28 مايو . 39 دقيقة قراءة . 1512
سهيل فرح
عضو أكاديمية التعليم الروسية
لم يدخل مفهوم العقلية mentalité على الفضاء الفكري الروسي إلا في السنوات العشرين الماضية، بعد أن تحررت روسيا من أسر الفلسفة أو الإيديولوجية الماركسية اللببينية التي حاولت احتكار الحقيقة العلمية ومصادرة المناهج الفلسفية كلها وحصرها في إطار المنهجية المادية التاريخية. فلقد كان مفهوم "العقلية" يوضع في أطار علم إجتماع المعرفة البرجوازي الذي يتناقض مع التناول الإيديولوجي الماركسي لمفهوم العقل والعقلانية والعقلنة والتبرير العقلي وبالتالي مع مفهوم العقلية. فالإيديولوجية في المفهوم الماركسي كانت تشكل الإطار النظري الذي يحتل البنيان الفوقي للطبقة. والطبقة يتحدد حضورها في بنيان المجتمع من خلال ما تنتجه من قيم مادية ومعنوية. في حين إن مفهوم العقلية الذي إشتغل عليه بإمتياز مجموعة من علماء الإنسانيات, وبالأخص الفرنسيين يشمل مجمل انماط التفكير والسلوكيات في هذا المجتمع أو ذاك. فقاموس علم الإجتماع الذي أصدره دار "لاروس" والذي أشرف عليه ريمون بوردن يحدد العقلية "بانها مجمل التوجهات والاتجاهات العقلية والأخلاقية والمعرفية والوجدانية ومعها مجمل الاستعدادات والمواقف والعادات التي تكون مشتركة بين أعضاء جماعة معينة " (1).
هنا المقاربة يتوّسع فضائها لتشمل مجمل ما تأتي به الذهنية الإنسانية من تصورات عقلية ووجدانية وحتى خيالية وما تفرزه من سلوكيات في عالم الدنيا. ويضيف الى تعريف بوردن تعريف آخر قام به بول فوكيه في قاموس العلوم الإجتماعية حيث يقول بأن "العقلية تشمل مجموع العادات الفردية والجماعية في عملية التفكير والاحكام، علماً بانها عادة ما تستبعد، والى حد كبير ، التفكير النقدي لصالح الاحكام المسبقة" (2). في تعريف فوكيه إشارة مهمة الى أن المخزون المعرفي والثقافي الذي تحمله عقلية أي شعب من الشعوب هو العنصر الثابت في تكوين ذهنيتها، وهذا المخزون الذي يفتقد الى الروح العقلانية النقدية، يجعلها أسيرة الى حد ما لأفكارها أو تصوراتها المسبقة وبالتالي للستريوتيبات" أو الافكار المنمطة عن ذاتها الحضارية، وبالتالي عن الذات الحضارية للآخر.
مع تطور العلوم الإنسانية والمعارف الفلسفية أدخل عدد من المفكرين والفلاسفة أمثال فوكو، بياجه، ليفي شتراوس، غوسدروف وغيرهم، إضافات جديدة الى تحديد مفهوم العقلية يمكن إيجازها بأنها المرآة العاكسة للمكان والزمان الثقافي ... وبؤرة تتجمع فيها الدلالات العقلية والمشاهد الفكرية السائدة لدى هذه الحضارة أو تلك.
بهذا المعنى فإن العقلية تتضمن الإرث الثقافي والروحي والاخلاقي والنفسي، بما في ذلك المتخيل الإجتماعي imaginaire sociale لبشر يستقرون في مدى جغرافي معين وفي زمن تاريخي ، وهم من على هذا المدى وفي هذا الزمن يقومون في إنتاج أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم التي تعكس تجربتهم النظرية والعملية في الحياة. وفي هذا السياق يقومون أيضاً في انتاج قيمهم التي قد يتعدل او يتغير البعض منها. فالقيم بهذا المعنى تشكل الخيط الذي ينسج الشخصية الحضارية أو الهوية الثقافية لهذه المجموعة من البشر أو تلك. وهي تشكل بما يسميه البعض "الطابع القومي" للجماعة. والقيم بدورها هي من تلك الظواهر التي لا تخضع للتاثيرات المباشرة أو التحولات الإقتصادية أو التغيرات السياسية التي تجري في المجتمع, فهي تكاد تعيش ما فوق المتغيرات التاريخية. فهي تترسخ في عمق الشخصية الحضارية للشعوب. أو كما يقول غاستون بوتول: "هي جسم من المبادىء والمعتقدات والمعارف الذي يؤلف العنصر الفاعل والأشد مقاومة في الأنا الفردية والجماعية (3).
بهذا المعنى فإن العقلية التي يشمل مفهومها مجمل النتاج الفكري والسلوكي المنمطين ترتبط إذن بقيم الجماعة المنطلقة من زمان ومكان محددين. والجانب المنمط فيها هو دائم الحضور ، ذلك لأنه لا يربط نفسه بمنطقة العقل العلمي في الذهنية الإنسانية التي تطمح هذه دائماً لعقلنته وبالتالي لضبطه ضمن مفاهيم ومناهج ومنطق، بل إنه يسرح في دائرة الرؤية الذاتية لا بل الذاتوية لكل مجريات التفكير والتجارب الإنسانية، ويترك المجال واسعاً للخيال لأن يكون له الدور الملحوظ، وللتصورات النفسية والروحية والميتافيزيقية المكانة الرحبة في النظرة الى الذات والآخر.
أنطلاقاً من هذه المقدمة المنهجية يمكن الحديث عن وجود عقلية روسية لها رؤيتها الخاصة لذاتها ولديها توجهاتها الذهنية والوجدانية والسلوكية، كما إن لديها قيمها او ما يسمى بالجانب الأكسيولوجي الخاص في شخصيتها الحضارية. لذا لاغرابة في الكلام عن ثوابت معينة في هذه العقلية وعن متغيرات تطرأ عليها, تحدث من خلال المتغيرات السياسية والأقتصادية الكبرى التي حدثت في التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر للدولة الروسية. والثوابت تظهر، أكثر ما تظهر، في الجانب الأيماني في شخصيتها، وفي مجموعة من العادات الفردية والجماعية المتعلقة بنظام العمل وبالقانون, وبالعلاقة بالسلطة, وبمنظومة الأخلاق والروحانيات.
