29 يونيو . 5 دقائق قراءة . 586
عاد صيفٌ آخر إلى لبنان، إلى البلد الحالم الذي لا تستكين روحه إلاّ بين ذراعي سمائه، ضاحكة كانت أو عابسة، والذي لا ينبض قلبه إلاّ للجمال والعنفوان والأمل، والذي لا يملّ من أبنائه، الصّامتين منهم في حاضره، أو الضّاجين بغده، إلاّ إذا وجل منهم ورحل عنهم. لكنّ هذا المجنون لا يعرف كيف يرحل. تجذّر في الجنون أنشودة حياةٍ لا تزول، ولحن عراقةٍ لا يُمحى، وصوتًا عذبًا لا يشيخ..
مجنونٌ لبنان بناسه.. بعقلائه، بحكمائه، بمحبّيه، بالمتهورّين فيه، بمجانينه، بالحاقدين عليه، بأطفاله، بشبابه، بنسائه، برجاله.. مجنونٌ هذا اللبنان بترابه، بأشجاره، بمياهه، بهوائه، ببحره، بجباله.. مجنونٌ عاشق الحياة هذا بأحزابه، بسياسيّيه، بحكّامه، بضجيج الآراء وتعدّدها، بطوائفه، بانفتاحه، بتطوّره، بدوره الإنساني.. خُلق مجنونًا، بقي، لا يزال، وسيبقى..
في كلّ دقيقةٍ من كلّ زمنٍ يمارس هذا اللبنان طقوسه الجنونيّة.. هنا مقهى يضمّ باقةً من مثقّفي صالوناته، وهناك حيٌّ ارتضى الحنين إلى عصور التقوقع والظّلمة، وهنالك شارعٌ تخاله في أرقى دول أوروبا لندرة ما تقرأ فيه من كلماتٍ بالعربيّة، ولكثرة ما ترى فيه من شابّاتٍ يفاخرن بنعومة أجسادهنّ، واشقرار شعرهنّ، وانكشاف أفخاذهنّ، وتحرّر نهودهنّ المتعانقة مع أزياءٍ أقرب ما تكون إلى عصرٍ اختصر القرن العشرين بأوّل ظهورٍ للإنسان على الأرض.
هنا وهناك وهنالك في دروب لبنان ومدنه وقراه، جنونٌ قلّما عرفه شعبٌ أو عاشت معه أوطان.. في ذلك الشّارع الضيّق بائع كعك، قربه محلٌ لبيع الفلافل، وبينهما مستوعب نفاياتٍ اختنق بالفضلات والرّوائح، وعلى بعد أمتارٍ زحمة سيرٍ وأصوات منبّهات السيّارات، وازدحام مارّة يكدّون في ملاحقة الوقت والتقاط ما يسدّ أفواه أطفالهم الجائعة.. وبعد مفرقين أو ثلاثة، ورودٌ وأزهارٌ وبداية شارعٍ يبتسم للفرح ولمحلاّته الأنيقة وواجهاتها الحبلى بأجمل المعروضات الباهظة الثّمن. وفي نهاية الشّارع، مطعمٌ فخمٌ يقدّم مأكولات العالم كلّه لرجال أعمالٍ وعاشقين وعائلاتٍ ميسورة.
هنا وهناك وهنالك في كلّ لبنان، مبانٍ تحمل جدرانها وشققها معاناة الفقراء، وأُخرى، ترسم على شرفاتها صور الأوراق النقديّة الوافرة.. وهنا أيضًا مركزٌ لحزبٍ معارضٍ للحكم، وعند طرف الشّارع الآخر مركزٌ لحزبٍ موالٍ له.. وهناك شقّةٌ تقطنها عائلةٌ جعلت من التزمّت نمطًا لحياة أفرادها ومأكلهم ومشربهم وملبسهم ومعشرهم، وفوقها شقّةٌ فيها أشخاصٌ منفتحون على ملذّات الدّنيا حتّى الثّمالة، بمأكلهم ومشربهم وملبسهم ومعشرهم.. وهناك عائلاتٌ تسعى إلى تعليم أبنائها في أرقى المدارس والجامعات وتزويدهم بثلاث لغاتٍ أو أكثر لإرسالهم إلى دولٍ غربيّةٍ راقيةٍ واكتساب جنسيّاتها، وهنالك أيضًا عائلاٌت تربّي أبناءها على الموت في سبيل وطنهم والاستماتة في الدّفاع عنه، أو على الموت في سبيل ربّهم والصّعود إلى جنّاته..
هنا وهناك وهنالك.. جنونٌ متواصلٌ في لبنان، ولبنان في جنونٍ أبديّ.. جمع هذا البلد الحالم كلّ تناقضات الأرض، وسكبها في قلب مستقبله.
