الغرفة السفليّة (الجزء الرّابع والعشرون)

02 مايو  .   6 دقائق قراءة  .    548

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

أطلّ صباح اليوم التّالي. حملت ثلاث صحفٍ معه الأخبار التي أملاها العقيد سمير حصرمي على ثلاثةٍ من محرّريها. ضجّت البلاد بهذه الأخبار. تناقلتها شاشات التّلفزة وأثير الإذاعات، وأكثر من ذلك، فقد رافقتها تصريحاتٌ لنوّابٍ ووزراءٍ ومسؤولي أحزاب بعد تلقّي بعضهم اتّصالاتٍ من "سيادته"، فجاءت تصريحات هؤلاء منبّهة ومحذّرة لكلّ سياسيٍّ تخوّله نفسه مهاجمة النّظام أو الأجهزة الأمنيّة، لأنّ البلاد برأيهم "ما زالت مكشوفة للعدو الإسرائيلي وأجهزة مخابراته، وأكبر دليلٍ على ذلك، المعلومات التي نُشرت في بعض الصّحف".

بعد يوم، نشرت الصّحف الثّلاث معلوماتٍ جديدة تتعلّق بالموضوع ذاته. جاء في الأُولى:

"عطفًا على المعلومات التي نشرناها أمس، فقد عُلم أنّ الشّخص الذي تراقبه الأجهزة الأمنيّة المعنيّة، للاشتباه بارتباطه بجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، يملك مركزًا للأبحاث والدّراسات البيئيّة، وهو صاحب مجلّةٍ تُعنى بالشّأن ذاته ورئيس تحريرها، ولديه شبكة علاقاتٍ كبيرة مع سياسيّين مناهضين للحكم في لبنان. كما عُلم أنّ هذا الشّخص أُوقف منذ يومين، ويتمّ التّحقيق معه بعيدًا عن الأضواء وحفاظًا على سريّة التّحقيق".

أما الصّحيفة الثّانية فقد نشرت الخبر التّالي: 

"أفادت مصادر أمنيّة متابعة لقضيّة صاحب المجلّة غير السياسيّة ورئيس تحريرها المرتبط بجهاز الموساد الإسرائيلي، أنّ رئيس التّحرير هذا، نشر مؤخّرًا مقالاً في مجلّته اتّهم من خلاله بعض الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة بالعمل على فتح السّجون لاعتقال الأحرار في لبنان. أضافت هذه المصادر: إنّ المقال هو الذي فتح عيون هذه الأجهزة على كاتبه، لما تضمّنه من معلوماتٍ تقاطعت مع تصريحاتٍ لمسؤولين إسرائيليّين، فشدّدت المراقبة على هذا الكاتب، إلى أن توصّلت إلى أدلّةٍ ملموسةٍ متعلّقة باتّصالاتٍ أجراها المشتبه به مع أحد ضبّاط الموساد الإسرائيلي الموجود في كندا".

وأوردت الصّحيفة الثّالثة:

"استكمالاً للمعلومات التي أوردناها أمس والمتعلّقة بالمدعو (أ.ع.) المتّهم بترأّس خليّة مرتبطة بجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، أكدّت مصادر أمنيّة موثوقة أنّ الشّخص المذكور يخضع للتّحقيق المكثّف بعد أن أُوقف قبل أسبوعٍ في مطار بيروت وهو يحاول الفرار من لبنان. وكشفت هذه المصادر أنّ العديد من أفراد الخليّة التي يديرها (أ.ع.) قد أوقفوا بالفعل، ويخضعون بدورهم للتّحقيق".

أثارت الأخبار الجديدة موجةً أُخرى من التّصريحات والتّحذيرات، وشغلت الرّأي العام اللّبناني برمّته، ونشطت التّفسيرات عمّن يكون ذلك الشّخص المهمّ، المرتبط بجهاز الموساد الإسرائيلي، وتفاعل الموضوع طوال اليوم في الإذاعات ومحطّات التّلفزة. ولكي تنضج الخطّة التي رُسمت قبل يومين، تلقّى مدير محطّةٍ تلفزيونيّة موالية للحكم، اتّصالاً من العقيد سمير حصرمي قبل موعد نشرة الأخبار المسائّية بساعتين. قال له ضابط الأمن هذا، حرفيًّا:

- سيصلكم بعد قليل خبرٌ لن يوزّع على أيّة وسيلةٍ إعلاميّة أُخرى، ونأمل أن تهتمّوا بالمعلومات الواردة فيه ضمن نشرتكم المسائيّة.