فالعقلية الروسية التي هي إبنة زمانها ومكانها الأوراسيين، تكونت تاريخياً من خلال منظومة المعتقدات والسوكيات التي انتجتها مجموعاتها الإتنية والدينية الساكنة عليها. وطوال فترة من الزمن استمرت حوالي ألفي سنة ، فأن هذه العقلية قدمت نفسها للعالم بانها صاحبة شخصية مميزة بمجموعة من السمات الخاصة.
فإلى جانب المدى الجغرافي الخاص والوعي اللغوي الخاص، فإن الجانب الروحاني في شخصيتها تميز بدوره بمجموعة من الخصوصيات والثوابت. ويمكن توصيف تلك الثوابت والخصوصيات في بعض العناوين العريضة التي يطبع كل منها بطابعه حقبة تاريخية في بعض المجالات الأساسية. ففي الفترة ما قبل المسيحية ، غلب على الذهنية الروسية في علاقتها بالمطلق، الطابع الوثني الذي تمثل في مجموعة واسعة من التصورات والطقوس والممارسات التي حددت المعالم الأساسية لعقليتها. في حين غلب الطابع المسيحي – الارثوذكسي على العقلية الروسية الدينية. إمتد ليشمل أيضاً منظومة أخلاقية وثقافية وجمالية وسلوكية حياتية عامة طبع المشهد الروسي بطابعه حتى وصول بطرس الأكبر الى الحكم. هذا الذي اجرى عملية قيصرية على "العقلية" الروسية، فحاول إدخالها في روح حقبة عصر الأنوار الأروبية. وإستمرت العقلية الروسية مراوحة بين موروثها المسيحي الشرقي وبالتالي الوثني وبين موجات العقلانية الغربية، إلى ان دخلت مع الثورة الإشتركية في عام 1917 في حقبة جديدة غلب عليها الطابع السياسي الأممي. وهذه الحقبة التي استمرت سبعين عاماً وتهاوت مع سقوط الإتحاد السوفياتي.
في كل حقبة من الحقبات كان الرمز الذي يتبوأ العقل الحاكم، ينطلق من فكرة واحدة يظن فيها مع الطاقم الذي يساعده بان خياره التاريخي هو الافضل و يحاول بالتالي ان يطبع عقلية الشعب بطابعها لآ بأنها تكاد تكون الاصلح ليس للروس فقط ، بل أيضاً لسائر شعوب العالم. هكذا كان الأمر مع إيفان الرهيب، مع بطرس الاكبر وكذلك مع ستالين. فهؤلاء القادة الذين تركوا بصماتهم القوية على التاريخ الروسي حكموا الديار الروسية بيد من حديد، ومن جهة أخرى إرتبط إسم كل واحد منهم بفكرة "إمبراطورية" معينة لروسيا. الاول أراد أن يحمي فكرة الإمبراطورية البيزنطية، إنما في مظهر وفعل روسيين، والثاني حلم بروسيا امبراطورية قوية ليست في اليابسة بل على ضفاف البحار والمحيطات. والثالث، أراد ان يقيم "إمبراطورية" شيوعية على الكوكب الارضي. والحكام الثلاثة طبع حكمهم "بعظمة الأحلام" ، والمشاريع الكبرى.تلك هي " الطوباويات الكبرى " الروسية. فالشعب الروسي لم ينعم في ظل حكمهم بأي بحبوحة مادية أو إستقرار نفسي وحياتي. فالذات النفسية الروسية كان في ظل حكم الثلاثة، معذبة، مقهورة وكانت كثيراً ما تعوض على هذا القهر في النكوص على الذات وفي الغوص في عالم الروحانيات والميتافيزيقا والطوباويات و الأبتعاد عن المساهمة الحرة و الخلاقة في الأقتصادية والسياسية.
من جهة أبدعت الذهنية الروسية في عالم الروحانيات ومن جهة أخرى أخفقت في أنتاج الماديات ذات النوعية الجيدة. كلما كانت تترك المجال واسعاً للخيال و الوجدانيات، كانت الكثافة الروحية فيها أعمق، والطاقة الإبداعية فيها أشد ممثلة بالأدب والشعر والموسيقى والرقص وحتى العلم و الفكر. تلك هي جدلية المتناقضات في العقلية الروسية.
من الطبيعي أن لا يتفق الروس كل الروس حول أهمية التناغم بين البعد المادي و البعد الروحي في شخصيتهم. فهذه أشكالية من الأشكاليات الكبرى في الحياة الروسية.
المغربنون من الروس لم يثر إهتمامهم الجانب الروحاني أو الاكسيولوجي في العقلية الروسية، ما يهمهم هو الرخاء الأقتصادي والإطمئنان النفسي للمستقبل. لذا عادة ما تكون نظرتهم للذات الروسية فيها الكثير من "جلد الذات" والكثير من الامل والإرتهان الى النموذج الغربي في تخيلاته الفردية والعقلانية والواقعية والبراغماتية، وهؤلاء يصنفون عادة من قبل الروس "الأقجاح" بأنهم من المعاديين للروح الحضارية الروسية ولثوابت عقليتها وروحانيتها وقيمها.
فالمغربنون والمفكر والعالم شفاريفتش . ل. واحد منهم لا يرون الخلاص لعذابات روسيا إلأ في التماهي مع النموذج الغربي. فهو يقول: "لا يمكن للعقلية الروسية التحرر من الذهنية المرتكزة على روح الجماعة وعلى الموروث الشرقي، إلا من خلال بناء المجتمع على الطريقة المطابقة تماماً للطريقة الديمقراطية الغربية المعاصرة" (4).
