16 يناير . 6 دقائق قراءة . 607
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس
نظر رامز إلى باسمة بتعجب!.. وقبل أن يتفوّه بكلمة، قالت:
- كنت بأمسّ الحاجة إلى من يرعانا. لقد تركت عملي وبقيت قرب أمّي، فالفاجعة التي أصابتنا كانت أكبر من أن يتقــّبلها عقل أو منطق. بتنا من دون منزلٍ وربّ أسرة، فوجدت في ذلك الرّجل ملاذي. صحيح أنّ عمره كان أكبر من عمر أبي، لكنّ خياراتي كانت معدومة.
*ماذا عن أقاربك أو.. أليس لديك إخوة؟
- لديّ أخٌ يكبرني بسنتين. هاجر قبل مقتل أبي بستّة شهور. كان الاتّصال بيننا منقطعًا حينها، لكنّه عاد بعد سنة، فمكث لأسبوعين ثمّ هاجر من جديد. سافر إلى ألمانيا ولم نعد نعرف عنه شيئًا منذ ذلك الحين. أمّا أقاربي، فقد أرادوا بدايةً أن أعيش مع أمّي في قريتنا بعد أن تتحسّن حالتها الصحيّة، لكنّهم وافقوا على زواجي عندما أبلغتهم بالأمر، ورأوا في الموضوع أهون السّبل لمسيرة حياتي وحياة أمّي، خاصّةً أنّهم بعيدون عنّا ولا نراهم إلاّ في أوقاتٍ نادرة.
*ما الذي حصل لزوجك؟
- للأسف!.. لم يكن غول الحرب قد شبع بعد. كنـّا على مشارف نهاية العام 1988. نتذكـّر جميعـنا صعوبة تلك المرحلة. لقد وقف زوجي إلى جانبي بكلّ شهامة، وعمل بكلّ جهدٍ لتستكمل أمـّي علاجها. كنـّا نسكن في شقّةٍ تقع في منطقة "رأس النّبع" غربي بيروت، وهي قريبة جدًّا من خطوط التّماس. كان زوجي يعرف صديقـًا يقطن في القسم الشّرقي من بيروت، وكانا على اتـّصال دائم. علم هذا الصّديق بوضع أمّي المأساوي، فاقترح عليه إحضار كلّ التّقارير الطبيّة المتعلّقة بها وملاقاته إلى منزله للذّهاب سويًّا إلى طبيبٍ مشهور، على أمل أن يساعدنا ذلك في تخفيف عذابها. طلبتُ أن أرافقه فوافق على ذلك. انطلقنا بالسّيارة، وكان الوضع الأمني هادئـًا. لكن، ما أن اجتزنا منطقة المتحف الواقعة على خطوط التّماس مباشرة، حتّى انفجر الوضع فجأةً، وبدأت القذائف تتساقط في كلّ الأنحاء. خفت كثيرًا، فطلبت من زوجي العودة سريعًا إلى منزلنا. بدأ يدخل شارعًا ويخرج من آخر. عشنا حالةً من الرّعب الحقيقي. ما عدنا نعرف أين نحن. تواصل تساقط القذائف. دخلنا شارعًا ضيّقًا. لم أعد أتذكـّر إذا كان واقعًا في القسم الشّرقي أو الغربي من المدينة، فكلّ ما أتذكـّره أنـّه انبرى أمامنا ثلاثة مسلـّحين، وأوقفونا، ثمّ طلبوا من زوجي هوّيته. أعطاهم الهوّية. أخرجوه من السيّارة بالقوّة وانهالوا عليه ضربـًا بأعقاب بنادقهم. بدأت بالصّراخ، وحاولت النّزول من السيّارة كي أساعده. لم أعرف ما الذي حدث!... كلّ ما شعرت به أنـّني تلقــّيت ضربةً مؤلمةً على بطني، ولم أجد نفسي إلا ّ وأنا في المستشفى. هناك علمت أنّ زوجي قـُتل، وأنـّني نـُقلت بعد فترةٍ طويلة إلى قسم الطوارىء.
أنهت كلامها وغطّت الدّموع عينيها. لم يستطع رامز أيضًا أن يمنع دموعه من البقاء في منبعها. طفت فوق عينيه. مدّ يده وأمسك يدها بحنان، وقال:
*أنت إنسانةٌ كبيرة. من الصّعب أن يتحمـّل إنسانٌ كلّ هذا العذاب. هذا حظـّك. إنــّني أشعر معك وأدرك كم كان قاسيًا موته، ولكن صـّدقيني، كانت ظروفك أصعب لو قدّر الله ورزقكما بولد.
