11 أكتوبر . 7 دقائق قراءة . 667
كانت السّاعة تقترب من التّاسعة صباحًا، عندما اتّصلت باسمة هاتفيًّا بفريد عطا، طالبةً منه اللّقاء. كان لا يزال في منزله، فدعاها إليه. ذهبت على الفور. جلسا يشربان القهوة. لاحظ الحيرة في عينيها!.. لم تفسح له مجالاً كي يطرح عليها أيّ سؤال. بادرته هي بالقول:
- دكتور، أرجوك أن تساعدني!.. بات الموضوع مسألة حياة بالنسبة إليّ. أريد منك جوابًا صريحًا، أريد أن أعرف أين كنت تقطن في الشّطر الغربي من بيروت في صيف العام 1988؟
*قلت لك سابقًا إنّني لا أريد التحدّث بالأمر، فهذا الموضوع يوتّرني ويقتلني.
- أرجوك!.. هذا الموضوع يعني لي الكثير. قلت لك إنّها مسألة حياة.. حياة أو موت بالنسبة إليّ.
استغرب كلامها!.. حدّق إلى عينيها فرأى في داخلهما إنسانةً تتعذّب. قال لها بحنان:
*هذه ليست المرّة الأُولى التي تطلبين فيها هذا الطّلب، ولا أدري ما العلاقة بين عنوان سكني في تلك الفترة وبين حياتك واستمرارها، لكنّ عينيك تحثّانني على تجاوز آلامي، وإجابتك عن سؤالك.
- شكرًا لك.
قالتها برقّة عبّر عنها بريقٌ في عينيها رسمته دمعتان انحبستا داخلهما، وصوتٌ مخنوقٌ خافت.. قال لها:
*كنت أقطن في منطقة "مار الياس" في مبنى سعيد الصّغير.
- هل هو قريب من مركز البريد؟
*نعم!.. في الشّارع الشّمالي على بعد نحو أربعين مترًا من مركز البريد.
سألته بصوتٍ مرتجفٍ وبعض التوتّر:
- أين هو من محلّ "عصير أبو سعدى"؟
صمت للحظاتٍ وحدّق إليها بتعجّب، فازداد توتّرها. قال لها بعد حين:
*محلّ "عصير أبو سعدى" في المبنى ذاته الذي كنت أقطن فيه، لكنّني لم أفهم بعد سبب طرح هذه الأسئلة، وأيضًا سبب توتّرك!..
- أرجوك دكتور!.. لديّ سؤالٌ واحدٌ بعد.. في أيّ طابقٍ كنت تقطن؟!..
أجابها ببرودةٍ مصحوبةٍ بحزن:
*في الطّابق الثّاني.
قالها وأمعن النّظر إليها. وجدها قد غارت في الشّرود. ساد الصّمت، ومرّت نحو دقيقةٍ والسّكون المطبق يهيم حولهما. بعدها، نهضت وقالت:
- شكرًا.
مشت محبطةً باتّجاه باب الشقّة. لم يفهم أيّ معنىً لتصرّفها، وقبل أن تفتح الباب كي تغادر، مشى بخطى سريعة نحوها. أمسكها بيدها بحنان، فنظرت إلى عينيه برجاء!.. تلاقت العيون عن قرب، فتحدّثت بصمتٍ مفعمٍ بالرقّة. قال لها:
*أريحيني وقولي لي ما بك؟
لم تجبه. اقتربت منه ببطء، وأسندت رأسها إلى صدره. تفاجأ!.. لكنّه ضمّها بلطف، وترك يده ترتاح فوق رأسها. بقيا على هذه الحالة لبعض الوقت من دون كلام. عاد وسألها بعطف:
*أرجوك!.. أخبريني ما بك؟!..
أبعدت رأسها عن صدره، ونظرت إليه وقد ملأ الدّمع عينيها، ثمّ أومأت إليه برأسها إيجابًا، وانسحبت أمامه عائدةً إلى الدّاخل، فتبعها. جلسا، وتركا لعيونهما مجدّدًا شغف اللّقاء. صمت، فصمت، فصمت.. ثمّ تنهيدة أطلقتها الشابّة الجميلة من صدرها قبل أن تطرح سؤالاً آخر عليه. قالت له:
- يوجد في المبنى غرفة سفليّة، أليس كذلك؟!..
*صحيح!..
- ألم تقطن في تلك الغرفة؟!..
انتفض عند سماعها، وأجابها بعصبيّة:
*قلت لك إنّني كنت أقطن في الطّابق الثّاني.
- ألم تكن في تلك الغرفة في العشرين من شهر تمّوز من ذلك العام، اليوم الذي تساقطت فيه القذائف المدفعيّة على المنطقة بشكلٍ جنوني؟
*أتحقّقين معي أم ماذا؟
- ألا تريد معرفة ما بي؟!.. ألم تطلب منّي إخبارك؟!..
*نعم!.. إذا كان الأمر مهمًّا إلى هذا الحدّ، فجوابي نعم!.. كنت في تلك الغرفة في ذلك اليوم المشؤوم.
لم ينهِ كلامه، حتّى شهقت وانفجرت بالبكاء. ذُهل!.. لم يجد تفسيرًا لهذا التصرّف. راحت تبكي وتحدّق إليه وتردّد:
- أنت هو.. أنت الرّجل ذو اللّحية.. أنت يا دكتور فريد..
ثمّ سألته وهي على حالها:
- كنت ملتحيًا أليس كذلك؟!..
أمسك يدها برفق، وقال:
*صحيح!..
- ألا تذكرني؟!.. ألا تذكر تلك الشابّة التي التجأت إليك هربًا من القصف؟!..
دُهش من كلامها!.. حدّق إليها وكأنّه يستكشف شيئًا ما في عينيها ووجهها، ثمّ قال بصوتٍ مرتجف:
*أنت؟!..
- أنا هي.. نعم!..
لم يتركها تتابع كلامها. غمرها بسرعةٍ وشدّة، وراح يبكي هو الآخر من دون أن تتوقّف هي عن البكاء، ولم يعرف الاثنان إلى متى بقيا على هذه الحالة قبل أن يهدآ.
ساد الصّمت المكان. بقيا يحدّقان إلى بعضهما بعضًا لفترة، وكأنّهما لا يصدّقا ما اكتشفاه. لكنّها قالت له بعد قليل:
- عندما تعرّفت إليك في ذلك المطعم في "جونيه"، لم أستطع التأكّد منك، وحاولت كثيرًا بعدها من دون جدوى. لقد تغيّرت كثيرًا.
*المفترض ألا تنسيني. أنا في ذلك اليوم ربّما كنت معذورًا لأنّني كنت مخمورًا. أظنّك اكتشفت هذا الأمر سريعًا في حينها، ولكن ماذا عنك؟
- من المؤكّد أنّك لم تلاحظ في أيّة حالةٍ كنت حينها.
*صراحة. لا.. حتى إنّني لا أذكر كيف حدث ما حدث يومها.
صمت قليلاً، ثمّ سألها:
*لماذا؟.. ما الذي أتى بك إلى تلك الغرفة؟
- لا أدري!.. أنا في ذلك الحين، كنت أعمل في محلّ "صبايا وشباب" للألبسة القريب من مكان سكنك. صاحب المحلّ طلب إليّ الرّحيل إلى منزلي بعد بدء القصف المدفعي بقليل. كانت القذائف تتساقط بشكلٍ متقطّع في منطقة "الحمرا"، ولكن، ما إن خرجت من المحلّ ومشيت باتّجاه "كورنيش المزرعة" كي أستقلّ سيّارة أجرة إلى منزلنا، حتى بدأ تساقط القذائف في الطّرف الآخر من شارع "مار الياس"، وبسرعة، انهمرت القذائف في كلّ مكان، فبدأ الرّعب يلفّني، وكنت قد وصلت إلى المبنى حيث كنت تقطن. دخلته وأنا خائفة كي أحتمي من الشّظايا. اختبأت عند زاوية المدخل. شعرت أنّ قدميّ لم تعدا قادرتين على حملي، فصرت أبكي بشدّة. كان المكان خاليًا. سقطت قذيفة قريبة من المبنى، فشعرت أنّها أصابتني. رحت أصرخ كالمجنونة. رأيت الدّرج الذي يؤدّي إلى الغرفة التي كنتَ موجودًا فيها. اجتزته بسرعة، ورحت أقرع باب الغرفة بقوّةٍ وهستيريا، ففتحت لي، وكنت تحمل كأس شرابٍ بيدك، ألا تذكر؟!..
*لا.. أبدا..
- نظرت إليّ من دون أن تسألني شيئًا. لم أطل النّظر إليك، لأنّ قذيفة أُخرى سقطت بالقرب من المبنى، وكان صوتها قويًّا، فصرخت، ولذت بصدرك كطفلٍ خائف يلوذ بصدر أمّه. ألا تذكر؟!..
*لا.. لا أذكر.
- أنت أغلقت الباب ولم تبعدني عنك. وقعت عيناي على قنّينة "الويسكي" فوق الطّاولة الصّغيرة التي كانت في وسط الغرفة. ركضت بلا وعي نحو الطّاولة وتناولت القنّينة، ورحت أشرب منها بشراهة، علّني أخفّف من خوفي وهلعي. لا أذكر الكميّة التي تناولتها. لم آبه حينها لا بطعمها ولا بحدّيتها. كنت قد شربت "الويسكي" سابقًا مرّتين فقط، في مناسباتٍ جمعتني مع رفاقي في الثّانوية.
*لا أذكر شيئًا من هذا.
- ولكنّك تذكر بالطّبع ما حدث بيننا؟
(يتبع)