08 أغسطس . 7 دقائق قراءة . 1342
د. عدنان عويّد
طريقة أو أسلوب في التفكير, غير منظمة في سياقها العام.. تسيطر على أذهان الأفراد، فتسلب الفرد القدرة على التفكير المنطقيّ المنّظم، وتوقعه بسهولة تحت تأثير أفكار منتشرة هلاميّة تسيطر عليه حتى يبدأ يؤمن بها، نتيجة إيمان من حوله بها، وهو – أي العقل الجمعي - في حالة أشبه ما تكون بالوباء العقليّ إذا ما أخضعناها للتشريح والنقدي العقليين.
هذا ويعتبر مفهوم العقل الجمعي أحد المفاهيم الأساس عند المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "دوركايم", الذي استطاع من خلال هذا العقل الجمعي أن يقوم بتفسير مجموعة من الظواهر والمشكلات الاجتماعيّة، فالعقل الجمعيّ بالنسبة له يوجد خارج عقول الأفراد, وهو يمارس نوعاً من الهيمنة أو السلطة عليهم من خلال العادات والتقاليد والأعراف و أنماط العيش و التفاعل و التواصل بين أفراد المجتمع. وهذا العقل الجمعيّ في المحصلة يتشكل وفق آليّة نشاط اجتماعي لها سيرورتها وصيروتها المركبة والمتداخلة في سياق تاريخي خارج عن إرادة الأفراد. على اعتبار أنّ الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم إلا أنهم لا يصنعونه على هواهم.
تتوزع المجموعات البشريّة في أي مجتمع من المجتمعات, أو أيّة دولة من الدول, بناء على انتساب كل مجموعة من هذه المجموعات وفقاً لطبيعة عملها ووظائفها واهتماماتها ومرجعياتها الدينيّة والعرقيّة أو الحزبيّة .. الخ. وإذا كان للأسرة والعشيرة والقبيلة, وكذلك للدين وتفريعاته من طوائف ومذاهب من خصوصيات تفرضها طبيعة هذا الانتساب إلى حد ما, فإن التجمعات التي تنتمي للمدرسة والمنظمة والمهنة والحزب والدولة, فغالباً ما تحدد نشاطات هذه المؤسسات طبيعة المجموعات المنتميّة إليها, كأن نجد تجمعات حرفيّة أو صناعيّة أو زراعيّة أو ثقافيّة أو صحيّة أو فنيّة أو سياسيّة.. الخ, وكل مجموعة من هذه المجموعات تنضوي تحت مظلة منظمة أو تجمع خاص بها. مع تأكيدنا بأن كل مجموعة من هذه المجموعات المتأتى عليها, لها عقلها الجمعي الذي يميزها عن غيرها, وأن هذا العقل (الجمعي/المؤسساتي) يميل عموماً إلى التنظيم والمنطق, كونه عقلاً أقرب إلى العقل الأداتي منه إلى العقل الهلاميّ الذي يحكم آليّة عمل وتفكير كل هذه التجمعات في مضمار المجتمع الواحد, وهذا هو موضوع بحثنا.
أي جملة العلاقات التي ينشط فيها هذا التجمع الاجتماعيّ أو ذاك, أثناء إنتاجهم لخيراتهم الماديّة, وما يترتب أو يقوم على هذه العلاقات من قيم فكريّة وروحيّة ممثلة بالعادات والتقاليد والأعراف والمصالح الأنانيّة الضيقة المشبعة غالباً, أو إلى حد كبير بالتناقض والكذب والنفاق والرياء والتزلف والنميمة والوعي الدينيّ النفعيّ المؤسس على قصص وحكايات لصحابة أو مشايخ قد دخلوا في سلوكياتهم الفكريّة والعمليّة عالم الأسطرة والمثاليّة المطلقة في تفكيرها وسلوكها, والتي لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها, الأمر الذي ساهم في إشاعة عالم من الكرامات والأساطير وحتى الخرافات في هذا العقل الجمعيّ. ومع ذلك لا بد لنا من تأكيد مسألة هنا على درجة عالية من الأهمية وهي: إن العقل الجمعيّ تاريخيّ بامتياز, وهو يختلف في تكوينه باختلاف الثقافات. فعلى سبيل المثال، إن الأشخاص في الثقافات الجماعيّة لـ (المجتمعات المتخلفة), يتوافقون مع العقل الجمعي أكثر من أولئك الذين يتواجدون في الثقافات الفرديّة كـ (المجتمعات الغربيّة) التي تركز على الفردانيّة..