نظرت إليه بحسرة، وأبعدت يدها عن يده بخوف، ثمّ دفنت رأسها بين يديها وشهقت بالبكاء. لم تطل. رفعت رأسها، وأعادت التّحديق إليه والدّموع تملأ خدّيها، وقالت له:
- لكنّني رُزقت بولد!..
نزلت كلماتها على رأسه كالصّاعقة، وتجمّد الزّمن أمام عينيه. لم يكن يتوقـّع ما سمعه. لملم شتاته بعد وقت، وحاول أن يسألها مستفسرًا:
*ولكن!..
لم تدعه يكمل. أشاحت عينيها عنه وحزمت حقائب ألمها بهما، وراحت تتأمّل الشّمس الجانحة نحو المغيب، والتي بدأت تـُزفّ إلى عريسها البحر وسط تناثر الورود الغسقية.
أدرك رامز أنـّها لا تريد متابعة الحديث. جاراها في تأمـّل أجمل أعراس الطّبيعة، فغرق الاثنان في محاكاة الرّوح وفلسفة الحياة؛ فالغروب يعني نهاية، ولكـّنه نهايةٌ ليومٍ وبداية التّحضير ليومٍ آخر جديد. بقيا وسط الصّمت والجمال والعبر حتى غادر العروسان متعانقين. عادا للنّظر إلى بعضهما بعضًا، ومن جديد تنهّدت باسمة، وقالت:
- كنت تسألني عن ولدي أليس كذلك؟
*صحيح.
- عليّ المغادرة الآن. يمكنك ملاقاتي إلى منزلي يوم غد عند العاشرة صباحًا. سأجيبك عن سؤالك.
*حسنـًا!.. كما تشائين.
غادر الاثنان كلٌّ إلى منزله، وفي صباح اليوم التّالي التقيا. كانت مفاجأة أخرى بانتظار رامز عندما طلبت منه مرافقتها في زيارة!... لم يسألها إلى أين، كما لم يسألها عن ولدها، فهي كانت قد وعدته بالحديث عنه، فلم يستعجل الأمر. انطلقا بسيّارته. دُهش عندما سمعها تقول:
- إلى "المركز الوطني لذوي الاحتياجات الخاصّة"" لو سمحت.
شعر بحزنها، فآثر الصّمت، وغرق في التفكير بما ينتظره. دقائقٌ ووصلا إلى المكان المقصود؛ مبنى فسيح وأنيق مؤلّف من ثلاث طبقات، تحيط به حديقة غنّاء زيّنتها أشجارٌ عدّة وبرك مياه، وكثرت فيها المقاعد الخشبيّة التي توزّعت في الأنحاء بعناية فائقة.
ترجّلا من السيّارة، وتوجّها نحو الدّاخل. رحّبت موظّفة الاستقبال بالشابّة الجميلة بطريقةٍ تُظهر معرفتها العميقة بها، فزادت حيرة رفيقها!.. أكمل الاثنان طريقهما نحو الطّابق الأوّل. وقفا عند باب إحدى الغرف، وتبادلا النّظرات. بدا الاضطراب واضحًا على ابنة الثّامنة والعشرين وهي تفتح الباب. دخلا الغرفة بهدوءٍ مصطنع، وما أن بان من في داخلها حتى ذُهل رامز!.. أحسّ بتجمّد الدّم في عروقه؛ فمشهد الطّفل الذي رآه أيقظ الإنسان المسترخي داخله وأغضبه، فأطبق على قلبه. شعر بتسارع النّبضات فيه. تراكضت هذه النّبضات عندما انحنت زميلته فوق الطّفل وعانقته بحنانٍ قلـّما لمس مثله. شيءٌ ما ضغط على صدغيه عندما سمع الطّفل يتأوّه. لم يدرك إلا ّ بعد لحظاتٍ أنـّه يرحّب بمن عانقته. كانت طريقته الوحيدة للتّرحيب؛ أصوات "أوه" متكرّرة حملت حبّـًا لا يشبه أيّ حبٍّ في العالم، وتشبّعت ألمـًا لا يجاريه أيّ ألم.
شُلّ تفكيره، وغاص في الشّرود. ما عاد يشعر بمن حوله. مرّ وقتٌ وهو على هذه الحالة. بالكاد سمع باسمة أخيرًا، وهي تقول له:
- هذا "هادي".. إبني.
(يتبع)