انتهى الاتّصال، وبعد دقائق، سُلّمت المعلومات في مغلّفٍ مغلقٍ إلى مدير المحطّة، ومع بداية النّشرة المسائيّة الرّئيسة، أطلّ المذيع، قائلاً بنبرةٍ مرتفعة:

"عنوانٌ واحد لنشرتنا هذا المساء: الأجهزة الأمنيّة تكشف شبكة تجسّسٍ إسرائيليّة وتعتقل الرّأس المدبّر".

بدأ المذيع بتفصيل العنوان، محافظًا على نبرته المرتفعة، فقال: 

- "حقّقت الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة المختصّة، إنجازًا كبيرًا، بكشفها شبكة تجسّس إسرائيليّة بدأت العمل على زعزعة النّظام في لبنان، وخلق شرخٍ داخليٍّ يساهم في كشف ظهر المقاومة البطلة التي تلقّن العدو الإسرائيلي دروسًا قاسية. وفي التّفاصيل، أنّ صاحب مجلّة "بيئة مثاليّة" ورئيس تحريرها، ومدير مركز الدّراسات والأبحاث البيئيّة الدكتور أحمد ابراهيم عامر الذي عاد إلى لبنان بداية الصّيف الماضي، واستقرّ فيه، كان قد أُعطي أمرًا من قبل جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، للإقدام على هذه الخطوة، والعمل على بناء شبكة تجسّسٍ لصالح إسرائيل، هدفها الرّئيس التّحريض على النّظام في لبنان. وبالفعل، بدأ أحمد عامر بتنفيذ المهمّة المكلّف بها، فأنشأ مركزًا للأبحاث والدّراسات ومجلّةً، وجعلهما غطاءً لأعماله، بالإضافة إلى غطاءٍ واسع من شبكة علاقاتٍ بناها في فترةٍ وجيزةٍ مع معارضين للحكم من سياسيّين وإعلاميّين وطلاّب جامعات. وفي الفترة الممتدّة بين شهر آب الماضي وحتّى اليوم، أمعن في نشر مقالاتٍ ودراساتٍ تساهم في زعزعة الثّقة بالنّظام وبالأجهزة الأمنيّة التي اتّهمها بالقمع والتّحضير لكمّ الأفواه.

وذكرت المعلومات الخاصّة بنا، أنّ أحمد عامر الذي بقي في كندا لمدّة سبع سنوات، كان قد تعرّف منذ عامين إلى أحد ضبّاط جهاز الموساد الإسرائيلي من خلال ثلاثة أشخاصٍ يهود يحملون الجنسيّة الكنديّة، ويعملون في المؤسّسة ذاتها التي كان يعمل فيها، وهم: إسحق ليفي، وآرييل كوهين، وشارون مائير. أضافت المعلومات، أنّ هؤلاء الثّلاثة كانوا على علاقةٍ متينةٍ بأحمد، ممّا دفعهم إلى جمعه بأحد ضبّاط الموساد الذي عُرف باسم دايفيد، وقد التقى الخمسة في مطعم "أضواء المدينة" الفخم في "تورنتو"، بتاريخ 7/3/1997، وتناولوا طعام العشاء سويًّا، وتحدّثوا عن الأوضاع في لبنان، خاصّةً عمّا يحدث في الجنوب.

وأكّدت المعلومات أنّ "عامر" عاد والتقى منفردًا ضابط الموساد دايفيد في اليوم التّالي وفي المكان ذاته، وكان هذا اللّقاء بدايةً للقاءاتٍ أُخرى منتظمة نتج عنها موافقته على العمل مع جهاز الموساد الإسرائيلي، مقابل مبالغ ماليّة طائلة، وكانت عودته إلى لبنان، نتيجة قرارٍ اتّخذه هذا الجهاز بعد أن مُهّد لذلك بسلسلة مقالاتٍ ودراساتٍ عن البيئة في لبنان، نشرها عامر في الخارج قبل عامٍ من عودته، كما كانت مقدّمةً لجعل البعض من السياسيّين يؤيّدون أفكاره وطروحاته.

هذا وقد قامت الأجهزة الأمنيّة المختصّة بإلقاء القبض على الدكتور أحمد عامر للتّحقيق معه، علمًا أنّه لم يصدر حتّى الآن أيّ بيانٍ رسميٍّ بهذا الشّأن".

 

                                                                                       (يتبع)

 

  3
  6
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال