05 يناير . 6 دقائق قراءة . 727
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع
كانت باسمة بأمسّ الحاجة إلى رجلٍ في حياتها، فهي جميلة، شابّة، تضجّ بالحياة والأنوثة، تعشق الجمال أينما وكيفما وُجد، تحتضن عاطفةً تمزّق قلبها وتشغل عقلها، تجتاحها رغبة الارتماء في حضن رجلٍ إلى حدّ الغوص في الأحلام والذّوبان، تشتهي الحبّ والعشق، لكنّها كانت تفتّش عن الرّجل الذي يفهمها ويحبّها وترى فيه صورتها: عفوي، صريح، حنون، غير تقليدي، يؤمن بالمرأة جسدًا وروحًا، ويعشق الجمال ويقدّسه. لم تجده طيلة تسع سنوات. تألـّمت إلى حدّ التفتّت. صرخت مرّاتٍ متعدّدة في قعر رغباتها وأشواقها، فما أسمعت صراخها إلا ّ لعينيها ووسادتها في أحلك اللّيالي سوادًا. كانت تتمنّى أن تطفىء نار أشواقها ورغباتها في صدر رجلٍ دافىء، لكنّها لم تستطع، لأنّها تؤمن بأنّ صدر الرّجل الدّافىء، يصبح باردًا إذا لم يكن فيه قلبٌ مفعمٌ بعاطفةٍ جيّاشة. لم تجد رجلها فأشغلت نفسها بالعمل وبواجباتها العائليّة، لكنّ هذه الواجبات أرهقتها أكثر وأدمت قلبها، فمسؤوليّتها عن شخصين مقرّبين منها يعيشان وسط ظروفٍ صعبة والإعاقة والمرض نصيبهما، زادت من معاناتها، فلجأت إلى إيمانها بالله وتركت مصيرها للأيّام المقبلة.
جافاها النّوم في تلك اللّيلة. غفت بعد منتصف اللّيل بساعة. استيقظت عند الفجر والرّعب يلفـّها لفـًّا. حلمت في نومها. رأت نفسها عروسًا مرتديةً ثوبًا أبيض وجالسةً مع عريسها "رامز" في المكان الذي جلست فيه معه قبل يوم. كانا سعيدين. أتى السّاقي وقد تبدّل شكله في الحلم؛ كان رجلا ً ملتحيًا اقترب منها وراح يسكب القهوة على ثوبها وهو يقهقه. بدأت بالصّراخ. التفتت إلى عريسها فلم تجده. بقي الرّجل على حاله. خافت!.. عادت إلى الصّراخ والبكاء. ظلـّت على هذه الحالة لوقتٍ لم تستطع تحديده. استيقظت أخيرًا من الحلم الكابوس وراحت تردّد "اللـّهم اجعله خيرًا"... "اللـّهم اجعله خيرًا"... شربت بعض الماء. استوت قليلاً فوق سريرها وسألت نفسها: ما الذي أعاده إلى ذهني اليوم؟!.. كانت تقصد الرّجل الملتحي، الذي لا يقلّ عمره عن الأربعين عامًا، والذي عرفته قبل عشر سنوات.
صباحـًا، كانت آثار الحلم اللّيلي قد أرخت بثقلها على المدرّسة الشابـّة. جلست مع أمّها في صالة الاستقبال، وجال الصّمت المطبق حولهما. شردت وهي تفكر في الكابوس الذي اقتحم سريرها ليلا ً، واغتصب ذاكرتها دون شفقة.
في ذلك الصّباح، أعادت عمرها إلى الثّامنة عشرة، إلى ذلك اليوم الذي التقت فيه الرّجل الملتحي. شيءٌ ما في داخلها حثــّها، وسط السّكون المتربّع في المكان، على محاولة تذكّر كلّ شيء، وعلى استرجاع كلّ ثانيةٍ عاشتها حينها. لم يطل تفكيرها. قـُرع الباب. نهضت بثقل وانزعاج. فتحته. تفاجأت!.. صرخت بلطف:
- أستاذ رامز؟!..
دخل الغرفة وألقى عليها تحيـّة الصّباح، فردّت بارتباك، وسألته:
- كيف عرفت عنواني؟
*طلبته من أسمهان. قلت لها إنـّني نسيت بعض الأوراق معك.
- تفضّـل. تفضّل.
دخلا.. اقترب الشّاب من "أمّ خليل" التي بقيت جالسة على مقعدها، وألقى عليها التحيَّة، فردّت بالمثل. لم يخفِ دهشته!.. أدرك على الفور أنّها ضريرة. قالت باسمة له:
- هذه أمّي.
ثم قالت لأمّها:
- هذا زميلي في المدرسة الأستاذ "رامز حَميد".
جلس الاثنان، وساد الصمت. راحا يحدّقان إلى بعضهما بعضًا. مرّت دقيقتان، ثمّ قالت الشابّة مجدّدًا لأمّها:
- الأستاذ رامز حَميد يا أمّي زميلي في المدرسة.
أخبرتني يا ابنتي.
أنهت الأمّ كلامها ونهضت، قائلة:
- ساعديني من فضلك على دخول غرفتي. أستأذن منك يا أستاذ.
وقف، وقال بتهذيب:
*تشرّفت بمعرفتك يا خالة.
وأنا أيضًا.
غادرت الأمّ وابنتها الغرفة، وبقي الشّاب وحيدًا لبعض الوقت. وعندما رجعت الإبنة، سألها:
ما الذي حدث لأمّك؟
تنهّدت وتراخت قليلا ً فوق مقعدها، وقالت:
- أصيبت خلال الحرب.
*أنا آسف!..
- لا داعي للأسف.
تنهّدت من جديد. أخرجت حزنها سريعًا من عينيها ورسمته على وجهها، وقالت:
- كانت في المنزل مع أبي، وأنا في مكان عملي. كنت قد بدأت قبل أسبوع بالعمل في محلٍ للألبسة في منطقة "مار الياس" بعد نيلي الشّهادة الثانويّة. كانت الحرب في آخر عامٍ لها، ولكنـّها كانت من أصعب المراحل وأقساها. يومها تساقطت القذائف كزخـّات البرد في معظم أحياء شوارع بيروت، فأصيب منزلنا بشكلٍ مباشر، وقُتل أبي على الفور، ونقلوا أمّي إلى المستشفى نصف ميتة، بعد أن احترقت. وكما شاهدت، فقد فقدت بصرها.
*أنا آسف لأنّني سألتك وسبّبت لكِ الألم.
- لا بأس!..
مسحت دموعـًا بلّلت خدّيها، وقالت:
- قهوتك سادة، أليس كذلك؟
*قبل القهوة، أرجوك!.. أريد التحدّث إليك. أنا أعتذر عمّا حدث بالأمس. كان يُفترض أن ألحق بك لأعتذر. لا أخفي عنك أنّني اضطربت قليلا ً، ولكن...
قاطعته قائلة:
- هل اضطربت لأنّك سمعت كلمة "مدام باسمة" أو لسببٍ آخر؟
*بصراحة!.. لم أكن أعلم.
- أفضّل عدم مناقشة الموضوع. نحن بالنّهاية زميلين وسنبقى كذلك.
*لكنـّني لا أريد أن نبقى زميلين فقط.
- لمجرّد أنّك عرفت أنّني سيّدة، كنت متزوجة، صُدمت، وتحرّكت فيك كلّ مشاعر الرّجل الشّرقي، فكيف إذا عرفت عنـّي أكثر من ذلك؟!..
احتارت عيناه مجدّدًا وهو يسمع كلامها. صمت قليلاً، ثمّ قال بصوتٍ لم يخلو من الرّجاء:
*لن يشكـّل ذلك أيـّة مشكلة لي مهما كانت، ولا مشكلة أيضًا بأن تعيش أمّك معنا. نستطيع نحن الثّلاثة العيش معًا.
- هذا صعب، فالموضوع لا يتعلـَّق بي وبأمّي فقط.
دُهش!.. عاد القلق يرتسم فوق وجهه. سألها:
كيف؟!..
نهضت. أظهرت له بعض الامتعاض، وقالت بحزم:
- أرجوك يا أستاذ!.. لست مستعدّة للزّواج الآن.
ثم سألته مجدّدًا:
- قهوتك سادة، أليس كذلك؟
نهض بتباطؤ، وقال بصوتٍ منخفض:
- لا داعي للقهوة. شكرًا.
توجّه نحو الباب حزينًـا، فتحه وغادر من دون أن يتفوّه بكلمةٍ أخرى.
أطلّ صباحٌ آخر. كانت قد مرّت سبعة أيـّام على تلك الزّيارة، نفضت باسمة خلالها آثارها وذكريات الماضي، وتحدّت ذاتها كما اعتادت أن تفعل عبر سنوات عمرها، فانصّبت على كتبها تغرف منها أيـَّة معلوماتٍ تفيدها في رحلتها الجامعيّة الموعودة، وأشعلت من جديد ثورتها على الواقع، وأعادت القفل المشبع بالصّدأ إلى بوابّـة قلبها الكبير.
لقد تعوّدت التمزّق والألم. ألفت الوحشة والوحدة. لم تفقد الأمل بحبيبٍ يزيل عن قلبها قفله الصدىء، لكنّها لم تسمح لهذا الأمل بأن ينقلب وهمًا يدمّرها. كانت تدرك جيدًا أنّ بقاءها قويّة هو السّبيل الوحيد لمصارعة حياتها المعقــّدة.
زارتها في ذلك الصباح صديقتها أسمهان. زفــّت إليها بشرى. أبلغتها أنـّها وجدت عملا ً وأنـّها ستتابع التّدريس في مدرسةٍ قريبة من منزلها. فرحت للخبر، لكنّ فرحتها لم تطل. حملت إليها زميلتها القديمة خبرًا آخر.
(يتبع)