غير أن الطرح المغربن في روسيا ، ليس بهذه البساطة من الأمور ، فرغم ما يملكه من معطيات واقعية عن الذهنية والسلوكية الروسية، تجعله يقفز فوق "الخصوصية الحضارية" للروس، فإنه يهمل جوانب كثيرة متشابكة لا بل معقدة جداً في التكوين التاريخي للعقلية الروسية .
فالسمات العامة التي تطبع العقلية الغربية والأخرى التي تطبع العقلية الروسية كثيراً ما تخضع للدراسة المقارنة ولإتباع المنهج المقارن بين خصوصيات هذه العقلية أو تلك. وكل خصوصية من هذه الخصوصيات تتطلب دراستها على حدى ولكون البحث يجري هنا حول تحديد مساراتها وعناوينها الأساسية فقد يكون من الأهمية بمكان في هذا السياق توصيفها من خلال الإرتكاز على المعادلة التالية:
قد تطول قائمة المقارنات والتوصيفات التي تحاول تبيان الخاص والعام بين العقلية الروسية والعقليات الأوروبية والهند صينية وغيرها، إلا أن الإستنتاج الذي يمكن الوصول إليه في هذا السياق هو إن العقلية الروسية مزيج فريد من نوعه بين روحانية الشرق كل الشرق وبين عقلانيات الغرب فيها الكثير من الخيال والكثير من التصورات الوجدانية والروحية والمغامرات العلمية والحياتية. وهذا الامر يستدعي التوقف عند بعض من التصورات التي كثيراً ما يدور السجال حول حقيقة حضورها القوي أو الضعيف في العقلية الروس
فالعقلية الروسية التي تحاول ان تحافظ على نوع ما من الإستمرارية والتي تشير الى تمايزها وخصوصيتها في سياق المسيرة الحضارية للشعوب، تظل فعلاً محتفظة بعدد من السمات المرتبطة بسلوكياتها النفسية و بنظرتها في طريقة إدارتها لشؤون الحكم. وحول كل نقطة من هذه النقاط سيكون لنا وقفة معها.
المكونات النفسية والثقافية العامة للعقلية الروسية هي نتاج للموروث التاريخي الذي صنعته الأجيال الروسية منذ اعماق التاريخ من جهة وللتأثيرات الثقافية والحضارية الوافدة الى روسيا من الخارج.
سنستند الى بعض المعطيات الواقعية التي قام بها إختصاصيون روس اكفاء في هذا السياق، وذلك من أجل أن نركب على اساسها بعض التحاليل ويمكن الإعتماد على تجربة واحدة من اعمق الدراسات النفسية التي قامت بها عالمة النفس الروسية كسينيا كاسيانوفا فهي تشير الى عدد من السمات النفسية التي تكونت لدى القبائل السلافية، التي استقرت على الاأراضي الأوراسية، والتي تحولت مع الزمن لتطبع السمات النفسية العامة للروس قبيل إعتناقها المسيحية. وإستمرت بعدها مع أخذ السمات الروحانية للمسيحية الشرقية وبعض السمات الاخرى الآتية من الثقافتين الغربية والشرقية. ولنتوقف عند السمات السلافية القديمة الأصلية وهي:
وهذه السمات النفسية وغيرها ترى فيها الباحثة كاسيانوفا إرثاً تناقلته الاجيال في فترات طويلة من الزمن، إلى أن دخلت في الطبقات العميقة للنفس الروسية. وهذا الذي جعل حراك الإنسان الروسي في المدى الجغرافي الأوراسي يترافق دائماً بحركة جسمانية بطيئة وبتصورات ذهنية فيها خليط واسع من العقلانية واللاعقلانية. كما إن التمركز الى درجة الإنطواء على الذات، أدى بالشخصية الروسية لأن تكون متوجسة الى درجة الريبة والإستنفار الدائم من كل نماذج سلوكية خارجية.
بيد إن العناد كان له دور ملحوظ في إصرار الشخص الروسي الى أن يصل لتحقيق الهدف الحياتي الذي يضعه أمام عينيه. والسمة الأخرى المرتبطة بعدم التسرع واللاإكتراث الى درجة اللامبالاة عادة ما ترافق سلوكية الروس فترة طويلة من الزمن. مما يبدو لأول وهلة وكأن هذا الإنسان لا تعنيه شؤون وشجون الدنيا.
بيد إن تراكم الضغوطات على النفس من الداخل الروسي وخارجه سرعان ما يولد الإنفعال والتمرد الى درجة الإنفجار الذي قد يؤدي الى انتاج طاقة تدمرية. وفي هذه الحالة يطلع من البركان الهامد كل الحجم البركانية من المشاعر ومن الإنفعالات في شقيها المبكي والمفرح.
بعد هدوء الإنفجارات البركانية النفسية، تهدىء النفس وتأخذ فترة أخرى من الزمن لتتكدس طاقة نفسية أخرى محلها وهذه التوليفة لديها القدرة على التحمل وطول الأناة و على أظهار معالم الوداعة و التواضع في لحظات السكينة , في حين ان مخزون الإنفعالات والإنفجارات النفسية من القوة و العنف بمكان بحيث يجعل رصد و فهم السلوكية النفسية للروس ليس بالأمر السهل.
ان التوق للحرية يلحظها الباحثون في سلوك الروس، بيد إن التوق القوي الى الحرية لا يترافق دائماً مع قدرة عقلية ونفسية قوية لتوظيف هذه الحرية من أجل هدف محدد وبناء. علماً بان مفكرين روس يشددون على الطابع الحر للروس الذي لا يقيده حد ولا عقل بارد أو صارم لأن الحرية تنطلق, كما يعتفدون, من دفء القلب الروسي الطامح للتواصل والتماهي مع المدى الطبيعي الواسع الآفاق الذي يحيط به. فالمفكر إيفان إيلين يشير بهذا الصدد: "بأن السكينة القاطنة في قاع النفس الروسية التي تتمثل بحركات وسلوكيات طبيعية وخفيفة وطيبة، مصدرها تواجد الروسي في هذا المجال الجغرافي الواسع الآفاق والقليل السكان... فقلة الكثافة السكانية تحرر النفس الإنسانية من التوتر والقيود... الروسي في الحياة هادىء وفي حالة إسترخاء... وفي الحصيلة العامة فإن في النفس الروسية تسكن الحرية الداخلية ، التي لا تعرف الممنوعات المصطنعة . هو يعيش بلا جهود إضافية... في داخله تنبض الحياة» (6)
المتفاءلون الطامحون لإعطاء صورة وردية للروس، عادة ما يركزون لا بل يضخمون من الجوانب المضيئة في الشخصية الروسية ، ولا بنوقفون بالنقد عند الجوانب الواهنة فيها، في حين أن المتشائمين الذين يمارسون سياسة جلد ذات مستمرة للروس لا يرون في السلوكية الروسية إلا الجوانب الخاملة ، الكئيبة, المكفهرة، القاهرة .
فإيلين الذي يعتبر واحداً من أبرز الممجدين للشخصية الروسية يعتبر بان "الروس في طبيعتهم عمليين وشغوفيين. في داخل النفس الروسية حقل واسع من نقاط التوتر ، قوة التمسك بالحياة، القلب الولهان المليء بالمشاعر، التوق للحرية والإستقلال. من هنا يلمس المرء عند الروسي رغبته الجامحة للإستقلالية في الرأي وفي إتخاذ الخيار الحر الذي يحدده هو بالذات ...» (7)
ويسوق إيلين لرأيه مدعما ايلها بأمثلة من التاريخ و بمجموعة من الإستشهادات التي اخذها من رحالة عرب كإبن فضلان والبكري وغيرها الذين زاروا الديار السلاقية وإمارة روسيا الكيفبة بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر. في مذكرات هؤلاء كانوا كثيراً ما يتوقفوا عند توصيف حالة التوق للحرية عند الشعب الروسي. والكراهية المطلقة للإستعباد. فهم يؤكدون بأن الروس لا يتصالحون مع أي نوع من الخضوع للآخر، حتى بين بعضهم البعض لا يقبلون منطق السيد والعبد... هم شعب طيب القلب ، يتميزون بحسن الضيافة وبالثقة . يتعاملون مع العبيد والأسرى برقفة، بيد انهم ميالون الى اتخاذ الآراء القاطعة. يتكاتفون أثناء العمل. والإتفاق معهم ليس بالأمر السهل ...(8)
ويتابع إيلين واصفاً السلوكية الروسية بأنها في حياتها الدنيا عادة ما يتم التركيز فيها على البعد الروحاني الحر ... فيقول :«نحن نولد وفي داخلنا تولد الحرية، نتنشق نسيمها، نحن بطبيعتنا شعب روحاني والروحانية عندنا لا وجود لها بدون الحرية... بيد أنه لا ثقافة روحانية بدون نظام. لذا فإن النظام هو العنصر العظيم في بناء شخصيتنا» (9)
في حين نرى المفكرة كاسيانوفا التي تطمح لأن تكون موضوعية في دراستها للسلوكية النفسية الروسية، إلا انها عادة ما تتوقف عند نقاط الضعف فيها. فهي تقول بان «الإنسان عادة ما تظهر في سلوكيته «المشاعر غير المنضبطة». الأمر الذي يجعل تلك المشاعر تتحكم فيه، دون أن يستطيع ضبطها وإيقاف شطحاتها عند الوقت المطلوب. ففي لحظات الإنفعال الزائد يبدو صاحبها (وتعني بذلك) الروسي بانه يكون خارج دائرة العقل ...» (10)
في حين وأثناء لحظات السكينة والهدوء فإن «الروسي عادة ما يبدو بأنه شديد النعومة، والصبر والوداعة، وهو مستعد للمعاناة ليس لأن طبيعته كذلك، بل لأن ثقافته المتراكمة مع الزمن تفرض عليه ذلك. وهذه الثقافة هي التي تجعله يسلك دروب التحفظ والتضحية الى درجة التضحية بالذات.علماً بأن طبيعتنا ليست ميالة دائماً الى هذا. نفسه تواقة الى السلوكيات الشديدة الإنفعالات، المترافقة مع المشاعر المنفجرة»(11)
أما فيما يتعلق بالعناد وااللامبالاة وعدم التسرع فهي سمات عادة ما تكون متداخلة، وهي مرتبطة بحالة الإستقرار المادي والإجتماعي والثقافي أو غياب ذلك. ولكون هذه الحالة هي شديدة التقلب والقساوة فإن النفس الروسية تعيش في حالة رحلات دائمة على "مرجوحة" الحياة التي لا تستقر في الوسط ، بل إنها دائمة الحركة إما بإتجاه "اليمين" أو بإتجاه "اليسار".
والعناد المتواجد في الشخصية الروسية الطامح لتحديد هدف بعيد ما، لا يضمن الوصول إليه إلا بعض متاعب ومخاضات طويلة ، قد يضل الهدف ويقع في حفرة الضياع، وقد يفقد الأمل، ويسقط في دائرة الإكتئاب، وقد يهزم في معاركه مع الأعداء في الداخل والخارج فينتكس على ذاته. إلا إن هذه الحالات التي قد تطول مع الزمن، سرعان ما تفاجىء المراقب بأن لا وجود لها. وأن التراكمات المتمردة عليها داخل الذات قد انتقلت الى حالة وجدانية نوعية وظهرت الى النور بشكل معاكس تمامًا كما هي عليه في لحظات الوهن والخمول...
في عداد المفكرين الروس الذين لحظوا سمات الضعف المتأصلة في النفس الروسية الانتربولوجي سيكورسكي الذي درس الثوابت والمتغيرات في الشخصية السلاقية التاريخية حيث يقول: "إن السمات الخاصة التي تحدد العلاقة السلاقية مع الذات والآخر هي عدم الحسم في أتخاذ القرارات، وضعف الشخصية... ويرجعها السلاقيون القدامى الى التخوف من أن يكون للكلمة او للقرار القدرة على التراجع . هذا التوجس كان عادة ما يعكس علاقة الإنسان السلاقي بعالم مشاعره وذهنيته و بمكانة الكلمة داخل النفس، ودورها أثناء إطلاقها عبر اللسان". (12)
دائرة التوصيف للسلوكية هي من الوسع بمكان بحيث يصعب بطبيعة الامر الإحاطة بكل جوانبها.ذلك لأن المسألة تطال مجمل السمات والأنماط والتصورات التي يختزنها الوعي واللاوعي الروسي. فالحديث عن هذا الموضوع لا يكتمل بدون تناول علاقة الروسي بالفكر، بالأخلاق ، بالضمير، بالحق والواجب، بالعدل والظلم، بالخير والشر، بالقبح والجمال وبكل الثنائيات والمتناقضات الحياتية...
بيد إن السمة الجامعة التي تطبع النظرة الروسية السلوكية الروسية هي قوة الحضور الأخلاقي في السلوك والتي قد تناقض الرؤية العقلانية –البراعمانية للأمور. وهذه السمة كثيراً ما يؤكد عليها الباحثون الروس ومنهم المفكر المعروف سرغي كاراميرزا عندما يشير: "إن السمة المتأصلة في الثقافة الروسية هي حضور الضمير الأخلاقي الذي يدخل في اعماق الحياة الروسية"(13).
دخول الروسيا في عصر الإيمان المسيحي الأرثوذكسي، أحدث في شخصيتها مما لا شك فيه العديد من المتغيرات. ولعل السمة الأبرز هي رحجان الميل للروحانيات على الماديات في الحياة، والشعور بوحدة الإنسانية مع الكليانية الكونية.
لقد اتت الأرثوذكسية بسمات طبعت الوجه الديني الجديد للشخصية الروسية – السلافية ، ومعها ركنت الى التوق أو الرجاء الذي يبعث الامل بالأزلية، بالحياة ما بعد الموت. بدت الذهنية الروسية لا تتقيد كثيراً في نظرتها الى الحياة الدنيا بالزمني او التاريخي، بل أنها أرادت أن تُحلق فوق التاريخ، خارج هذا الزمن الدهري الذي تعتبره من صنع بشر خطأة تحركهم الغريزة المتعطشة لإغراءات الدنيا. كما أن الأرثوذكسية في بعدها الفلسفي التائق الى الأبدية، أضافت الى الصورة الروسية للحياة بعداً جديداً للتعلق في النهائيات التي لا نهاية لها.
فالأرثوذكسية وكما جرى الكلام عنها في هذا العمل في أكثر من كلام شكلت الوعاء الروحي ولعله القومي للروس. وهذا ما أشار إليه شاعر روسيا الاكبر الكسندر بوشكين عندما قال: "إن الإيمان المسيحي اليوناني المتمايز عن سابقاته، يعطينا السمة الخاصة التي تطبع شخصيتنا" (14)
فالسمة الأرثوذكسية في الشخصية الروسية، أرست قواعد جديدة للاخلاق وللإيمان بالمطلق وللمحبة وللعلاقة بالجسد والنفس والروح. أدخلت تصوراً دينياً لمسألة المعاناة والألم والخطيئة والمرأة والرجل والغفران والخلاص. وهذا الامر جعل بالبعض من المتحمسين الأقوياء لهذه السمة الروحانية للقول بأن لا دين حقيقي لروسيا إلا الدين الأرثوذكسي ، فبإمكان الروسي الحقيقي العيش فقط إما معها أو أن يكون بلا دين... وهذا قول لا تحبذه فئة أخرى قليلة من السكان الروس، بل يشمل شريحة واسعة من المؤمنين بهذا المذهب.
رغم تواجد مؤمنين بهذا المذهب في كل من اليونان وصربيا وبلغاريا ورومانيا واوكرانيا وإنطاكيا والعديد من البلدان في القارات الخمس ، فإن روسيا تعتبر نفسها الأم الحاضنة للأرثوذكس في العالم. وهي بإيمان أبنائها، عادة ما تعتبر الجماعة الأرثوذكسية العالمية وكأنها متفرعات لها.
في هذا الايمان يتجسد الحضور الروحي المتافيزيقي في اكثف معانيه...وإذا أردنا أن ننظر الى هذه النقطة من زاوية علم النفس الديني، نلمس حضور التعميم والإطلاق والتعلق بالنهايات، يظهر مرة أخرى في النظرة الروسية للإيمان، الشديدة التعلق بالطقوس.
والمخيلة الروسية في هذا السياق عادة ما تقدم أجمل ما في مخزونها عندما تبني الكنائس والأديرة أو عندما ترسم الجداريات والأيقونات داخل أماكن العبادة. كما إنه نادراً ما نجد طقوساً دينية، كما هي موجودة عند الروس. فالقداس الروسي على سبيل المثال يستمر في كل مرة ساعات من الوقت، في حين نرى بان مثيله في الكنائس الأرثوذكسية غير الروسية يختصر إلى الثلث أو الربع من الوقت .
علاقة الروسي بالموت لها بدورها طقوسها وعاداتها المرتبطة بالإيمان الارثوذكسي وهكذا الأمر العلاقة بين الرجل والمرأة. وكلها امور وسمات فيها الموروث السلافي القديم وفيها التأثير الأرثوذكسي. وبقيت هذه المظاهر السلوكية مستمرة وما تزال قوية حتى الآن، رغم دخول روسيا فترة تناهز السبعين عاماً ونيف في الدائرة السوفياتية الملحدة.
بيد إن هذه السمات التي تحضر في عالم الوعي وغير الوعي عند الاكثرية السلافية الأرثوذكسية لا تشاطرها بها القوميات والشعوب الأخرى أمثال التثر والمجموعات التركية أو المنغولية أو اليهودية او الأخرى غير المتدينة. وهذه نقاط خلافية على المستوى الديني تدخل عنصر التباعد بين الروس مما يترك إنعكاسه اعلى التكوين النفسي و الأيماني للإنسان هناك.
هناك سمات أخرى تطبع السلوكية والعقلية الروسية المرتبطة بالأيديولوجيا والافكار ، فالروسي هو شعب الافكار والإيديولوجيات المتنوعة. هو أقرب الى مفهوم الشعب النظري أكثر من مفهوم الشعب العملي . من هنا الأستنتاج العام الذي يقول بأنه خلاق في الخيال و ضعيف في تسيير شؤون و شجون الدنيا المادية. طبعا لهذا الأستنتاج محاذيره . فالروسي معروف عشقه للأرض. ألا أنه وان كان كما يقول الكاتب الروسي اندريه بارتشيف بأنه "إستطاع ان يبني دولة هناك حيث لا يستطيع أحد ان يعيش يها غيره" فإنّه في علاقته بقيم العمل وإدارته لشؤون الدنيا ، يعيش حالات إلتباسات وإنكسارات، نجاحات وهزائم ، تجعل الحديث عنها بشكل مستقل لا يخلو من الفائدة و هذا ما ينوي تناوله في بنود أخرى من هذا البحث.
حيث ان الحديث عن الجانب الاكسيولوجي في الشخصية الروسية بات من الموضوعات "العتيقة" لخطاب العولمة، فإن الباحث عن المساحات المشتركة بين الأمم والحضارات ، يشعر بنفسه وكأنه "غريبا" " يغَرد في عالم غير هذا العالم الذي تسود فيه "قيم" الحضارة المادية الإستهلاكية التي تدعمها المال والقوة والسلطة والمعرفة.
في الحقيقة ان القيم هي من المفاهيم الجوهرية في جميع ميادين الحياة، فهي تمس جميع مظاهر العلاقات الإنسانية لانها ضرورة حياتية للكائن الإنساني، ولانها معايير وأهداف لا بد من وجودها في أي مجتمع، مهما كانت تركيبته ومستوى تطوره. سواء أكان معقلنا" ام منظما". فالقيم تسري في دواخل وعي ونفوس الافراد في شكل اتجاهات ودوافع وتطلعات، وتظهر في السلوك الظاهري والباطني. فالقيم تتعدى الإطار الفردي لتشمل المفاهيم الوطنية والسياسية والاخلاقية والثقافية والدينية.
فالقيم بهذا المعنى، هي من الوسائل المهمة التي تميز بين أنماط حياة الافراد والجماعات. لذا فإن لها ارتباط وثيقا" بدوافع السلوك والآمال والاهداف. ومن هنا لا يمكن الاتفاق مع وجهات النظر التجريبية والداروينية الاجتماعية الغربية التي تصور القيم مجرد انفعالات وتعبيرات صوتية، او كما يقول المفكر الاميركي جون ديوي: "إن الآراء حول موضوع القيم تتفاوت بين الاعتقاد من ناحية بأن ما يسمى بالقيم ليس سوى اشارات انفعالية "emotional epithes" او مجرد تعبيرات صوتية، وبين الإعتقاد في الطرف المقابل بأن المعايير القبلية العقلية ضرورية لأن على أساسها يقوم كل من الفن والعلم والأخلاق، وإن كان ديوي لا يميل الى التصور الأول ولا الثاني، الا أنه يقر بالجانب البراغماتي البحث لنفعية القيم.
صحيح القول أنه بمقارنة القيم يتداخل الذاتي مع الاجتماعي، التطور السلبي مع الايجابي. فالحياة بدورها هي ذاك المزيج من الخير والشر، البناء والهدم، العلم والجهل، اللذة والشقاء، التعاسة والسعادة،الالحاد والايمان. فهذه القضايا ليست سوى في هذه الدنيا، بل هي مسائل وقضايا يجري التفضيل بها بين حال واخرى. فما دام الإنسان يفضل ويستحسن ويرجح هذا على ذاك، فهو يتجه نحو القيم او بالاحرى يهتدي بهدى القيم في سلوكه. وهذا ما حدا بأحد المفكرين الى القول ان دراسة القيم هي "علم السلوك التفضيلي" فكل فعل لكل فرد يمثل تفضيلا" لمسلك على آخر. والمسلك المختار هو الأحسن والأكثر قبولا" وأهمية في نظر الفرد طبقا" لتقديره والظروف القائمة في الموقف او الحالة. فالفرد قد يستعمل قيمة ماطوال سلوكيته الحياتية، يستعملها، كلما أقدم على مسلك ما، او اتخذ قرارا" يفضل فيه مسلكا" معينا" من عدة بدائل. فمختارات أحكامه وموازاناته تنشأ من عدة ممكنات. وقراراته للعمل مسائل دائمة تواجهه باستمرار في كل وقت وفي كل خبرة من خبرات حياته.
فالقيمة، بهذا المعنى، تتضمن معاني كثيرة كالاهتمام والاعتقاد،الرغبة والسرور اللذة والاشباع النفع والاستحسان القبول والرفض المفاضلة والاختيار الميل والنفور كل هذه المعاني تعبر عن شخصية الفرد او الجماعة او الثقافة ولكل شعب حسب تكوينه الاثني واللغوي وتجربته الأقتصادية والأجتماعية والسياسية والجمالية والدينية.
ولما كان الأنسان الروسي يعيش في عالم متعدد الشعوب والأمم والحضارات فإن لثقافته تجربتها الخاصة, نقاط تألقها وضعها نجاحها وفشله. , أختيارنا للعمل الهام الذي نشره رئيس اكاديمية التعليم الروسية البروفسور نيكولاي نيكاندروف في موسكو عام2000,
والذي حمل عنوان " التربية و المجتمع على عتبة الألفية الثالثة " له دلالاته الخاصة لكونه و من باب الموقع العلمي و التربوي الهام في بلاده. فهو يفيدنا في االتعرف على منظومة القيم من خلال ثوابتها ومتغيراتها في التجربة الروسية. في هذا الكتاب يركز المؤلف على منظومة القيم الروسية في اطارها المحلي والدولي ويطرح مجموعة من التساؤلات الكبرى التي شغلت فضاء كلامه وافكاره مثل:ما هي القيم المتنوعة التي وجدت في الديار الروسية في الأزمنة المختلفة؟ ماهي وتيرة الحركة الحضارية في المسيرة التاريخية الروسية، كيف يمكن مقارنتها مع قيم حضارات وثقافات البلدات الاخرى؟ ما هي علاقة القيم في الحياة وفي منظومة التعليم؟ وهل في المستطاع الاستناد الى منظومة التعليم الكلاسيكية في تحقيق مهمات تربية الاجيال الصاعدة؟ وهل في آمكان الشعارات التي يكثر استخدامها في الفترة الاخيرة مثل "الحرية" والديمقراطية"ان تساهم في تحويل الوعي بسلوكيات الرأي العام؟
هذه التساؤلات الكبرى حضرت في الأفكار التي تناولت موضوعات الحياة، الصحة العقلية والجسدية، الطبيعية، الحب والعائلة، التعليم والثقافة، والخدمات. فالامر الذي شغل محور هواجس الكاتب هو "القيم المتعلقة بالانسان الروسي ومجتمعه ودولته" والمنطلقة من رؤية أو خطاب إيديولوجي للمؤلف ركيزته "الفكرة الوطنية الروسية" والتي يراها ممثلة بثلاثية " الارتوذكسية والوطنية والشعب".