في ذلك الصّيف من العام 1999، كان لبنان يتمزّق جنونًا وعنفوانًا. استقوت بعض الأجهزة الأمنيّة بالرّئيس الجديد، وطوّرت أساليبها للإمساك بمفاصل البلاد، وبدأت تتهيّأ للإنتخابات النيابيّة المقبلة بعد عام.
لم يهدأ لبنان في ذلك الصّيف. قصده السيّاح والمغتربون للتنعّم بمناخه وجنونه، وأسره اشتداد الصّراع السّياسي فيه، الذي لم يخلُ من أحداثٍ أمنيّة. فقبل شهر، ضجّت البلاد بجريمةٍ استهدفت المجلس العدلي في مدينة صيدا الجنوبيّة على أبواب مخيّمٍ كبيرٍ للاّجئين الفلسطينيّين الموجودين في لبنان منذ عشرات السّنين. قُتل أربعة قضاة، وفرّ الجناة إلى داخل المخيّم. علت الأصوات المطالبة باقتحامه وجلب الجناة وتقديمهم إلى المحاكمة، لكنّ أصواتًا أُخرى عارضت الأمر. جنون السّياسة دلّ على الهدف من هذه الجريمة المدبّرة وغير المبرّرة، ودلّت الأصابع على بعض الأجهزة الأمنيّة، واتّهمتها بافتعال الجريمة لتوريط البلاد في مستنقعٍ يعزّز الدّور الأمني فيها.
لم يقتصر الأمر على ذلك. كان لبنان لا يزال أسير فتح ملفّات الفساد والكيديّة. شهد شهر تمّوز فتح ملفّات الأملاك البحريّة. كان أحمد عامر من الذين أثاروا هذا الموضوع قبل اعتقاله، لكنّه صرف النّظر عنه بعد إطلاق سراحه. كان جريحًا متألّمًا. شعر بالظّلم والخطر في آن. فهم الرّسالة فاستكان. خفّف من لهجته الحادّة على صفحات مجلّته، وانصرف إلى معالجة الموضوعات التي لا تثير عدائيّة. لم يندمل جرحه، ومع فتح ملفّات الأملاك البحريّة والتعدّيات عليها، عاد إلى دوره وعهده السّابقين، فأعاد قلمه إلى ثورته على الحكم، وكتب بقساوةٍ أكبر وبتهجّمٍ أشدّ.
كان المسؤولون عن الجهاز الأمني الذي اعتقله قبل شهور، قد أيقنوا أنّه فهم الرّسالة، لكنّ عودته إلى سابق عهده دفعهم مجدّدًا إلى التّفكير في الأسلوب الذي يسكت هذا الرّافض للواقع المرّ الذي يعيشه لبنان، ففكّر المشرفون على ملفّه، في الطّريقة التي تحدّ من نشاطه. لم يجد العقيد سمير حصرمي، المسؤول الأوّل عن هذا الملفّ، إلاّ طريقة ترغيب صاحبه ونصحه قبل الإقدام على خطواتٍ أُخرى. كان ضابط الأمن هذا، قد نجح في وقتٍ سابقٍ في تمتين علاقته به وبفريد عطا، فهو رسم خارطةً لهذا الأمر عندما أوهم فريدًا أنّه بذل جهودًا كبيرةً لإطلاق سراح "آنا" حينما اعتُقلت مع زوجها. كان اللّقاء الأوّل في شقّة الباحث العائد من كندا بعد يومين من الإفراج عنه. اجتمع حينها معه ومع زوجته وصديقه. تناولوا العشاء سويًّا، وتمّ تقديم الشّكر للعقيد على مساعدته. قال يومها سمير لأحمد:
*أنا معجبٌ بأفكارك دكتور، وأشجّعك على ما تطرحه خاصّة على صفحات مجلّتك، لكنّني كأخٍ لك، ألفت انتباهك إلى أنّ من اعتقلك قد يقدم على خطوةٍ لا تُحمد عقباها.
سأله بتعجّب:
- هل سيقتلونني؟!..
*هذا ما أخافه!..
- ثمّة قوانين في البلاد.
*صحيح!.. ولكن ما بالك إذا كانت هذه القوانين بين أيادي معتقليك؟!..
تدخّل فريد، وقال لصديقه:
- العقيد معه حقّ. هو لا ينصحك بتبديل مواقفك، ولكن بالتّخفيف من أسلوبك الهجومي.
جارته "آنا" بالكلام، ثمّ أردفت قائلة لزوجها:
- أرجوك أحمد!.. إذا كنت لا تستطيع التّخفيف من أسلوبك ونشاطك، فأنا ما جئت إلى لبنان لأمشي في جنازتك، وأفضّل في هذه الحالة العودة معك إلى كندا.
(يتبع)