01 يناير . 9 دقائق قراءة . 875
- لمَ رحلتِ باكرًا؟ هذه عادتي لا تسرقيها!
- خفْ على عاداتك من الجميع إلّا منّي!
تمنّيت لحظتها أن تسألني "لِم" كي أقول لك إنّي عشقتُ عاداتِك منك فكيف لي أن أتقبّل أن يلبسَها جسدٌ غير جسدك لكنّك التزمت الصمت فسألتك:
- هل فاتني من شِعرِك شيء؟
- فاتني من حضوركِ الكثير... لو بقيتِ لما تركتُك تغادرين حتى الآن.
تهرّبت من ارتباكي وحاولت إرغامك على التفسير فقلت لك:
- لتهديَني الأمسية المجّانية التي وعدتَ بها من يحضر الأمسيتين؟
- طبعًا لا...أهديكِ أغلى اللحظات.
- وهل هناك أغلى من لحظات شعرِك؟
- لحظات الشاعر أغلى من لحظات الشعر...
كم أدمنتُ كلماتك! كم أغرقتني في سريري وحملتني بعيدًا بعيدًا...
أنت تهديني أغلى اللحظات مع كل كلمة... تصبّ كمًّا هائلًا من أحلام الماضي في شخصك...تفقدني ما بقي من صوابي...
من جديد حاولت الهروب فأجبتك:
"إذًا شفع بي قدري ورحلت وإلّا أفقرتَني في يومين..."
وبالفعل أفقرتني في يومين...أفقرتني من عاطفة طُمرت من سنين تحت الرماد...أفقرتني من كلمات فرّت من سطوري منذ سنين.
أتذكر حين قلتُ لك إنّ سطري يعاني هجرًا شعريًّا عمره سنوات وإنّ ما بك من لهيب يغريني، إذ وجدتُ فيه مصدر إلهامٍ جديد...أتذكر؟
حذّرتَني حينها...ولم أحذر..قلتَ أنّه قد يأكل أعصابي ويجعل مني بركانًا لا يهدأ...
ما ظننتُ حينَها أنّ أنثى، هجرَ الحبُّ حياتها منذ سنين، ما هزّها رجل، ما عاشت الهوى سوى في سطورها، قد يغتالها اليوم غريب! في ذاك الحين كنت مأخوذةً بما فيك من غموض فقلتُ لك إنّي أنثى اقتسمتُ مع شعري جنونَه وأعطيتُه صوابي كلّه وإنّي لن أبخلَ عليه ببركان يهوى ناره، فالحذر خارجٌ على قوانين جنوني...
كنتُ أريد أن أطلق عليكَ رصاصَ سلاحك وأحاربك بالغموض...
كان علي أنّ أحذرَ... كان عليّ أن أستعدّ للجنون كما قلتَ لي وأن أشعلَ مواقدي وأجهّز مساحاتٍ معدّةً لصنعِ الذكريات...كان عليّ أن أتركَ غرور أنثاي بعيدًا وأحذر...
كيف تعمّدتُ استمرارَ التحدي، كيف استطاعتْ أصابعي أن تكتب ما كتبت؟
قلتُ لك:
غريبي الماطر المحرق آتٍ بعواصف غموضه، معلنًا اقتراب صدفة جديدة... دعني أطفئ نار الشوق إذًا ودَعك من الذكريات فساحاتي واقعٌ لا ينتهي كي يترك خلفه...ذكريات.
حمقاء! أطفأت نار الشوق من مواقدك وتركتها تأكل مواقدي... ترقّبتُ حضورك وأُخذْتُ بأحلام مراهقة فاتني قطارها ولم أحذر!
ادّعيتُ القدرة على الذكريات وحاولتُ مسحَ غبار هذه الكلمة بما أسميتُه واقعًا طويلًا... لم أعرف أنّني سأعيش هذا الواقع وحدي وأنّك حينها لن تكون سوى ذكريات.
رنّة هاتفي تنذر بوصول رسالة منك أفاقتني من غفوة ذكرياتي، جاءني ردّك ممازحًا يعيدُني إلى صفحة محادثتنا قائلًا أنّك ستضيف "فاتورتي" إلى حسابك ولن ترغمني بالأموال...
- "ولكن كيف تركت ما يخصّ الذكريات؟"
وكأنّك حاولتَ التهرّب، سألتني عن الأمسية إن أعجبتني... ضحكت لسؤالك وأجبتك أنني أحببتها من قبل أن تبدأ، وكم كنتَ ساحرًا حين سألت بمكر:
- الأمسية أم الأحداث التي قد تبدأ؟
صرتَ تعرف كيف تستحضر ابتسامتي بلحظة...ساحر أنت...
- من الأمسية كلها لم أسمع صوتًا سوى صوتك.
من جديد التزمت الصمت...هل كنت تتوقع منّي إجابةً أخرى؟
هل كنت ترمي الشباك هذه المرة لتحملني على متن مركب آخر؟
أرهقتني أيها الغريب! أرهقتني!
"الوردة التاسعة" كانت بجسدها، ليلتَها، على الطاولة أمامي... الوردة الهاربة من باقتك، شيءٌ من الضوء الخارجي يتسرّب إليها فتلتحفه...
كانت ناقصة...تنقصها ورداتٌ ثمانيةٌ لا أعرف أين هي الآن...تُرى هل بقيت على تلك الطاولة في المعرض؟ أم رميتَها؟ أم أعطيتَها لواحد ممّن قابلتهم من أصدقاء يحب الورد...
اكتفيتُ بالسؤال عنها بكلمات قليلة:
- أين ورداتي؟
توقّعت أن تقول هناك في مزهرية...أو تعتذر لأنك نسيتها في مكان ما...أو...
حتى جاءني ردّك...أحلى من ذي قبل...
- صارت لي... لاعلاقة لك بها... هل سألتُك عن نبضات قلبك أين هي الآن...
لا أدري إن كنت تعني ما قلت أم كنت تلحق بسرب كلماتي من دون قصد.
كنتَ توصلني إلى ما هو أقرب إلى الخيال... وأبعد من الشك... لكنّني لم أكن أريد أن أفسدَ فرحة ما قرأت فرددْتُ:
- يا جائر...لا تثِر جنوني فأغار من الورود...
كنت قد بدأت أغار من تلك الباقة...بدأت أتساءل أين هي الآن وإلى أيّ مدى قريبة هي منك. تراك؟ تشعر بك؟ هل لامستْها أصابعك؟
كالعاصفة جاءتني رسالتك الأخيرة لتسكت كل الأفكار...
- قبلة على فمك...احلمي بي...
قيل لي مرة إنّ الألم حين يفوق العقل لا نشعر بعدها بألم وأنت في تلك اللحظة كنتَ تفوق عقلي... تخطّيت دائرة التركيز والوعي وما زلت أشعر بك فكيف ذلك؟
تضاعف ما بي من جنون فماذا أفعل؟ هل ألومك على كلمة قبلة فأضع يدي على شفتيّ بعد أن احمرّت وجنتاي أم أقول لك إنّ القبلة التي أيقظت أميرةً نائمة تدخلني غيبوبةً لا استيقاظ منها...أم أتركُ الردّ لعقلي فأصفع وجهَ كلماتك؟
فضّلتُ أن أغلق عينيّ لأحلم...
في الصباح هرعتْ عيناي فورًا إلى تلك الرسالة وقد خلتُ أنّني كنتُ أحلم...لكنّني وجدتُها وما زالت تحتضن كلماتك الأخيرة...
منتشيةً...خرجت من البيت...فاقدة كل تركيزي...أشيائي مبعثرة...في الجامعة كلّ الوجوه كانت أنت...كل الرياح كانت عطرك...كلّ العيون كانت عينيك وما فيها من ابتسامات رمقتَني بها في الليل الماضي...
حين انهمر المطر كنت أنتظر الحافلة للعودة الى المنزل...كنت أبتسم للمطر وهو أنت... كنت أشتاق لهفةَ انتظارِ المساء كما في اليومين السابقين فما من موعد شعرٍ جديد بيننا...
كنت أستحضرك في ذكرياتي...شالك...شعرك...كل ما امتزت به...
تذكّرتُ، ورذاذ المطر ينخر كتفيّ بلطف، حين كتبتَ أنّ ماءَ المطر يحرق...معك حق... أحرقني يومها وأنا أنتظر كلماتك...أحرقني ولن أراك في المساء كي أطفئه...
في السابق كان يحتضنني في ساعات جمري واليوم يحرقني...
كان الشعر فكان اللهب... ولكن هل كان اللهب مدهشًا كما أردتَه؟
حين افتقدتُ سحابك راسلتُك... قلتَ أنّه في مكان ما في العاصفة...هل غادرتني عاصفتك؟ هل جئت تبلّلني...تحطم مواقدي...وترحل؟
للحبّ وجهتان: الأمام والخلف أمّا الغيرة فهي حبّ من نوع آخر.. هي حبّ الذات بوجهة واحدة نحو الخلف. نحن نغار على كثيرين في حياتنا لا لأنّنا أحببناهم بل لأنّنا نحبّ أنفسَنا لكنّنا لا نحبّ سوى واحد بصدق وبوجهتين.. يقلقني أن تكون حبًّا بوجهتين وأنتَ لا وجهة لك سوى الصعود...يقلقني أن أجمعَ في شخصك شوقًا إليك وشيئًا من حبّ قد لا يكون.
تمامًا كمبدأ السقوط الحرّ: أعتزم الهروب منك مرتفعةً بكلّ ما أوتيتُ من سرعة عن أرض ذكراك إلى أن أصلَ إلى القمّة حيث تنفذ ذخائرُ قواي في حضرة الشوق فأسقط عائدةً إليك بالسرعة نفسها، ولَكَم سيفرح صاحب " أسطورة التفّاحة" أنّك أنتَ من يبقيني على هذه الأرض مُذ أصبحَت الجاذبيّة أنت!
لتلك الأسباب أوربّما أكثر أحسست أنّ يومين قضيتُهما معك يستحقان الحديث عنهما على الأقلّ بالنسبة إليّ... لذا كتبتُ هذا الجزء ...
فلتلحقَ الوردة التاسعة بأخواتها... إن رميتَ الثمانية ارمِ التاسعة...صرتَ أنت القدر...تعمّدتُ إرسالَ مسوّدة الأوراق إليك فما عدتُ أريد منها ولو مسوّدة ... قد تصبح يومًا جزءًا من روايتي...بملامحَ أكثر ضبابيّة...لكنّك رغم كلّ ما كان وكلّ ما سيكون تستحقّ أن تكونَ بطل رواية ولكن بقلم مبدعة...لا مبتدئة...وهذه الرواية لو لم تكنْ روايتي...لتمنّيتُها أن تكون... روايتنا...
أوراق الوردة التاسعة لك...ما عدتُ أريدها في غرفتي التي ضاقت بي لفرط ما حمّلتُها والوردةَ من ذكريات حصلت...وابتدعتُها...لن أسألَك عن مصيرها فما عادت لي...علّمتَني أن أحترمَ الملكية ...حين رحلتَ... أرغمتني على الرحيل فما وجدتُ سوى وردة تاسعة كي أعبرَها جسرًا نحو الضفة الأخرى...كل ما هنا صار لك ومنك...ربّما أجد على المقلب الآخر عالمي، وقد قطعتُ المسافةَ ذهابًا وإيابًا بين المهجور من ذكرياتنا والمسكون، تحوّلتُ هباءً، صرتُ سحابًا، لأزورَ عاصفةَ ماضٍ بسماء مجنون...اختلقتُ بدل السبب أسبابًا...حوّلتُ كلّ أخطائكَ سرابًا...وجدتُني أزيدُ عالمَك صوابًا ولا أجني منه سوى الجنون.
لقيتُني كما في الأحلام أنسى ملامحَ وجهك ويبقى لي منكَ ابتسامةٌ مع ذكراك وحروف قد تقرؤها عيونهم ولن يفهمَها سواك...جزء روايةٍ ليس سوى رسالة لك لا أدري كيف أو متى ألقيه بين يديك.
أيقظني هدير سيارة النقل في تلك اللحظة وقبل أن أحمل المظلة وأهم بالرحيل أغلقتُها...
ما عدتُ أحتمي من المطر مذ زارني ذاك الغريب كالعاصفة...
فضّلتُ إبقاء ملابسي كما أرادَها...مبلّلةً...ففي البرد شيء منه وعاطفة...
حتّى ما بقيَ لي من حطب الموقدة خانني... نار موقدتي شوق وجمرها ريح...من أين آتي بالدفء وكلّ ما في السطور أنفاسه...أنفاسه باردة...والدفء جريح...
أتمنّى لسحابك رحلاتٍ سعيدة...