في معرض تقويمه للتراكم التاريخي لمنظومة القيم الروسية، يرى ان هناك مجموعة عوامل ساهمت في تكوين تلك القيم، الا أن هناك عاملا" ذاتيا" يراه سلبيا"، تتشكل في علاقة كل منظومة جديدة بسابقتها،وهو عملية الدمار التي تحدث في كل مرحلة اعادة بناء للشخصية الروسية. ولكي يبعد نفسه عن هذا التوجه،يستشهد برأي واحد وهو المفكر والفيزيائي لوباتشفسكي الذي قال في عام 1832 "يتوجب على ذاتنا الروسية ان تحدث الدمار بشيء تم بناؤه، بل المطلوب العمل على انضاج عمليات البناء وتكاملها"
ويبدو البروفسور نيكاندروف محقاً في هذه النقطة لأن الروس في علاقتهم بتاريخهم السياسي والاجتماعي عادة ما يقومون بعمليات قيصرية حادة لتجاربهم فتذهب احيانا تجاربهم الأيجابية مع السلبية الى دهاليز التاريخ المنسية فالكاتب يثمن عاليا كل التجارب الكبرى التي صنعها الأنسان الروسي في ظل النظام القيصري والأشتراكي الحالي ويطل على العصر من النافذة الروسية المنفتحة على القيم العلمية الأيجابية للحضارة المعاصرة التي يحددها بعدد من العناوين التي استقاها من تجارب باحثين تربوين غربيين معروفين وهي القدرة على استيعاب الأراء المتعددة لتحضير العقول والنفوس على تبني هذا الرأي او تبديله اذا دعت الحاجة لذلك. البحث الدائب عن الوقائع والمعلومات الجديدة التي تدعم هذا الرأي وتبتعد عن الرأي الأخر. الأرتكاز على روح دينامية الحاضر والنظرة المنفتحة على المستقبل مع عدم الأرتهان الى ضغوط الماضي. المقدرة على التأثير والأقتناع في المحيط الأجتماعي الذي يوجد فيه الأنسان. الاعتماد على الخطط البعيدة الأمد كما في المسائل المتعلقة بالقضايا الأجتماعية كذلك في القضايا المتعلقة بحاضر الفرد و.مستقبله. الإيمان بالطاقات الواقعية التي تنتجها الذات الإنسانية على مستوى المؤسسات والأشخاص، احترام مقدرات الأخرين، إدراك منطق إنتاج القيم المادية.
هذة القائمة من العناوين الأساسية لقيم الفكر والعمل يسعى الكاتب الى ان يبين حاجة الروس إليها فهو الذي إفتقر الى نظام المساواة والعدالة التي ظهرت في النظام القيصري وتحقق قسما" منها في النظام الأشتراكي, فإنه (أي الروسي) لم يدرك في العمق حتى الأن قيم العمل وقيم الفرد لا في النظام القيصري ولا في النظام الأشتراكي _السوفياتي. فالعلاقة الصحية الناجعة تجمع في شكل خلاق بين المثل الفردية والمثل الأجتماعية.
ولعل في المدرسة الروسية بعض النقاط المضيئة والأيجابية في هذا الميدان فهي التي ربت أبناءهاعلى مبادئ الطموح لقول الحقيقة والعدالة الاجتماعية والمعايير الأخلاقية والأنسانية. والتمكن من معارف العصر. احترام المهارات والطاقات الابداعية، والاستقامة في القضايا الكبرى والصغرى والكرامة الذاتية وصحة الإنسان والمحيط والحفاظ على الطبيعة وإمكان التلذذ بجمالاتها والنشاط الأجتماعي والصحة الأخلاقية للمجتمع. وتثمين خصائص الثقافات الأخرى .وأنستة المسيرة العلمية والتقنية.
على هذه المبادىء تربت مجموعة من الأجيال الروسية كما أن منظومة التعليم الروسية الراهنة كما يعتقد نكاندروف, بصرف النظر عن دخول الوهن في العديد من مناهجها, ما زالت المنظومة الأكثر قوة وصلابة على هذا الكوكب من حيث التحضير المعرفي والأنساني لروادها .
