ الأخيرِ من الرحلةِ ممتنّا لبقائي على قيدِ الحياة، مستعدّا للوصول إلى السعادة وإشباع فضولي بفتحِ رسالة والدي. وعندما أعلنَ القبطانُ أنَّنا وصلنا، أغمضتُ عينيّ قبل تجاوز مدخل الباخرة متنفّسًا بعمق. هتفَ الصوتُ المنطلقُ من المذياع: "أيّها المسافرون استعدوا لقد وصلنا". فتحتُ عيني فوجدتُ أمامي صحراءً رمليَّة واسعة! في بادىءِ الأمر ذُهلت ممّا رأيت، فيما صدحَت أصواتُ المسافرين في السماء: "أهذه هي السَّعادة؟ أهذه هي رحلتكم المزعومة؟ نودُّ العودة.. لا نريدُ السَّعادة. لا نريدُها"!
صعدَ المسافرون إلى الباخرةِ مجدَّدًا عازمين على العودةِ من حيثُ أتوا. أمَّا الشخص المتبسم فقد قرَّر أن يكمل رحلته باتجاه الصحراء سيرًا على قدميه ليكتشف ما فيها. نظرتُ إلى الطريقين: طريق العودة، وطريق الصحراء المجهولة. وكان لا بدّ أن أتخذ القرار! تذكرتُ رسالةَ والدي التي أنساني إيّاها الذهول، ففتحتها، لأجد فيها بضعة كلمات خُطَّت بالأحمرِ القاني: "السَّعادة يا ولدي في الرحلة، وليست في الوصول".
* فريتاون
27 أكتوبر . 0 دقيقة قراءة