وذلك بسبب ركود طبيعة العلاقات الاجتماعيّة السائدة, وخاصة في المجتمعات المتخلّفة, بحيث يساهم هذا الركود في خمول العقل الجمعيّ وترهله, وبالتالي رفضه لكل جديد يمكن أن يهدد ما اعتاد عليه الناس من قيم فكريّة أو سلوكيّة, فتأتي مقولة (هكذا وجدنا أباءنا يفعلون), أو الحلم بالعودة إلى الفردوس المفقود, حاضرة بكل فاعليتها وحيويتها. الأمر الذي يُمَكِنَنَا من القول بأنه عقل يعتمد كثيراً على النقل والامتثال أو الاستسلام لقيم الماضي والتغني والوثوق به.
أي هو أقرب إلى سلوك القطيع, الذي يشتغل على الاحساس المباشر والعواطف والوجدانيات, وشكليات الظواهر الاجتماعيّة. أي يشتغل بعيداً عن قيم ومناهج العقل النقديّ, الذي يقوم بتفكيك الظواهر وتحليلها وتبيان آليّة عملها, وفرز ما هو سلبي أو إيجابي فيها, ومدى التأثير الذي تحدثه هذه الظواهر في حياة الناس ومستقبلهم. وفي المحصلة نستطيع القول في هذا الاتجاه: إنّ العقل غير المنظم, هو عقل يحفز على استخدام الموقف الجمعي من الحياة الذي تغلب عليه روح التقليد، عندما يعتقد الفرد نفسه على أنه شخص مشابه للأشخاص الآخرين من حوله، لذلك هو بالتالي يفضل أن يتبنى ويفهم التصرفات الجاريّة عند هؤلاء الناس.
أي هو عقل يفرض قوته وهيمنته ممثلة هنا بتلك القناعات والمفاهيم والرؤى التي جئنا عليها أعلاه, على أفراد المجتمع بقوة العادة والعرف والمقدس والتقليد, وبالتالي فإن أي خروج من قبل أي شخص عن سلطة هذا العقل (الهلاميّ), هو تمرّد على المألوف الذي سَيُعًرِضُ صاحبه للتعزير أو العقوبة. فالمنكر هنا هو الخروج عن مكونات هذا العقل القيميّة بكل سماتها وخصائصها, بحيث يحق لكل فرد أن يشير أو حتى يواجه أو يحاسب مرتكب هذا المنكر, وذلك انطلاقاً من وجود سند يبرر هذه المواجهة والمحاسبة, إن كان من قبل المجتمع ذاته ممثلاً بأعرافه وتقاليده, أو من قبل النص الديني كما هو الحال في الديانة الإسلاميّة : (من شاهد منكم منكراً فليغيره بيده, وإن لم يستطع فبلسانه, وإن لم يستطع فبقلبه, وهذا أضعف الإيمان).
لا شك أن أهم وظيفة للعقل الجمعيّ في صيغته التي جئنا عليها في هذا المقال, أنه قادر على خلق أحاسيس ومشاعر مشتركة لدى أفراد المجتمع, تظهر بكل وضوح في تقاسم أو تشارك الأفراح والأحزان التي تهم قضايا المجتمع الجمعيّ, بحيث تتحول هذه الأحزان والأفراح إلى جزء من التركيب النفسيّ والخلقيّ للأفراد, يعبرون عنها بعفويّة في المناسبات الوطنيّة والأعياد والطقوس والشعائر الدينيّة, بل نراها تظهر حتى على مستوى الفن, فكم من أغنية شعبيّة تهز كيان المجموع وتجعلهم دون إرادتهم يرددونها ويتفاعلون معها كل التفاعل حزناً كان أو فرحاً.
أمام هذه المعطيات التي قدمناها هنا حول المجتمع القطيعيّ الهلاميّ, تأتي أهمية العمل بكل ما نملك من الوسائل المتاحة الماديّة منها والمعنويّة لدى الفرد ومؤسسات المجتمع ودولته, لتجاوز معوقات تنمية روح وعقل الفرد في المجتمع الجمعيّ الهلاميّ.. أي مجتمع القطيع, مجتمع اللاعقل الحر أوالمبدع. وخلق كل السبل والوسائل التي تمكّن الفرد أن ينسلخ عن هذا المجتمع القطيعيّ ليدخل عالم مجتمع العقل النقديّ والمنطق, علم حريّة الإرادة الإنساتيّة وتحقيق مصير الإنسانيّة ذاته, وفقاً لمعطيات العصر وقضايا الإنسان فيه, وهذا لن يتحقق إلا من خلال وجود قوى سياسيّة وابداعيّة مؤمنة بشعوبها وقضاياها المصيريّة ومصالحها الآنيّة والمستقبليّة تحت مظلة مجتمع ودولة مدنيين أهم أسسهما المواطنة ودولة القانون.
كاتب وباحث من سوريّة.
d.owaid333d@gmail.com