ولكن الكاتب يعتبر روسيا في المرحلة السوفياتية بمثابة الخروف الضال عن الساحة المسيحية والدينية العامة فهو في كتابه يركز على الطبع الروحاني لقيم المجتمع في جوهره الأخلاقي والإلهي والكوني. من هنا يأتي حديثه المستفيض عن ابرز المعاني والمقولات التي اتت بها تعاليم المسيحية والإسلام وسائر الأديان الناشطة في الديار الروسية
هذه المبادىء التي جاء على ذكرها الكاتب 40 قيمة ابرزها:
الأخلاص لمعنى الوجود الأنساني. القدرة على المشاركة في آلام الغير. التعاطف. الشعور بالامل. الشعور بالأمان. اليقين. الرغبة في التواصل. المروءة . قوة الشكيمة, المبادرة. العلاقة الدينامية بالحياة. العدل. الإيمان. الأخلاص. الشعور بروح الزمالة. القدرة على التسامح. حب الصداقة. التهذيب. النفس الأبية. الأندفاج للمساعدة. الشرف. الطمانينة الداخلية. التفاؤل. الطيبة. المحبة. الأصغاء للأخر. الصبر. السلام. الثبات على الرأي والموقف السليم. الأعتماد على المشيئة الربانية. الطموح. التوبة. احترام الوسط المحيط. الشعور بالمسؤلية. القدرة على تنظيم السلوكية الخاصة. القدرة على مبادلة المعروف. الأستعداد للثقة. الرجاء. الحكمة. تقديس الله رب الأكوان. هذه المبادىء على بساطتها وعلى تردادها المتواصل في كل الكتب السموية والأرضية والكلام لنكاندروف " نحن في أمس الحاجة لها الأن في ظل هجوم قيم العولمة الأقتصادية والثقافية التي تعتبر كل هذه المبادىء والقيم كلاما عتيقا مضى عليه الزمن" .
ومن خلال تحليل المؤلف لما يقارب 800 كتاب مدرسي موجه للتعليم في المدارس الأرثوذكسية يلمس وبصرف النظر عن خصوصية المقاربة الروسية الأرثوذكسية لنظام التعليم الديني في روسيا المعاصرة بأن هناك الكثير من القيم والمثل التي تروج لها تلك الكتب تأتي على ذكرها بقية الأديان الأخرى فرغم ارجحية العامل الأرثوذكسي في الوعي الديني للكاتب الآ أنه يثمن عاليا الروح الأخلاقية العالية في الأسلام والبوذية واليهودية وغيرها.
وفي تركيزه على الجانب الديني في نظام القيم وفي منظومة التعليم لا يقلل من شآن التعليم العلماني الذي ساد في الفترات السابقة وإن كان يوجه له بين الحين والأخر بعض الانتقادات لانتقاصه من الروح الدينية إلا أنه يثمن دوره العالي في تربية الأجيال على قيم العدالة والصداقة والثقة والشرف والتضامن الأنساني بين الشعوب والآمم
إلا أن نقطة ضعف الكاتب الأساسية برأينا هي عدم نقده للطابع الأيديولوجي والسياسي الذي هيمن على فلسفة القيم الروسية. فالتجربة اثبتت افتقار تلك المنظومة الى حكمة التوازن بين البعد المادي والبعد الروحي للشخصية الأنسانية. و ألى محاولة إقحام الأيديولوجيا والسياسة في مواضيع علمية بحتة والسعي لطبع كل اوجه المجتمع بلون واحد الأمر الذي ادى الى تخشب الطروحات والمناهج والتطبيقات والى ترهل التجربة لتصل الى الحائط المسدود الذي يعرفه الجميع.
ورغم انفتاح المؤلف الواضح على قيم الحضارة المعاصرة وعلى روح الديانات غير المسيحية فانه يبقى في كل صفحات كتابه متمسكا بالقيم الخاصة للمنظومة التربوية الروسية المتعلقة بفكرة الجماعية والعدل الأجتماعي والأخلاق الأرتودكسية والأحتكام الى حكمة الشعب في تسير شؤون دنياه.
ومهما كان موقفنا القارىء النقدي لبعض اجتهادات افكار المؤلف من هذه النقطة او تلك بالسلب او الايجاب, إلا انه يرى فيها نكهة اكسيولوجية أخلاقية انسانية عامة تستحق التقدير والتعاطف لأن قيم الحضارة الروسية التي يروج لها الكاتب هي من النتاج العالي للحضارات الإنسانية العريقة والفنية في جمالتها وسحرها الحياتي والروحي.
هذه القيم تريدها حضارة العولمة إما في المتاحف لتكون اداة محنطة يسمح فقط للعين ان تتمتع بها من دون ان يتم ضخ ديناميتها وروحها في حركية تجديد حياة الثقافات وإما أن يكون مصيرها كمصير الاثريات التي تحطمت في متاحف بغداد على يد الطغاة المتحضرين في أميركا أو قيم تماثيل بوذا التي تحطمت على يد الطغاة المتاخرين في حركة الطالبان . فالتطرف الذي لا يحترم قيم الاخر ايا كان خطابه ومسلكه هو اب الخطايا البشرية جميعها.
الهوامش
1- Dictionnaire de la sociologie. Ed. Larousse. Paris, p. 144.
2- Vocabulaire des sciences sociales. P.U.F. Paris, 1978, p. 215.
3- Les mentalités. P.U.F. Paris, 1971, p. 30.
4- راجع بهذا الصدد كتابات إيغور شافاريفتش: "المعادون للروس"، موسكو 1994؛ "كيف تموت الشعوب"، موسكو 1996؛ "الروس في زمن الشيوعية"، موسكو 1999؛ "أفكار خاصة حول تاريخ اليهودية"، موسكو 2003؛ "الشعب الروسي والدولة"، موسكو 2004؛ "مستقبل روسيا"، موسكو 2005؛ "لماذا يتحمل الروس"، موسكو 2005 وغيرها.
5- راجع بهذا الصدد بعض أعمال كسينيا كاسيانوفا "حول الطابع القومي للروس"، سانت بطرسبورغ، 1984؛ "يمكن أن نشكل نحن الروس، أمة ؟"، سانت بطرسبورغ، 1994؛ "بعض السمات الإتنية للروس"، سانت بطرسبورغ، 1993. "روسيا في الزمن المعاصر..." سانت بطرسبورغ، 1993 وغيرها ().
6- إيفان إيلين. جوهر وخصوصية الثقافة الروسية. تأملات ثلاث (1941-1944)، موسكو، 1998.
7- المرجع السابق.
8- المرجع نفسه.
9- إيفان إيلين : حول الروسيا، برلين 1934 (بالروسية).
10- كسينيا كاسيانوفا "حول الطابع القومي للروس"، مصدر سبق ذكره.
11- المصدر نفسه.
12- إيفان سيكورسكي. سمات من سيكولوجية السلاف. موسكو، 1895.
13- سرغي كاراميرزا.